معركة حامية لكنها منضبطة، شرسة لكن بهيجة، متعِبة وممتعة في آن. أي تجاوز لقوانين المعركة يُعاقَب عليه، أي مخادعة أو تسلل أو عنف جسدي أو غش أو ما إلى ذلك، فإن القاضي/الحَكَم بالمرصاد لكل المخالفات.
هناك لوائح/ قوانين دقيقة، وحَكَم/ حاكم عادل، وجمهور/ شعب يقظ، وروح رياضية/ ديمقراطية، تقبل بنتائج ساعة ونصف الساعة من الأداء، من دون أن تنزل إلى الملعب/ أرض المعركة، لتغير عدد الأهداف/ الأصوات في المرمى الذي يقابل صندوق الانتخابات. وإذا أخطأ الحَكَم/ الحاكم فإن فوقه سلطة الفيدرالية الدولية، التي تماثل سلطة البرلمان، والفيدرالية نفسها إذا لم تنضبط، فإن «محكمة التحكيم الرياضي» التي توازي محكمة الجنايات الدولية تظل فوق الجميع.
لو طبقنا قوانين اللعب على جوانب حياتنا الواقعية المختلفة لكنا اليوم نربح بتسجيل الأهداف، بغض النظر عن نوعية المرمى الذي تُسجَل فيه تلك الأهداف، وبغض النظر عن نوعية الأهداف، ما دام أن الفريق الفائز ينال الميداليات الذهبية، فيما الذي لم يفز لا يحرم من ميداليات أخرى، وفي الحالين يحصد الجمهور متعة لا توصف.
في المونديال، تفوز فرنسا على بلجيكا- مثلاً- لكن بروكسل لا تُمسح من على الخريطة، وتنهزم روسيا العملاقة أمام كرواتيا، وهي الدولة الصغيرة التي كانت جزءاً من دولة تابعة لموسكو، لكن روسيا تنسحب بسلام، من دون أن يهدد الجمهور بقلب الملعب على اللاعبين، رغم أن الملعب ملعب ملعبه، والدولة دولته.
إنها لعبة لكنها محكومة بقوانين جادة لا يمكن التلاعب بها، في الوقت الذي تُرك فيه ما هو جدي محكوماً بقوانين يتم اللعب بها وتحويرها.
يقول المهتمون بدراسة «كرة القدم» إن الخلفية التاريخية لطريقة اللعب في مباريات الكرة الحديثة ترجع إلى أساس عنيف، ويقال إن أول من لعب هم الصينيون، لكن اللعبة بشكلها المعاصر بدأت في إنكلترا سنة 1061، عندما احتفلت قبائل الإنكليز بهزيمة الغزاة من القبائل الإسكندنافية الدنماركية، على السواحل الشمالية الشرقية للجزيرة البريطانية، وكانت الطريقة المثلى للاحتفال تتمثل في قطع رؤوس جثث الدنماركيين، وركلها بالأرجل، تماماً كما تركل كرة القدم اليوم بين فريقين. ولئن صحت الرواية فإن لعبة كرة القدم تعكس المستوى العنيف للصراع الدموي الذي حاول الأقوياء مع مرور الزمن أن يحوّلوه إلى فن ومتعة وتهذيب للأخلاق، واحترام لسيادة القانون، والعدالة والمساواة والشفافية والروح الرياضية، التي نقلها العالم من حياة الجِد الى حياة اللعب، على حد تعبير الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي رحمه الله.
تطورت اللعبة – إذن- من ركل رؤوس بشرية إلى ركل كرة مطاطية، ومع الزمن ضغط الأقوياء صراعاتهم الغرائزية في ملعب بعشب أخضر، وبحثوا لما فاض من غرائز الصراع لديهم عن ساحات معارك قصية، في الجغرافيا الرخوة للعالم، بعيداً عن حدود الجغرافيا القوية، ومع الزمن قسم الأقوياء العالم إلى ساحتين لتفريغ غرائز صراعاتهم: واحدة يتفرغ فيها الصراع عن طريق كرة القدم، وتقع – غالباً- ضمن حدود هؤلاء الأقوياء، وأخرى يتفرغ فيها صراعهم الغرائزي عن طريق «كرة النار»، وهذه الساحة تقع – غالباً- ضمن الحدود الرخوة البعيدة عن «المركز الغربي المقدس». نقل الكبار- إذن- مبارياتهم الخشنة إلى أرضنا، نحن خاصرة هذا العالم الرخوة، وهي المباريات التي أورثت دماء ودموعاً ومدن أشباح، لأن اللعب فيها كان على طريقة فرسان القبائل البريطانية، الذين ركلوا رؤوس الدنماركيين المقطوعة، في مباراة أو معركة رهيبة جرت على الساحل البريطاني ذات يوم من عام 1016. وفي الوقت ذاته، ذهب هؤلاء الكبار يبحثون لحروبهم الناعمة عن ملاعب بعشب أخضر، تركل فيها كرة مطاطية تورث متعة النفوس ولياقة الأجسام، ومليارات الدولارات.
نحن ـ إذن- أمام مونديالين روسيين: الأول على الطريقة الروسية/الشرقية التي سددت فيها موسكو أهداف دمار شامل في شباك مدينة حلب، والثاني على الطريقة الروسية/ الغربية الذي سددت فيها زغرب هدفاً مدمراً في شباك موسكو، التي خرجت رغم الخسارة بربح نقدي وسياسي ومعنوي عالمي كبير. هذه هي فلسفة «اللعب» الدولي بشقيه الكروي والعسكري، حيث اجتهد الأقوياء لتهيئة بيئات رخوة تدفع إليها بصراع الغرائز الذميم، وبيئات أخرى محصنة إلا من ركلات «جمالية» للاعبي كرة القدم في المونديالات.
