«تأثير ماتيلدا»

حجم الخط
5

■ توقعت أن تنال رواية محمد حسن علوان جائزة البوكر هذه السنة، ووثقت ذلك على انسنتغرامي، خلال حفل البوكر، وتلفظت باسمه قبل أن يُلفظَ به، ذلك أني عكفت على قراءة الروايات الست، فضولا مني لمعرفة أين ستنحو ميول لجنة التحكيم وأين سترسو قرارتها.
ورغم انحيازي لرواية «موت صغير» حيث رجّحتها أكثر من غيرها، إلا أني توقفت طويلا أمام رواية نجوى بن شتوان « زرايب العبيد»، وخطرت ببالي أسئلة كثيرة نبعت من غيرتي على بنات جنسي، متسائلة لماذا لم تستطع المرأة أن تخترق أسوار الجوائز العربية؟ إذ يبدو أن تاريخها مع هذه الجوائز شبيه بمحتوى رواية « زرايب العبيد»، حيث العبيد عبيد، والسّادة رجال، وزوجات السّادة عبيد أيضا، جواري بمرتبة الشرف، يعشن تحت سطوة الرجل إلى آخر يوم في حياتهن، وهن رغم ورقة الشرف التي يتغطين بها، وينكحن لجمالهن ومالهن ودينهن، يبقى الحب أمنية مستحيلة لا تتحقق لهن.
رواية نجوى بن شتوان أزالت الكثير من الأتربة عن موضوع كان يجب أن يبقى في قبر الثقافة العربية إلى الأبد. تاريخ العبيد في بيئة إسلامية تتكئ على الدين لاستعباد البشر، وفي تفاصيل الرواية التي صيغت وكأنها أغنية حزينة، نعود إلى الماضي السّحيق لثقافتنا المشتركة، من خلال قصّة حدثت في ليبيا.
الكاتبة التي فاجأت الجميع برواية مختلفة، وبنص غريب ومرعب ومثير للدهشة وحبكة متقنة، لم تعرف أن تاريخ المرأة لا يزال متعثرا في تلك الزرايب، وأن بلوغ عرش التتويج يحتاج لمزيد من النضال على المستويات كلها.
وإن كانت هناك جائزة أنصفت المرأة العربية الكاتبة فإني لا أذكرها، ربما ذاكرتي ضعيفة، ولكن جائزة أطلقت باسمها من لندن منذ سنوات، وجمعت رائدة الفضاء والكاتبة والمغنية والممثلة والمذيعة، وساوت بين الجميع، وهذا ليس اعتراضا على الجائزة، ولا على كونها تُقدم من لندن، ولم تتسع لها دولة عربية، ولا على الأسماء التي حصلت عليها، ما أقصده أن جائزة تخصص للنساء، وتقوم على مبدأ التفرقة بين الجنسين، لا يمكنها أن تبلغ مستوى جائزة بوكر التي تتوج الكاتب على عمله خارج أضواء الشهرة، وعوامل أخرى تشارك في إبرازه، فالنص وحده يشفع لصاحبه ويخرجه للنور، لكن ماذا لو كان النّص مزعجا؟ ماذا لو كان يقلق القارئ العربي حتى ذاك المكبَّل في قفص التقاليد البالية والأعراف المقيتة، التي قلّمت أظافر الأحرار وألسنتهم وحوّلتهم إلى عبيد؟
صحيح أن الصديق الجميل محمد حسن علوان كتب نصا جميلا يستحق الكثير من الاحتفاء، ولست معارضة على نيله الجائزة، وأعرف أنه كاتب واثق من نفسه، وتجاوز عقبات الانتشار، وحقق لنفسه اسما له وزن ثقيل في ميزان الأسماء الأدبية الناجحة، لكن ليس من باب المقارنة، بل من باب التقدير ماذا يجب أن تكتب المرأة ليتم تتويجها وقراءتها بعين الاحترام لا بعين التقليل من قيمتها، لأنها كسرت تابو من تابوهات مجتمعنا البائس؟
في «زرايب العبيد» تساوت الحرة والأمة في الوجع، بل إن الحرة تكاثر ألمها وتعاظم، ولا حول ولا قوّة لها، تراقب ما يحدث أمامها ومن خلف ظهرها، وكيف تسلل الحب إلى قلب زوجها وأصبحت كائنا مهمّشا، يستدعيه الرجل فقط لزرع بذرته وإنجاب الورثة. تخطف تعويضة الأمة السوداء قلب بطلنا الليبي الجميل، تلك الأمة المجرّدة من أسلحة الإناث الصالحات للنكاح، بلا مال بلا جمال، بدين أو بدون دين فهي أمة وفتاوى الدين استباحتها. تستولي على الرّجل بخفرها وبراءتها وعطائها المفرط وتغيّر مجرى حياة عائلة بأكملها. ينتصر الحب لا كما نريد، ولكن كما تريد مأساة العبيد، يتوغّل في القلب وتمتد جذوره في أعمق أعماق قلب محمد، وقلب تعويضة ويتوقف هناك عند عتبتي قلبيهما، دون أن يثمر أكثر من جنين مصيره الإجهاض أو الإقصاء.
