تأويل الموت

حجم الخط
8

منذ عشر سنين قتلوك يا صديقي، سمعت صوت الانفجار وركضت صوب بيتك، كنت أشعر أنني في سباق مع موتك وموتي، وعندما وصلت رأيت وجهك ملتصقا بالمقعد الذي إلى جانبك في السيارة.
كنت جميلاً كطفل وبريئاً كوردة.
ابتسامتك الساخرة ارتسمت على شفتيك، وطنين الصمت الذي أعقب انفجار سيارتك احتلّ المكان.
المكان الذي تظلله اليوم زيتونة سمير قصير، كان مليئا بالناس، لكنني لم أسمع سوى الصمت.
كنت الشهيد الأول يا سمير، لأنك أردت أن تسبقنا دائما. سبقت طفولتك إلى النضج المبكر، وسبقت الحب إلى عشق مواز للحياة، وسبقت شبابك إلى الموت.
اعتقدنا يا أخي الصغير أن موتك جزء من زمن البدايات التي تبدأ، كان ربيع لبنان يصنع انتفاضة الاستقلال، وكنت مع رفاقك اليساريين والديموقراطيين والعلمانيين، ترون في الانتفاضة استكمالا للانتفاضة الفلسطينية وبداية ربيع تزهر فيه دمشق بالحرية. راهنت مع رفاقك ورفيقاتك الذين احتلوا ساحة الشهداء أو ساحة الحرية، على أن النضال الطويل قد وصل اليوم إلى محطة أولى اسمها استقلال لبنان وحرية سورية، فاندفعتم تعانقون الحلم، رغم شعوركم بخيانة الطبقة السياسية اللبنانية الملوثة بالطائفية وعجزها عن قيادة معركة الاستقلال والأفق الديموقراطي.
قبل موتك صرخت برفاقك «عودوا إلى الساحات»، لأنك كنت تعلم، أن الثورة التي تتوقف في منتصفها تنتحر.
اليوم في الذكرى العاشرة لمقتلك وتتويجك شهيداً لبنانياً وسورياً وفلسطينياً، أي بيروتياً، أشعر بوحدة قاتلة، ليس لأنك مت، وأنت الأخ والصديق والحبيب، بل لأنني أتأمل موتك وموتي المحتمل بصفته لحظة لا تكتمل إلا بالتأويل. ومع التأويل الذي يتغير بتغير الأزمنة، يصير الموت حقلاً لاحتمالات شتى، وينضم إلى أسرار الحياة بصفته أحد ألغازها الكبرى.
أكتب عن موتك يا صديقي كأنك لم تمت، وهذا هو درس الموت الأول. فالموتى لا يموتون إلا إذا ماتت أماكنهم في قلوبنا وعيوننا، وأنت تحتل عين القلب، لأنك كتبت التاريخ الأجمل لمدينتك التي تعيش على حافة بركان، ولأن شعورنا بالشقاء بعد موتك، أدخلك في كتاب «الشقاء العربي»، الذي كتبته.
كنت أعتقد أن الزمن يعلمنا النسيان، لكن زمننا اللبناني- السوري- الفلسطيني يا صاحبي زمن عجيب، لأنه يمر كأنه لا يمضي، ويسرع كأنه يبطئ، ويتقدم كأنه يتراجع. أشعر ان 2 حزيران 2005، هو اليوم، وان دمك لا يزال طازجاً على رصيف «الجبل الصغير»، كما أشعر أنك مت من زمان، وان غبار الدم والقهر يحجبك عن عيني.
كنت أتمنى أن أناقش معك مسألة تؤرقني كثيرا، وهي مسألة تتعلق بك وبي وبكل رفاقنا وأصدقائنا الأموات والأحياء، لكن للأسف صار الكلام معك مستحيلاً أو مجرد تأويل لاحتمالات الكلام، لذا أعتذر منك، لأنني أكتب ما أكتب، مفترضاً أن تأملاتي هي حصيلة حوار معك لم يجرِ الا في الخيال.
وسؤالي هو كيف نستطيع تأويل موتك اليوم؟
قبل أن ألجأ إلى احتمالات التأويل أريد أن أعترف لك بذنب أشعر به حتى لو لم اقترفه سوى كافتراض. كنت في جلسة مع بعض قدامى الأصدقاء، حين تكلمنا عنك وعن عدد من أصدقائنا الراحلين، ولا أدري من أين جاءني نزق الجرأة كي أقول إنني أغار منكم، فأنتم متم قبل أن تعصف بمنطقتنا رياح هذا الموت الجارف، وهذا الانحطاط المروع. نعم، قلت انني أغار من الأموات، لأنهم مضوا قبل أن تنطفئ شعلة الأمل في عيونهم، ماتوا وهم على اقتناع بأننا محكومون بالأمل، مثلما كتب صديقنا سعدالله ونوس. ماتوا قبل أن يصير الأمل سراباً، وتدخل منطقتنا في ما بعد اليأس.
أعتذر، لم يكن يحق لي أن أقول ما قلت، فنحن الأحياء محكومون بأن ننزل إلى قعر الشقاء العربي، وندفع ثمن نهضة عربية أجهضها الانقلابيون والضباط، ويأتي الأصوليون اليوم من أجل إيصالها إلى القعر.
نعم يا صديقي، موتك منذ عشر سنين، كان بداية الموت الذي يلف منطقتنا، ولا أستطيع تأويله اليوم أو اكتناه معناه العميق إلا في هذا السياق. كنت يا صديقي طليعة الضحايا، لذا نجوت من التهميش الذي يخنق اليوم الديموقراطيين واليساريين والعلمانيين من أمثالك. موتك اغتيالاً، كان إشارة إلى قدرة قوى الاستبداد والظلامية على تدمير حلم الملايين الذين احتلوا ساحات المشرق العربي من بيروت إلى تونس والقاهرة ودرعا وحمص… انفجرت مجتمعاتنا بالحرية، واشتعلت الثورات من دون أن تجد الثوريين الذين يستطيعون حمايتها والانتقال معها من الاحتمال إلى التحقق.
تعال معي إلى تأمل هذا الشقاء، ليس من أجل أن نيأس، بل من أجل أن نحلم من جديد. الأمل ليس نقيض اليأس، بل قد يكون أحد أشكاله. لذا لا أدعوك إلى الأمل الساذج، بل إلى الحلم. قل لي هل صحيح أن الموتى حين يخرجون من الحياة يدخلون في حلم طويل لا نهاية له. يتحولون من بشر يبحثون عن حلم إلى حلم لا يبحث إلا عن نفسه؟
قل لي كيف نصنع حلماً جديداً، وكيف نحمي حياتنا من الوحش الذي ينهش مجتمعاتنا، ويدفع بها إلى الهاوية؟
اتخيل ابتسامتك التي تمزج الذكاء بالمكر وأنت تدعوني إلى تأمل مصائر المستبدين والطغاة والغزاة، وكيف هزمتهم المدن التي اعتقدوا انهم هزموها.
عشر سنين يا صديقي، والدم الذي سال في بيروت يغطي اليوم المشرق العربي، ويكتب ملحمة بحث عن الحرية ستكون بواباتنا للعبور من ضحايا التاريخ إلى صانعيه.
نتعلم من موتك وكل هذا الموت الذي نعيشه فضيلة التواضع، فالموتى هم الأكثر تواضعا، لأنهم الأكثر حكمة، وفي مدرسة التواضع هذه علينا أن نكتب حكاياتنا من جديد، وهي حكايات لا تصنعها سوى مقاومتنا للاستبداد والاحتلال.

