بعيدا عن جلبة الأفلام الأحادية المعنى، يمكن التفكير في السينما انطلاقا من معيارين بارزين، وهما سينما الفعل ارتباطا بقضايا المجتمع وتحولاته الفكرية والاجتماعية والسياسية، وسينما المغايرة. الأولى يمكن الحديث عن جمالياتها من خلال فيلم: «Far from the MaddingCrowd» للمخرج الدنماركي توماس فينتربيرغ. حيث تعود الرواية لتجدد سفرها نحو ممكنات الصورة السينمائية ارتباطا بالرواية الكلاسيكية الشهيرة للروائي والشاعر الإنكليزي توماس هاري.
فيلم «بعيدا عن الحشد الصاخب» الطافح بجماليات الفن السينمائي الكلاسيكي يعيد للسينما «الفعل» بريقها بعد الهيمنة الكبيرة للمؤثرات الصوتية والبصرية وتزييف الأداء الفني بالمزاوجة بين الحضور الشكلي للممثل وبين الطابع الأداتي للتكنولوجيا البصرية الدقيقة التي تتوخى الإبهار بدل القيمة الفنية للعمل السينمائي. وفيلم «بعيدا عن الحشد الصاخب» المبني على سحر الحكاية ودرامية الأحداث، وجماليات الحوار، وشاعرية الصورة السينمائية ارتباطا بالمشاهد الخارجية وبتناسق الألوان وتساوق مكونات الحياة في البادية، بيد أن الحضور القوي للمكون النفسي من خلال شخصية غابرييل أوك الثري الذي تعرض للإفلاس، والفتاة الثرية باتشيبا إيفردين المتمردة والثرية في الآن نفسه وما يرتبط بالشخصيتين من دينامية درامية تكون مجمل أحداث الفيلم السينمائي الروائي خاصة في أشد اللحظات الميلودرامية توترا حين تقف باتشيبا حائرة بين حب الثري ويليام بولدوود (مايكل شين) الذي طلبها للزواج بعد أن أغرم بها، والفارس فرانك تروي (تومستوريدغ) الذي ينجح في الزواج منها لكنه يفشل في الحفاظ على هذا الحب بسبب إدمانه للقمار مما جعله يختار الإنتحار كحل نهائي وجعل زوجته باتشيبا تعود من جديد لحبيبها غابرييل أوك. وقد برز الأداء المتميز للممثلة كاري موليغان بشكل واضح في هذا الفيلم الراصد للحقبة الفكتورية بكل عنفوانها وتحولاتها وهو ما عكسته الأحداث الدرامية للفيلم الذي وظف مشاهد تكاد تنتمي للفيلم التسجيلي من خلال التركيز على الرؤية التوثيقية التطابقية Visual contex بما تقتضيه سلطة المضمون الروائي المقتبس، ولم تخلصنا من سطوة اللقطات الثابثة إلا اللقطات الدائرية «خروج الماشية»، «الحريق»،»الطريق» فضلا عن متتاليات (الحب والخيانة والقدر والسخرية) التي ساهمت في إبراز الأداء المتميز لكاري موليغان.
النوع الثاني من السينما، وهو سينما المغايرة، يمكن الحديث عنه باستحضار جزء من فن الذاكرة السينمائية وعلى نحو خاص صاحب التحف السينمائية «ليالي كابيريا، ويوكاشيو، وضوء القمر» المخرج الإيطالي العبقري فيدريكو فلّيني من خلال قولته الشهيرة «أنْ نبدع، يعني أنْ نتذكّر» علاقة الفعل السينمائي كفعل تخييلي بالذاكرة تستدعي مقاربات فكرية لمفهوم الفعل السينمائي والتباسات التخييل في علاقته بالذاكرة ليس بوصفها مخزونا، بل كمؤثر في فاعلية الإبداع والحوار مع ما تشكل في الماضي على ضوء التمثل البصري السينمائي.