تتوحّد العائلة ضد ذلك الحب المنافي لأصول التعاطي مع العبيد، وتكشّر عن أنيابها، لتغرسها في جسد تعويضة وجسد محمد على السواء. يمنع الحب في تلك البيئة التي تهيئ الزوجات للإنجاب، وتدربهن على تقبّل الشراكة في أزواجهن من أجل المصالح العليا للعائلة، وتقبل وجود الأمة في فراش الزوج متى شاء، شرط ألا يتعلّق قلبه بها، حتى لا تستولي على عقله، وتذهب به بعيدا عن المآرب المشتركة التي يتفق عليها الجميع سرًّا. يشكّل الحب الخطر الأول على قلوب الرّجال، كما على قلوب النّساء، وقد أحسنت الكاتبةفي وصف الصراع بين الحرائر والإماء.
أقلعت بنا من حيث لم نتوقع، وظننا أن الحكاية خرافة من خرافات ألف ليلة، أو قصّة من التراث الذي اندثر معظمه ودُفن الكثير منه لأسباب نجهل أغلبها. تتبعنا حكاية الرّجل الذي زار عتيقة ليعطيها صك الغفران الذي حلمت به، ومثل أليس في بلاد العجائب كنا ندخل الفصل تلو الفصل ونحن نصغر أحيانا وأحيانا نكبر، تضيق الأماكن علينا أحيانا وأحيانا تتسع، نبتسم أحيانا ونبكي أحيانا أخرى، وفي كل مرة نكتشف أننا أمام كاتبة علينا أن نفتخر بها جميعا، لقد جمعت كومة الصوف المبعثرة، وعزلت خيطانها باتقان، ونسجت هذا النسيج المتكامل، لتقدّم رواية في قمة التميز.
بدءا باللحظة التي كانت حاضرا معترفا به، إلى الماضي الذي انتهى عند قدوم الطليان إلى ليبيا وأنهى حقبة استعباد الرجل الأبيض للأسود، و بدء مرحلة نضال جديدة ضد استعمار الأبيض للأبيض تأخذنا الرواية بعيدا في عمق التاريخ.
في بعض الأحيان لا نصدق ما نقرأ، لكنّ طريقة سرد نجوى لأحداث القصة تمس شغاف القلب، حقيقية وقريبة، ربّما يعود السر في ذلك إلى الشغف الذي عاشته الكاتبة كباحثة في الموضوع.
الرواية طويلة نوعا ما، ومع هذا تشد القارئ بكل فصولها، نلتهم صفحاتها بالنهم نفسه، لأنها أدركت أن عناصر المفاجأة يجب ألا تنضب دفعة واحدة، كشفت ستائرها السميكة شيئا فشيئا، حتى أصبح كل شيء أمامنا في العراء. أقول ماذا يجب على المرأة أن تكتب لتخرج بجائزة بوزن البوكر؟ إن كان موضوع الجسد قد أزعج «جمهور النقّاد» على مدى سنوات، وموضوعات السياسة تفوَّق فيها الرجال، وموضوعات التاريخ تٌرفض وتُقبل لأسباب لا نفهمها جيدا، ومعاناتنا كنساء لا تعني النُّقّاد العرب ولا تثير تعاطفهم معنا، فما المطلوب منا كنساء أن نكتب؟
إن كانت عناصر التجديد والجرأة والشجاعة والمواجهة لا تكفي فما الذي يكفي؟
إن كانت اللغة الجميلة والأنيقة، والأساليب السردية المبتكرة لا تكفي، فما المطلوب منا لنكسر الأسوار العالية التي تحرمنا من بلوغ منصات التكريم؟
في تاريخ الجوائز العالمية ظلّت المرأة خارج مخابر اتخاذ القرارات، تناستها اللجان أحيانا وأحيانا أخرى اختيرت باحتشام، جائزة نوبل نموذجا. أمّا نحن فقد تشبعنا بفكرة أن المرأة خلقت للصفوف الخلفية، وأنها يجب أن تقف خلف الرّجل العظيم لتبدو عظيمة. التقليل من إسهامات المرأة في مجال العلوم له قاعدة نظرية ومنهجية، تسميها المؤرخة الأمريكية مارغريت روسيتر «تأثير ماتيلدا» لوصف إنكار وتقزيم بشكل منهجي إسهامات المرأة في مجال البحوث. ويبدو أننا نمشي بشكل أوتوماتيكي على خطى الغرب بأبعاد زمنية متناقضة، وبما أنّنا نعاني مثلهم ممّا سمي بـ «تأثير ماتيلدا» فقد حاولنا تسلق سلم الحاضر بأقنعة لطيفة توهم غيرنا بأننا شفينا من كل عقدنا دفعة واحدة. فنحن مع المرأة، لكن يجب ألا تكون في المقدمة، ولأننا معها لا بأس أن نضيفها لسلّة قراءاتنا، كما لو أننا نضيف قليلا من الملح للطبخة.
حسب مفهومي الخاص لقد نالت رواية «موت صغير» الجائزة لأنها تبشر بالمحبة، وتعقد معاهدة سلام مع معارك النفس التي أنتجتها المنظومة الدينية المتشددة، إنّها رواية هذه المرحلة، أما «زرايب العبيد» بكل ما تحمله من مفاهيم تصحيحية لمعنى الحرية نحتاجها بتوقيع صاحبتها بعد سنوات أخرى تكون فيها عناقيد فكرنا قد نضجت أكثر.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

