أفكر بالرجل الذي ابتكر مسرح العرائس كيف قام بربط الخيوط وحياكة الملابس للدمى وخلق الحوارات المضحكة في ما بينها ترى كم كان يشعر بالوحدة؟
يحرّك دماه ويبتهج لابتهاج جمهورها..
ينطق بأصوات مختلفة ويروي الحكايات نفسها والنّاس من حوله لا تراه بل ترى دماه.
هو الذي خاط الدمى بنفسه، وركب لها عيونا سوداء لا ترى، وصنع لها أقدارا يتحكم بها من خلال خيطان رفيعة، لا أحد يراه. يتسع جمهوره وهو ينتقل من مدينة إلى مدينة، ومن قرية إلى قرية، ولا أحد يهتم به، ولا بقدره، فقط أقدار الدمى تسرق النظر من العيون وتخطف الأنفاس وتجلب قهقهات الفرح.
منذ قرون والعرائس فن لا يموت، تكبر الشاشات وصالات العرض، يولد نجوم من كل بقاع الدنيا، والدمى لا تموت، وأراهن إن استقبلت المسارح عروض العرائس لما أقفلت أبوابها.. وعلى ما يبدو فإن الإنسان بحاجة إلى دمى في حياته. دمى لتسلية أولاده، ودمى أخرى ليخيط ثيابه، ويبدع في أنواعها وأشكالها، ودمى من بني البشر تلبي رغباته وتنفذ ما يريد بدون رفض أو احتجاج ولعل فكرة مسرح الدمى جاءت من هنا.
ربما أقول من يعرف؟
ثم في لحظات غيضه وضعفه لتغيير واقع ما يحتاج هذا الإنسان لمن يمثله من دون أن ينتهي به الأمر إلى حبل المشنقة، قامت الدمى بهذا الدور وسط القهقهات الغريبة للناس. منذ آلاف السنين اخترعت عرائس المسرح، ودمى الماريونيت، وشخصيات الظل وانبعثت الحكايات بحرية لتملأ الآذان والقلوب المتعبة. ويبدو أن أول فن احتجاجي ولد من هنا، وإلا لماذا احتاج الإنسان لدمية لتقول ما يريد؟وفرضيتي ليست فريدة من نوعها فعمر الدمى على المسرح، سواء في شكل عرائس أو شكل ماريونيت جد قديم يقاس بآلاف السنين قبل المسيح.
أما ما هو قريب فنراه على بعض قنوات التلفزيون حيا ومتطورا، بعض هذه الدمى أصبحت تمثل رؤساء دول ووزراء وشخصيات سياسية ذات «زيطة وزمبليطة» …
أما العروض التي تستخدمهم فهي في غاية السخرية. وعلى هذا الأساس الدمى على المسرح موجهة لكل الفئات العمرية، وتشعبت أهدافها، منها ما استخدم لكسب الرزق، ومنها ما استخدم للتمرد على السائد ومنها ما استعمل للتعليم وأمور أخرى.
لكن في الحالات كلها يبقى السؤال العصي لماذا لم تمت الدمى؟ لماذا لم تنسف بها التكنولوجيا أو الحروب أو التحريم القائم على الدين أو السياسة؟ لماذا صمدت هذه الدمى وهي تتحرك بأيدي صانعيها وتنطق بألسنتهم؟
منذ سنوات وهذا الأمر يخطر ببالي حين تعلقت بالدمى التي كانت تهدى لي. حين أدركت أن الدمية يمكنها أن تكون رفيقتي، أو هذا هو المقصود من إهدائنا دمى في صغرنا لتقدم لنا الدعم النّفسي الذي يعجز الكبار عن تقديمه لنا كتعويدنا على النوم لوحدنا في غرف فارغة ومعتمة حين نغادر غرف الأهل. من لم يثرثر مع دماه؟ من لم يتعامل معها وكأنها كائنات حية؟ حتى إن كانت دمى البنات جميلات ومتأنقات ودمى الذكور أبطالا ومقاتلين فإن الثرثرة واحدة. وحين نكبر نتوقف عن محادثتها ولكننا لا نتوقف عن حبها. وبدل أن ننهمك في محادثتها كما حين كنا أطفالا، نستنطقها لتقول ما لم نستطع قوله، ثم لماذا تنطلي الحيلة علينا ونصدقها؟ سر تلك الدمى لم يكشف أبدا. دفن مع أول دمية وقفت على المسرح وواجهت الجمهور لوحدها.
في كتابها «قصّة حياتي» الجزء الأول تسرد جورج صاند حكايتها مع دماها وتعتبر إهداء الدمى للأطفال طريقة بشعة ومتوحشة لتسليتهم. ومن منظورها تشرح أن الدمية تفجّر مشاعر خاطئة لدى الأطفال، مثل مشاعر الأمومة لدى طفلة، وتحدث خللا لدى الأطفال للتفريق بين المتخيل والواقع. وقد حاولت أن أتوسع في الموضوع وأقرأ عنه لدى كتاب آخرين، ولكنني لم أجد شيئا يبلغ وجهة نظر صاند، إذ حتى سيغموند فرويد أعطى تفسيرا مغايرا لما قدمته صاند عن تجربتها الشخصية وما تملّكها من مشاعر.
