بين مشروع الشرق الأوسط «الجديد» ومشروع «القرن» الأوسط القديم

حجم الخط
39

سألني صديق ذات مرة لماذا يُصنع الشر الحديث كله في الغرب ويوجه الكره كله للشرق؟ لماذا تحتكر أمريكا الاقتصاد العالمي وتنتج أفتك الأسلحة والأوبئة، ومع هذا تستأثر بحب العالم، ويقتل ويُجوع بالاقتصاد ذاته والأسلحة ذاتها الشرق ومع ذلك يُكره؟ مفارقة غريبة في وضع دولي ينفصم فيه الخطاب عن السلوك والظن عن الحقيقة في مشهد دراماتيكي تحياه البشرية في تراجيديتها الإنسانية.
طبعا الإجابة عن أسئلة انفعالية كهذه لوقائع فعلية، تقتضي بالضرورة أن نبتعد قليلا عن نظرية المؤامرة، إذ يجدر بنا النأي بالظاهرة عن الخطاب الاحتجاجي ووضعها محل تساؤل حججي ينبع من واقع الشرق ذاته، كون الهزيمة حين تحيق وتحل بأمة ما، إنما تبدأ من الذات أولا قبل الخصم والعدو، وهزيمة الشرق كانت ذاتية مدوية في سماء التاريخ، وهذا عبر أكبر من موقعة عكست الصعوبة التي واجهها هذا الشرق من أجل الاندراج في مسار التطور الإنساني المتسارع الوتيرة على شتى الصعد، بدافع تنافسي علميا تصارعي اقتصاديا بوسائل حكمتها وحتمتها ظروف خاصة.
وفي سياق كهذا، لا يغدو ما جاء في الفيديو الذي جاب العالم كله لمحاضرة ألقاها فقيه سعودي «الخبري» في الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة، نفى فيها دوران الأرض، مجرد خزعبلات رجل دين يحاول أن يفسر الواقع بتأويل غبي لنصوص غيبية، يمكن صرف النظر عنها، بحصرها وإبقائها في خانة هذرمات من هم خارج حوزة المكتشفات العلمية، والاكتفاء بالتندر بها والاستئناس بسذاجتها فحسب، بل يظل الأمر أبعد من ذلك بكثير كونه ينبع من مدرسة تشكل مرجعية أيديولوجية ولو دعائية لدولة، هي أحد الأرقام الصعبة في معادلة الشرق الأوسط في مشروعيه القديم منه أو الجديد.
عدم دوران الأرض في عقل هاته المرجعية المشكلة مع القصر الملكي لثاني زوايا قيام الدولة، هي رؤية رسمية للتاريخ وللكون معا، تواجه القناعات العلمية للجامعة والمعاهد البحثية الكبرى في السعودية، التي هي حليف القصر وجهازه لإنتاج أيديولوجية دعائية لكونها تنزع للعقلانية التي ذمها الرجل ذاته. فالإصرار على القول بعدم دوران الأرض ليس هو فقط خروجا عن المسار العلمي الإنساني، بل هو خروج عن التاريخ والحرص السلبي والدائم على البقاء في القرن الزمني والتاريخي الإنساني الأوسط، حيث بدأت حينها العقلانية الإنسانية تنازع التفسير الكنسي للكون والتاريخ، وانتهت معه إلى حالة طلاق تام مع تعايش سلمي منفصل. فهل سيحدث مثل ذلك في الشرق، وتحديدا في السعودية، حيث يهيمن فهم رجال الدين للنص المقدس في تناوله للبنية الكونية على كل منظومات إنتاج المعرفة وخلق مجتمع موضوعي؟ صعب تخيل ذلك لأسباب عدة جلها ينأى عن التجربة الغربية تأسيسا ومسارا ولعل أبرزها:
أـ إن تفسير رجال الدين للكون تفسير لفهمهم للنص المقدس ولا يعدو ذلك.
ب ـ إن ذلك التفسير هو لاتجاه واحد ولا يحوز إجماع الاتجاهات الدينية المشتغلة على المعرفة الإسلامية؟
ج ـ إن الإسلام يحض على العقلانية والمنهج العلمي في إدراك الحقائق والوجود لخدمة الإيمان بالعقيدة.
من هنا يتضح أن فضيحة الفقيه السعودي في القول بعدم دوران الأرض، التي كشف من خلالها عن خلل كبير في منظومة التفكير الديني لدى الاتجاه السلفي المرتجع دوما والمرتهن للماضي، هي علامة على بداية نهاية هذا الاتجاه المتصلب المعلب، الذي يحول دون انخراط المسلمين في العصر، لإصراره على اجترار الفهم القروسطي للنص الديني، ومغالبة الحقائق العلمية بالإصرار الفارغ على إعادة إنتاج تفسيرات قروسطية لبنية ووظيفة أشياء الوجود.
ثاني مظاهر الارتكاس المعرفي التاريخي للشرق أفرزه السلوك العدواني على الآثار الإنسانية في الموصل من قبل رجالات «داعش»، حين أقدموا على تحطيم تماثيل ونقوش تشهد بعراقتها التي نافت في بعضها على 4000 سنة، على ملحمة تطور العقل الإنساني من يوم كان يخلق الإنسان إلهه إلى غاية لحظة وعيه بتاريخانيته وبداية ملحمة خلقه للحضارة، بحجة أن التماثيل حرام في الإسلام، وخشية أن تُعبد من جديد، فنسي ربما هؤلاء أن الإنسان تطور في عبوديته واستنكف عن عبادة الحجر لصالح البشر، فالتماثيل المعبودة اليوم هي من اللحم والدم وليست أصناما، تماثيل طُغاة يَستعبدون، رجال مال ينهبون ورجال دين ينصبون، فعل الداعشيون ذلك بآثار الموصل وكأنهم أنبياء بعثوا ليتمموا قوانين الإسلام، لأن أئمة الدين ممن أسسوا للمذاهب الكبرى أنفسهم لم يحرموا أو يحطموا تلكم التماثيل في العصور الاولى للإسلام. فالتماثيل التي حطموها كانت بجمودها الشيئي الذي عبرت من خلاله برسومها عن خيال الانسان في حقب معينة من الحضارة أكثر حركة في التاريخ من حركة الداعشيين الجسمانية والمتوقفة فكريا عند أوهام ماض بائد. سلوك «داعش» هو استنساخ لمسوخ دولة طالبان، يماثل يوم وضعت على رأس مشروع نهضة مجتمعها الإسلامي في أفغانستان، تحطيم تمثال بودا العملاق، كما لو كان ذلك التمثال سبب الأمية المستشرية في المجتمع، والفقر الذي يعمه والجهل الذي يعميه، وطبعا لم يمكنها انتاجها التاريخي ذاك (تحطيم التمثال) من حماية وجودها من الغزو الأمريكي حين انهال عليها بطيرانه ومدافعه مزيلها من سدة الحكم.
هناك أمم تعشق نسج التاريخ وأمم أخرى تعشق سجن التاريخ وعلى رأسها أمة الإسلام، المسلمون اليوم ضحايا أنفسهم قبل الآخر، فهم ليسوا فقط قابلي الاستعمار والاستدمار وفق أطروحة مالك بن نبي الشهيرة، بل إنهم قابلون للعب أدوار التهريج البشري لعدم القدرة الفظيعة التي أظهروها على فرز بضاعة التاريخ، رهائن ذاكرة مشوهة، خيالهم الحضري ناضب، طاقاتهم معطلة، أرصدتهم العلمية مفلسة، لهذا سقطت كل المشاريع التي استهدفتهم بالتغيير، سواء من الداخل أتت أم من الخارج، من إصلاحيي الأمة أم من المفسدين من أعدائها، وبقي مشروع «القرن» الأوسط الذي لا يزال يتسرب من مخطوطات قديمة يعاد تجليدها وتذهيبها إلى عقول الناشئة يهيمن على خيال الأجيال، فيكيف لنخب الأمة المتصارعة منذ عقدين من الزمن في جدالاتها الرافضة منها والمؤيدة لفكرة مشروع الشرق الأوسط «الجديد» الجيوبوليتكي أن تصل إلى حل ومشروع القرن الأوسط «القديم» الاركيولوجي الذي يرفض حقيقة دوران الزمان كنتيجة لدوران المكان، لم يزل ساري المفعول في عقول أبناء الأمة؟