وبنظرة عجلى إلى مدن الأشباح في حواضر العرب المدمرة في سوريا والعراق واليمن، ونظرة أخرى إلى ملعب المونديال الروسي، تنفتح أمامنا الهوة السحيقة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، التي تعكس الفرق بين ميدان فيه عشب أخضر بلون الشباب، وساحة فيها رصاصة أرجوانية بلون عمر يقترب من نهايته، وهذا هو الفرق بين اللعبتين، بين الجغرافيتين، بين الكرة والرصاصة، بين الحَكَم والحاكم، بين اللاعبين والجنود، بين كرة المطاط وكرة النار، أو بين الفيفا ومجلس الأمن الدولي.
ولأن الرعاة الذين صمموا وضعاً كهذا يدركون أن الصراع العنيف حتمي، أعدوا له جغرافيا محددة، وثقافات معينة، فيما ذهبوا يحصنون خرائطهم ضده، بنشر ثقافة الشراكة والديمقراطية وحكم القانون والحلول السلمية، والأدهى من ذلك أنهم بعد أن سعوا بشكل محكم لنقل صراعاتهم إلى البيئات الرخوة، عادوا واتهموا أبناء تلك البيئات بتفجير تلك الصراعات في محاججة مخزية. لا يبرأ بالطبع صنائع الأقوياء من أبناء تلك البيئات من جرائر تفجير الصراع واستمراره، لكن تحميلهم المسؤولية وحدهم يشبه تحميل المهمشين مسؤولية أوضاعهم المعيشية المتردية في مجتمعاتهم، التي تمارس ضدهم العنصرية البغيضة والتهميش المقيت.
هل أراد الكبار بهذا الاختراع أن يهربوا من حقيقة أنهم لا يطبقون القوانين بشكل عادل في الحياة الواقعية، فآثروا أن ينقلوها إلى عالم اللعب، كنوع من التعويض الذاتي؟ الطريف أنهم (الكبار)، ولكي يظهروا ديمقراطيتهم، صمموا اللعبة على أساس أنه بإمكان كرواتيا وروسيا أن يكونا في مجموعة واحدة، حتى تشعر كل دولة مشاركة بفرص متكافئة، في المونديال، لكن الحال في مجلس الأمن الدولي مختلفة بالطبع، حيث يختصر العالم كله في ما يسمى بـ»المجموعة الدولية» التي تعني خمس دول دائمة العضوية في المجلس، بحيث يمكن لدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن أن تلغي قراراً يوافق عليه العالم كله.
أخيراً، ما لم تقترب قوانين لعبة كرة القدم من فوضى الحياة الواقعية لضبط إيقاعها، فلا غرابة أن يستمر نصيب بلدان الجغرافيا الرخوة في المزيد من ساحات القتال، والمزيد من الشعوب التي تلطم وتندب على طول خطوط النار، فيما تتواصل حصة الجغرافيا الصلبة من ملاعب كرة القدم ذات البساط الأخضر، الذي تحتشد حوله مئات آلاف المشجعين، ومليارات الدولارات ومتعة لم تعرفها مدن الشرق المنتحبة.
كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»
د. محمد جميح
ربط دياليكتيكي جدلي بين كرة القدم وكرة النّار.لكن أنسيت كرة الثلج والماء البارد التي ستطفأ هذه النـّـــــار؟ وهي في قول الله في سورة المائدة : { كلّما أوقدوا نارًا للحرب ؛ أطفأها الله }.وربّ قائل : أهذه هي الحرب بل الحروب علينا ؛ فكيف سيطفأها الله ؟ والجواب : ما نراه هي أعراض الحرب لا الحرب ؛ لأنّ الحرب بما لديهم من أسلحة فتاكة ظالمة ؛ إبادة ومسخ كامل للوجود والعقيدة ؛ وما يجري هوالأذى لا أكثر.إنها نارالخمر؛ لا نارالجمر…ياصوفية.انظرإلى الفتوح العربية الإسلامية ؛ جعلت أقاليم الجغرافيا من جبال الهملايا إلى جبال أطلس بصبغة واحدة نحوقبلة واحدة في نصف قرن فقط.لكنهم منذ الحروب الصليبية حتى اليوم لم يستطعوا إلا أقامة الكيان الصهيونيّ.فلا تقنط.
حتى هذه الكرة المطاطية يريدون لها أن تبقى مسيطرة في فئة معينة من دون العرب والمسلمون.هم من لهم الحق في الإنتصار بأي وجه كان ولا حق للعرب بالفوز. فقد تواطئوا ضد منتخب الكرة للشقيقة الجزائر حتى لا تمر للدور الثناني بمونديال 82 وفعلوها ضد المغرب لكي لا يقفز للربع ضد منتخب ألمانيا في مونديال 86 وفي المونديال الأخير هذا في المجال الرياضي على ساحة البساط الأخضر أما في المجال السياسي وعلى بساط أحمر دامي فقد اكتسحوا بلدانا عربية بقذف كرات نارية فتاكة من نووية وجرثومية لإبادة العرب بالعراق وسوريا لاجل مصالحهم.والمفارقة أننا معشر العرب والمسلمين نظل طيلة كل سنة نلهو في متابعة الكرة المطاطية بالبارصا وريال مدريد وقد يستغرق ذلك أسابيع كما في المنديال تزدحم فيها المقاهي امام شاشات التلفزة أو داخل الملاعب وحتى الشوارع أما من يتابع الكرات الجهنمية التي ترميها أميركا وروسيا وإسرائيل على أهلنا بالعراق وسوريا وغزة فلا نجد من يتابع ذلك المقاهي شبه خالية الشوارع هادئة وكأننا تعودنا الهزائم
وألفنا الحروب لا نبالي بمحننا العربية.