«تأثير ماتيلدا»

بروين حبيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    شخصيا لا أؤمن بالجوائز الأدبية فكثير منها تمنح ليس لإبداع أدبي، وخاصة البوكر في نسختها العربية، وأفضل الجوائز للكاتب هو القاريء نفسه كما فعلت يا سيدتي الكريمة فهذا هو التكريم الحقيقي بعينه ومع اني لم اقرأ زرايب العبيد ولا موت صغير فإني اليوم مشدود أكثر للأولى من التي نالت الجائزة، وكم من أديبة عربية لم تمنح جوائز ولكنها على كل لسان من فدوى طوقان التي كرمنا صديقنا صبحي بذكرها اليوم الى كاتبتنا غادة السمان، ورجاء عالم السعودية، واحلام مستغانمي الجزائرية، وسواهن من أديباتنا اللاتي نعتز بهن، وبك ايضا يا ست بروين البحرين جزيرة الثقافة والابداع

  2. يقول دينا:

    نعم لكسر الصمت والظلم والتخلف والدمار والكذب والنسخ والسرقه بدون حق .. كل انسان به ابداع ان استمع لروحه الطاهرة الشفافة وقوية باستعمال وسائل الادراك .. البشر وخصوصا المؤمنيين ليسوا عبيدا لا لمؤسسه ولا لمال نحصل عليه لنعطيه طواعيتن للبقالة والمولات والموظفين .. نحن جميعنا سيحاسب عل كل فكر ونظره ونفسية امام خالقنا بيوم الحساب والذي بقي منه القليل .. وكل من يرضى لنفسه الذل والخساره والدعس على ظهر الاخ بالانسانيه لمجرد الوصول فانه اتفه البشر وانذلهم ولا يمكن الوثوق بهم لانهم يشابهون بتصرفاتهم تجار بيع وخطف الاعضاء للاطفال والانسان بالغصب والاكراه.. الانسان بدون اخلاق شريفه هو خائن لنفسه اولا ونذل لا يستحق اية احترام ولا حق .. احترام الانسان للجميع بدون تمييز .. ولا نرضى بان ياكل البعض القليل لحم احد من البشر او يسرق عمل اخر بداعي التعلم بالغصب والمذلة واستغلال نقاط ضعف الانسان لانه يحارب للسلام , فهو يستحق السلام والاحترام والتقدير .. والصح ظاهر والخطأ ظاهر كذلك ولا يمكن التحرك بينهما مرة هنا ومرة هناك .. لا للصمت المفبرك ولا للظلم ولسنا عبيدا ونسير باتجاه ارضاء الله خالق البشر وكل الارض .