٭ كاتب صحافي جزائري

بشير عمري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول mustapha béchar:

    سلام عليكم و رحمة من الله تعالى و بركاته,مقال في المستوى و حساس جدا و في القمة

  2. يقول صابوني محمد الجزائر:

    روووووووووعة الاستاد بشير

  3. يقول bechar:

    مقال جميل كلام في القمة يفسر البعد الكبير بيننا وبين الواقع الدي جاء به ديننا وبطبيعة الحال نحن من نحصد مازرعنه بارك الله فيك اخي بشير وجازاك خيرا

  4. يقول nasreddine:

    سلام عليكم و رحمة من الله تعالى و بركاته وفقت أستاذ دائما مميز

  5. يقول مصعب الجزائر:

    شكرا على هذا الطرح الجميل

  6. يقول ابوبكر عبيد/ الجزائر:

    مقال يصف الوضع بكل موضوعية ومن هذا المكان يمكن ان نبدأ . نبدأ من نقد الذات التي يخشى الكثير ممن يحسبون على النخبة طبعا ان ينقدوها سواء لقلة شجاعتهم ام لخوفهم من النقد الذي يخرجهم من بيت الطاعة واقعنا الان نعيشه بكثير من التناقضات الفكرية والدينية والاخلاقية و في المقابل نرفع اكفنا للسماء طالبين النصر وعندما لا ننتصر نحسب ان ذالك من قلة ايماننا بينما نحن لا نملك اسباب النصر الحقيقية التي نصرت خالد ابن الوليد بخططه الاستراتيجية في الحروب….

  7. يقول إلهام طالب الجزائر:

    كلام في الصميم موفق بإذن الله يا أخي بشير

  8. يقول زهير هروم _تونس:

    مقال رائع يشخص الوضع الذي عليه الامة اليوم وعلاقته بماضيها وحاضرها بشكل منهجي الف شكر استاذ بشير دمت متالقا اخي العزيز

1 2 3 4

إشترك في قائمتنا البريدية