عزل جماهير الفلسطينيين العرب في اسرائيل، عن بقية المجتمع اليهودي المسيطر فيها، هو قرار اسرائيلي. وهو القرار المؤسس لكل ما تلاه، وما يتلوه حتى الآن، من تمييز عنصري اسرائيلي، عانت منه تلك الجماهير، من حاملي بطاقة الهوية الاسرائيلية، وما زالت تعاني، بوتائر مختلفة ما بين اقسى انواع العزل والتضييق والاخضاع لقوانين واجراءات عنصرية تمييزية، على مدى عقود، وما بين تسهيلات نسبية في ذلك، «شبه ملموسة» احيانا.
هذه السياسة العنصرية الاسرائيلية، كان من المفترض ان تعاقب اسرائيل عليها. كان، وما زال، من مصلحة الفلسطينيين الوطنيين الصادقين، والقوميين العرب من مسلمين ومسيحيين حقيقيين، بكل طوائفهم، فضح هذه السياسة، والعمل والدعوة إلى استنكار المجتمع الدولي لها، وايصال ذلك حد العمل والدعوة والطلب إلى نبذ وجود دولة اسرائيل ذاتها، اسوة بما عوملت به دولة جنوب افريقيا ايام حكومتها العنصرية، ان هي استمرت في انتهاج واقرار وتبرير هذه السياسة العنصرية، ضد 20٪ من حاملي بطاقة الهوية الاسرائيلية.
ان الدور الاساسي المنوط بهذه الجماهير الفلسطينية في اسرائيل، هو التحالف مع قطاعات واسعة معتدلة وعاقلة في المجتمع اليهودي الاسرائيلي، الذي يحتكون به يوميا في شتى مناحي العمل والحياة، لكسر شوكة اليمين اليهودي العنصري الاسرائيلي الحاكم، وازاحته من مواقع القرار، ووقف شروره التي يعاني منها الفلسطينيون في اسرائيل، كما يعاني منها كل الفلسطينيين الآخرين الواقعين تحت الاستعمار والحصار الاسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، واكثر منهم ملايين الفلسطينيين في دول اللجوء والشتات.
لا اعتقد بوجود عاقل يشكِّك في اهمية ومنافع تنظيم الجماهير الفلسطينية في اسرائيل، لاحتجاجات واعتصامات ومظاهرات ضد ما يعانون منه هم وشعبهم الفلسطيني ، من سياسات اسرائيلية عنصرية. لكن ذلك لا يمنع ان نعرف ونعترف بحقيقة واضحة، ان وزن وتأثير مظاهرة عربية، يحتشد فيها عشرة آلاف عربي في اسرائيل مثلا، لا تعادل وزن وتأثير مظاهرة مختلطة، يحتشد فيها الفا متظاهر عربي ويهودي. ونفس القاعدة تنطبق على أي نشاط مشابه. دون ان يعني الامر امتناع الفلسطينيين العرب عن ممارسة كل اساليب النضال المشروعة، ما لم يكن يهود بين صفوفهم.
رغم سطوع ووضوح هذه القاعدة، التي يجدر بنا العمل بموجبها، خدمة لمصالح الفلسطينيين في اسرائيل في نضالاتهم العادلة ضد التمييز العنصري الذي يعانون منه، وضد الاحتلال والحصار للفلسطينيين، فاننا نلاحظ بالم، وجود بعض القيادات لتلك الجماهير تبرر لليمين الاسرائيلي العنصري، قراره بعزل الفلسطينيين في اسرائيل، ومحاصرة مدنهم وقراهم، وجعلها اشبه ما تكون بغيتوات معزولة، محرومة من الكثير من الحقوق المتوجب على السلطات تأمينها لجميع المواطنيين، دون أي تمييز.
هذه القيادات التي تنظِّر تمجيدا للانعزال، لا تخدم المصالح الفلسطينية المطلبية، ولا المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني. هذا التمجيد للانعزال يخدم اساسا صاحب قرار العزل: اليمين العنصري الاسرائيلي. ولذلك فان من اولى واجبات القيادات العاقلة، والجماهير الفلسطينية في اسرائيل، نبذ التنظير والتبرير للانعزال، وتعرية مواقف الداعين اليه، ورفض ادعاءاتهم، وفضح حقيقة ما تنتجه هذه المواقف والتصرفات الحمقاء المدّعية الوطنية والقومية والتّديُّن، من دجل واصطياد في مياه عكِرة اساسا، زادوها تعكيرا، وما «اصطادوا» الا نفوسا ودماء بريئة لشباب وصبايا فلسطينيين.