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي جاسم:

    عبارة بريء كالوردة ؟ هه .. هه ..هه هل الوردة كائن حي لتصفه بالبراءة يا سيد (الياس)

  2. يقول سعيد لبنان:

    الثوريون واليساريون واليمقراطيون وبكلمة واحدة من يسمون انفسهم رواد النهضة العربية هم أول وأكثر الفئات التي كانت تحج إلى دمشق الأسد “قلب العروبة النابض ” كما كان يحلو للقومجيين من كل بلدان العرب ان يُسموها. هؤلاء اليساريون والثورويون باعونا كلاما وثرثرة وأناشيد بدون روح عن فلسطين والوحدة والنهضة العربية. حان الوقت للخروج من الوهم الذي طال: نحن أمة بدوية ذات ثقافة وتكوين نفسي خاص وبفضل الاسلام انتشرنا في سوريا ولبنان وفلسطين فابتلعنا عناصر قومية وثقافية جديدية ولكنها مختلفة جدا ومنذ ذلك الحين نعاني نحن العرب من سوء الهضم يعني بلغة أبسط لسنا أمة متجانسة ثقافيا ودينيا واجتماعيا.

    1. يقول علي النويلاتي:

      تعميمك ياسيد سعيد لبنان ليس صحيحاً، هؤلاء المنافقين لا يمثلون الثوريين واليساريين والديموقرطيين والقوميين العرب (تعبير قومجيين، هو تعبير رجعي مرفوض ومهين للقوميين العرب) ومن الخطأ منحهم هذه الصفات المجيدة. مثل ما هو خطأ تشبيه جميع الإسلاميين بداعش وأخواتها.
      إن هذا التعميم ضد القوميين والتقدميين العرب هو جزء من الحرب التي يجري شنها على الأمة العربية لتجريدها من البديل لحكومات فمعية فاسدة ديكتاتورية، والتشكيك بأي قادات ديموقراطية تقدمية وطنية وقومية بديلة لما هو موجود.