ولا أدري في حالة كهذه هل نصدق صاند التي رمت دميتها وثارت ضد كذبة الدمية التي لا عقل لها ولا إرادة، ولا حتى نبض حياة؟ أو نصدق فرويد الذي غاص في النفس البشرية وبنى أسس علم النفس واستخلص أن الدمى حاجة وضرورة في حياة الإنسان حين يحدث شرخ ما في العلاقة بين الطفل والأهل، وتحديدا في مدى حفاظ الأهل على أسرار أبنائهم الصغيرة ومدى تفهمهم لمتاعبهم وأخطائهم.
الطفل الذي يلجأ لدميته ليعترف لها بأخطائه ولا تعاقبه تعويض لأهل قساة لا يقدرون قيمة ذلك الاعتراف. إنه فرويد الذي قدّم الأجوبة المبكرة لسلوك الإنسان بمختلف أنواعه، وهو نفسه مفهوم فيكتور هوغو الذي جعل في دمية كوزيت العالم الذي حلمت به من ثراء وجمال وطمأنينة. فقط بالإمكان الوقوف على حقائق عظيمة من خلال تفصيلات صغيرة قدمها الأدب.
الآن سيبدو لنا الأمر أكثر اتضاحا وسنفهم أن مخترع عرائس المسرح كان وحيدا. لكن وحدته لم تكن متعلقة بكونه لا عائلة ولا رفاق له، إنّها تلك الوحدة القاتلة حين لا يفهمه أحد.
رسم دميته بنفسه وصنعها على هواه، وصنع لها قفازا ارتداه في يده وبدأ يحرّكها ويثرثر معها فإذا بها ترد عليه وتفهم أعماقه، وتصغي إليه، وتفكك أسباب حزنه، وتهمس له بمحبة أنه ليس وحيدا. وحتى حين تنعكس الأدوار وتخرج الدمية ما في قلبها للعلن وتبوح لصانعها بما عانته وقاسته في الدنيا وهو يتفهم ويصغي لحديثها، فإن الرسالة التي يرسلها للجمهور حوله هو أن ذلك ما يتمناه أن يحدث، يريد من يفهمه حتى لا يكون وحيدا.
وفي هذا التفسير الصغير يتكشّف لنا مفهوم جديد للوحدة مبني على الأعماق التي تعاني وليس على الجسد المحاط بكل أنواع البشر.
وسواء كان جمهور عرائس المسرح مثل كوزيت أو مثل جورج صاند في مدى تجاوبه معها وإطلاق سراح مخيلته بحضورها، أو رفضه التام لفكرة تصديقها، فإن فكرة مواجهة الدمية لذلك الجمهور مبنية على هشاشة الإنسان نفسه، كونه ليس كاملا، وليس بمقدوره أن يستوعب كل شيء بدون الاستعانة بالآخر، كما لا يمكنه أن يقف وحيدا في مواجهة العالم. لا وجود لسوبرمان، ولا للسيدة الخارقة التي يطالب بها الإنسان المعاصر. لكل شخص منا عطب ما يصيبه في الداخل ويجعله بحاجة لمن يمسك بيده حتى إن كان دمية. وهذا ما يفسر صمود أقوى فنون التمرد في وجه الزمن.
أدخلوا أي مسرح للعرائس وستكتشفون بهجتكم المفاجئة، وكأنّكم التقيتم صديقا قديما.. إنه سر الدمى العجيب.
وكل سنة وأنتم بألف خير.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
* أنا اميل لرأي فرويد ان ( الدمى ) ضرورة
لعالم ( الاطفال ).
* أما لماذا دامت سنوات طويلة فهي لأنها ( دمى )
وكل طرف يحركها كما يشاء وعلى هواه..
سلام
تحياتي : والله أنا مع تعليق السّيد سامح المحترم من الأردن الهاشمي العربيّ ؛ رغم عفويته الصادقة إنما فيه لماحية ولوذعية خصوصاً قوله :
( لأنها دمى وكلّ طرف يحرّكها كما يشاء وعلى هواه ).وهذا يتطابق مع بعض الأمّعات من الذوات والمؤسسات والدويلات ؛ التي هي
الأخرى دمى ولورفعت رايات خفاقة البنود رغم أنف فرويد لأنّ ( كلّ طرف يحرّكها كما يشاء وعلى هواه ).أما التي ترفض أنْ تكون دمى ؛ ينالها الدم بتلفيق تهم شتى.أحياناً الدمى تؤدي وظيفة تتفوق على الحقيقة كالكمبارس…والخشية من أنْ ينعكس إحساس الدمى الأخرس على إحساس الفتيات الصغيرات فيبقينّ دمى لا عرائساً طوال العمربين الناس.
*حياك الله اخي الدكتور جمال البدري وبارك الله فيك.
سلام