الانعزال والابتعاد والرفض لليمين العنصري اليهودي الاسرائيلي شيء، والانعزال عن كامل المجتمع اليهودي الاسرائيلي شيء آخر. ليس جميع افراد المجتمع اليهودي في اسرائيل «صورة طبق الاصل» لنتنياهو او ليبرمان او غيرهما من عتاة العنصريين الاسرائيليين. وواجب كل وطني فلسطيني صادق ان يرفض بالكامل وضع ستة ملايين يهودي في اسرائيل في سلّة واحدة، لأنهم ليسوا كذلك اولا، ولأنه لا مصلحة لنا اساسا في ان يكونوا كذلك.
من يفعل ذلك يقدم خدمة مجّانية لمصالح اسرائيل العنصرية، عمليا، وسياسيا، وإعلاميا دعائيا، على صعيد المعركة المستمرة والمحتدمة بين اسرائيل وفلسطين، بين العرب والحركة الصهيونية، بين الإسلام المعتدل، والمسيحية المسالمة رافعة شعار المحبة والتسامح من جهة، ومن اتوا غازين لفلسطين، «مدجّجين» بـشهادة «طابو» مزوّرة، بتوقيع الله سبحانه وتعالى، شخصيا، تعطيهم حق ملكية «ارض اسرائيل».
في الحرب كما في السياسة. لا يمكن احراز النصر في أي معركة او حرب شاملة باعتماد الدفاع كمبدأ وكعقيدة قتالية. النصر مشروط بالهجوم. ولا يمكن في السياسة احراز الاهداف الشخصية الخاصة، ولا الاهداف الوطنية بردود الفعل. احراز الاهداف مشروط بالمبادرة.
من هنا فان المصلحة الوطنية، تستدعي ان تعتمد القيادات الواعية للجماهير الفلسطينية العربية في اسرائيل، سياسة المبادرة على صعيد المبادرة لبناء تحالفات مع احزاب اسرائيلية معتدلة غير عنصرية، والسعي لتشكيل حزب او احزاب عربية يهودية تلتزم بنبذ عزل الفلسطينيين في اسرائيل، ونبذ العنصرية، وتلتزم بتطبيق المساواة، وانهاء الاحتلال والحصار للضفة الغربية وقطاع غزة، وحل قضية اللاجئين حلا عادلا يعيد لهم حقوقهم وفق ما جاء في المبادرة العربية للسلام التي اقرتها القمة العربية في بيروت عام 2002.
ليس من مصلحة الجماهير الفلسطينية في اسرائيل، انتظار بدء الحملة الانتخابية للكنيست (البرلمان) الاسرائيلي المقبل، لاطلاق مثل هذه المبادرة الفلسطينية العربية. وفي اعتقادي ان العمل على هذه الجبهة هو ما يمثل بدء السعي الجدّي لتحويل كتلة الـ 20٪ من اصحاب حق الاقتراع في اسرائيل، إلى كتلة ذات وزن وتاثير في السياسات الاسرائيلية كافة، على اصعدة المساواة وانهاء الاحتلال، واحراز الهدف الفلسطيني الوطني المركزي، في هذه المرحلة، المتمثل في اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة عمليا، على ما تم احتلاله من ارض فلسطين عام 1967، وبدء العمل للمراحل المقبلة، من ضمان الديمقراطية في الدولة الفلسطينية، والسعي لبناء اساسات صلبة للتقدم العلمي والازدهار الاقتصادي والاستقرار، وصولا إلى اللحاق بركب العصر.
لقد تأخرنا إلى ما فيه الكفاية، ويزيد. آن لنا ان نبادر. وعلى غرار ما قاله الزعيم الصيني الراحل، ماو تسي تونغ: «رحلة الالف ميل، تبدأ بخطوة واحدة».
٭ كاتب فلسطيني
عماد شقور