  3. يقول [email protected]:

    Shukran ustad Elias
    Saleh Oweini
    stockholm

  4. يقول محمد طاهات / عضو في رابطة الكتاب الأردنيين:

    بسم الله الرحمٌن الرحيم .
    نعم القول ونعم التعبير ياأخي إلياس , ولاغرو في ذلك فأنت الأديب وأنت القاص البارع والذي يعطي الكلمة ويعطي الجملة حقهما في التعبير الجميل الذي يعجب المتلقي ويقتنع به , قرأت للك الكثير وأنا معجب بما تكتب .
    ماأجمل ما قلت ” فنحن الأحياء محكومون بأن ننزل إلى قعر الشقاء العربي وندفع ثمن نهضة عربية أجهضها الانقلابيون والضباط , ويأتي الأصوليون اليوم من أجل إيصالها إلى القعر ” .
    وأنا مثلك ومثل كل المواطنين العرب من الماء إلى الماء ومن البر إلى البر نحتار في هذه الثورة العربية ’ ثورة الكرامة والحرية والعدالة والتحرر من الاستبداد والظلم الذي مارسه علينا حكام طغاة مستبدون نصبهم علينا الاستعمار قبل أن يرحل عن بلادنا .ولكن الأدهى والأمر أن يذهب طاغ ليحل محله طاغ آخر , وكأننا نحن العرب خاصة نختلف عن شعوب العالم في تركيب عقليتنا ,.
    وأعود وأقول كما قلت : كيف نصنع حلما جديدا وكيف نحمي حياتنا من الوحش الذي يينهش مجتمعاتنا ويدفع بها الى الهاوية ؟
    ومع ذلك وبالرغم كل مايحدث ستنتصر ثوراتنا وسنحقق الأمل بالحرية والكرامة , وشعوب أوروبا وبقية دول العالم التي تحررت وعانت كما نعاني وامتدت ثوراتها زمنا طويلا ودفعت الثمن من دم أبنائها وبناتها .

  5. يقول خليل ابورزق:

    انا ندفع ثمن سكوتنا الطويل على الظلم و الطغيان و الاستبداد و الفساد بدعوى الامل. و انتظار الصبر ان يثمر تفاحا.
    من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه و ان لم يستطع فبقلبه و ذلك اضعف الايمان. و اكبر منكر هو جور السلاطين

  6. يقول Ossamah Kullijah سوريا/المانيا:

    شكرا على هذة الكلمات الرائعة يااخي الياس كم اشعر بالراحة عند قرائتها ومن الواضح ايضا ان القراء الكرام محقون في نقدهم او بعضا منه وخاصة فشل فيما يسمى المشروع النهضوي العربي القومجي العلماني … الخ لان الاحتلال والاستبداد بقي عصيا علينا حتى الان لا بل اضيف الية احتلال اخر قادم من الشرق متلبسا بلباس الثقافة العربية الاسلامية كم كنت اتمنى (ومازال لدي الامل بالشعب الايراني) لو ان الايرانيين (اي الذين في السلطة) فهموا التاريخ وكتبوا صفحات جديدة بدلا من العودة الى صفحاته القديمة ولكن طبعا ثورات الشعوب العربية مستمرة ولن تنتحر ومن الجدير بالذكران مايسمى المشروع الاسلامي ليس افضل حالا هو الاخر لابل جزءا منه انحرف ونشأت عنة قاعدة بن لادن والظواهري والبغدادي والخ وهي قوى ليس اقل سوءا وبشاعة من الاستبداد والاحتلال الذي نسعى للتغلب علية لابل اصبحت هي الاخرى اكثر من يسانده ويتعاون مهة بشكل مباشر او غير مباشر كما بدا جليا في حالة داعش في سوريا المهم سوريا الاسد ليست الا اوانقلبت الى اكذوبة مُرّة وقلب العروبة النابض سيبقى ان شاء الله كذلك لكن بصرخات الشعب الذي خرج من اجل الحرية والكرامة ولن يعود باقل ذلك مادامت دمشق العروبة النابض ان شاء الله

  7. يقول Dr. Tony-Falastin:

    Allah 3leik ya ustaz Elias!

    Your words of wisdom, hope and true belonging to our WATAN like deep and stubborn roots remind me of the prophetic, nostalgic, sweet and eternal words of Jibran Khalil Jobran…still resonate deep into my heart!

    May God bless you!

إشترك في قائمتنا البريدية