  3. يقول دين:

    لا وجود لاي حقيقه ولا تطور بوجود الكذب والظلم ومهما توهمنا بالانجازات فانها هشه ضعيفه وخداعه..للعلم فقط النجاح ليس نجاح اللحظه للانسان ولاكنها نجاح مستمر للجميع بالصح والحقيقه والايمان والصدق وعدم الخوف وعدم استعباد الانسان بفكره او حريته وعدم وجود الخطوط الحمراء الكاذبه .. لا وجود للخطوط للكاذبين والمنافقين .. وخطوطنا من اخلاقنا ودوافعنا ونوايانا للانسانية ودماء البشر الضعيف والاطفال والشيوخ .. لا للحروب ولا للدمار ويكفينا تحركات ضد بعضنا للمكاسب او البساطه

  4. يقول رياض- المانيا:

    اثني على تعليق الاخت دينا. المتسلقون ،محبي الظهور ، ساكني القصور العاجية الذين يدعون بالفقراء وابمعذبين في الارض وصلا ، هم دائما ما يلقون بآرائهم مكتوبة من على شرفاتهم العالية على شكل فرمانات للتنفيذ او رمي الامة بالتخلف. هؤلاء مجرمون بحق الامة وهم احدا اسباب التراجع الفكري الذي نعيشه، فهناك فرق بين المثقف ومدعي الثقافة.

  5. يقول غادة الشاويش -المنفى:

    اعتذر سيدة بروين لم تعجبني المقالة مع وافر الاحترام لك ! فقد لمحت عقدة الاقصاء التي تتقمصها السيدات وكأن هناك فيتو على النساء في العالم شخصيا لم اجرب ان اكتب رواية ولم اتابع الجوائز الادبية لكني لا تروق لي موضة اتهام الناجحين بانهم نجحو لان هناك شهوة انتقام لدى لجنة التقييم من المرأة ووضعها في الصف الخلفي !! ما الذي يثبت ذلك الا يمكن ان نكون فعلا لم نحز على الجائزة كسيدات لان ما كتب الى الان في المسابقات لم يتفوق شخصيا لا اغار على بنات جنسي ولا انحاز لهن ! الا حيث هناك مظلومية حقيقية !! انا انحاز الى الادب المهمش والادباء المهمشين الذين لا يملكون اسما ولا تتبناهم حتى الصحف رغم ان اقلامهم صواعق واعداد قرائهم كبيرة يجب ان ننحاز للابداع وللابداع فقط وليس للذكور والاناث وناتي بموشح اتهامي لم تنجح امراة وعقدة ماتيلدا وما بعرف شو لو كان لي ابنة وحازت على المرتبة الثانية في اي شيء فلن اسمح لها ان تبرر الامر بانحياز ذكوري هناك اعتبارات موضوعية لا اعتقد ان الامر يتعلق بجنس الاناث ومخاولة اقصائهن والحروب الدونكيشوتية المتصورة بين الجنسين فهل تعتقدين فعلا ان امراة لو تميزت لاقصتها اللجنة لانها امراة لا اظن ذلك ابدا وارى في هذا تطرفا في التفكير سيدتي الادب ميدان مفتوح وهناك مئات الاف المغمورين والمظلومين صحفيا وادبيا لو لبثوا عمرا يكتبون وبلغوا الثريا لتم الايثار عليهم واقصاؤهم واحباطهم والامر احيانا يتعلق بغايات ثقافية ومحسوبيات لكن ليس اقتتالا جنسيا يؤثر الذكور هذا التحليل فيه اهانة لنا كسيدات وكاننا علينا ان نبرر ان امراة لم تفز بالجائزة اذن هذا ظلم ! لقد فاز الابداع الموافق للمعايير وحتما الذكورة لا شأن لها ولربما لم يكن الامر منصفا فهناك ذكور اخرين لم تنجح رواياتهم فهل تريدين القول اننا نجحنا وسبب فشل السيدات هو اللجنة وهل يجب ان ننظر الى كل شيء في الدنيا بمنظور جنسوي تنافسي ساصفق للابداع لمن يتسلل الى قلبي فيمكسه عن الخفقان في لحظات الخطر في الرواية ويسكب دمعي على الورق في لحظات التأثر ويجعلني اقهقه في لحظات السخرية وياخذني الى مدى الطبيعة الاسر على متن الكلمات والتصوير سانحاز لمن يجعلني امشي في مدينة اسطره مولعة بكل معالمها جذلة ارفض النوم حتى تتم وساصفق الف الف مرة حتى لو فاز الف الف رجل ولم تفز امرأة طالما ان الابداع هو الذي فاز !

إشترك في قائمتنا البريدية