رقابة الأنظمة الشمولية
سينما الهامش الأوروبي أو ما كان يصطلح عليه بـ«أوروبا الشرقية» رغم أنها كانت مقيدة برقابة الأنظمة الشمولية الاستبدادية زمن الحرب الباردة، إلا أنها كانت تتمتع بقوة استثنائية جعلتها تنافس أفلام أوروبا المركزية خاصة وأن فرنسا كانت تعيش في وهج سينما «الموجة الجديدة» تزامنا مع اكتساح أفلام القتل والعصابات الهوليوودية. واليوم رغم كمية الصبيب الهائل عبر الانترنيت وتزايد القرصنة لا أكاد أعثر على تجارب جديدة لسينما ما كان يسمى سابقا بـ«المعسكر الشرقي» إلا ما يعرض في بعض المهرجانات السينمائية وعلى نحو خاص مهرجان لشبونة للسينما المستقلة، ومهرجان القاهرة السينمائي.
سينما «المعسكر الشرقي» تخلصت من نزعتها الشمولية لكنها ظلت وفية في كثير من تجاربها المشرقة للمدرسة الواقعية، واستطاعت كبريات استديوهاتها مواكبة التطور الذي تعرفه الصناعة السينمائية على نحو بلغاريا التي تحولت إلى هوليوود البلغارية باستضافتها لتصوير أفلام أو جزء منها من قبيل فيلم «300» للمخرج زاك سنايدر، وفيلم «الدالية السوداء» للمخرج براين دي بالما، وفيلم «كونان البربري» للمخرج المتميز أوليفر ستون. وفي وقت تشهد فيه الصناعة السينمائية هيمنة مطلقة للتجارب السينمائية الهوليودية. وتبرز بين الفينة والأخرى أفلام رفيعة لسينما «المعسكر الشرقي» ودول بحر البلطيق، روسيا وأكرانيا، وآخرها الفيلم البولندي «Ida» للمخرج بول باولكوسكي الذي حضي بترشيح للمنافسة على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، بفضل قوته الجمالية وحبكته السينمائية العاطفية من خلال السرد الفيلمي لقصة الفتاة البولندية اليتيمة أنا ورحلتها للبحث عن عائلتها بعد الحرب العالمية الثانية. وهذه القوة الدرامية بتساوقها مع البناء الجمالي للمشاهد السينمائية والأداء المتميز لآغاتا تريزبوشواسكا، وجماليات الأبيض والأسود تزامنا مع تقنيات الفلاش باك، جعل فيلم «Ida» يتوج بجائزة أفضل فيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان لندن السينمائي في دورته الـ57.
وفي السياق نفسه يمكننا استحضار تجارب سينمائية رفيعة لعدد من المخرجين مثل التحفة السينمائية البولندية «الياسمين» للمخرج جاكوب كولسكي. ويمكن في الآن نفسه استحضار المخرج المجري كارلوي ماك وفيلمه «ايفا» الذي فاز بجائزة أحسن ممثلة ورشح للسعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي الدولي، وفيلم «العذراء» للمخرج اليوغسلافي سرجان كرانوفيتش الفائز في الجائزة الذهبية في مهرجان فالنسيا لسينما البحر المتوسط، وجائزة أحسن ممثلة دور ثاني في جوائز الفيلم الأوروبي. والفيلم الألماني (ألمانيا الشرقية قبل سقوط جدار برلين) «الخروج» للمخرج هاينر كارو الفائز بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين السينمائي. والفيلمي التشيكي»ليسوا ملائكة ولكنهم ملائكة» للمخرج فيكتور جروديسكي.
ورغم الهيمنة الأمريكية على الصناعة السينمائية، لا تزال تجارب الهامش الأوروبي أو ما كان يصطلح عليه بسينما» المعسكر الشرقي» تؤكد قدرتها على مواكبة التحولات السياسية والمجتمعية وصناعة التميز بالخروج عن المألوف السينمائي في المحكي السينمائي وآليات إنتاج المعنى الفيلمي عبر الصورة، وحركيتها المشهدية.
عبد السلام دخان