“الصعود إلى نبتون” لعبد الحليم المدني: بين الخيال العلمي والفانتازيا !

حجم الخط
2

*في قصص (الصعود إلى نبتون) لعبد الحليم المدني(1) رؤية غريبة لعجائب الحياة الشخصية والخيال الفردي.
إنها قصص بلا مكان محدد. شخصياتها تهيم في الفضاء. وتعيش في حالة لا يستوعبها المتطق. أو بالتحديد منطق الواقع المعاش.
و لئن كانت في بعض القصص توجد شخصيات ثانوية ترمز لبعض المعاني العامة كالثواب والعقاب (في قصة الالتحام) والشر والدسيسة والنميمة (في قصة المجنونان) فمعظم القصص تتألف من شخصية أساسية وهي امرأة غريبة الصفات ورجل يغرق في دوامة من التيه والسباحة في الفضاء الكوني ولا يجد الراحة والطمأنينة إلا بين أحضان معشوقته.
وغني عن القول أن مثل هذا الجو، الذي لا يعترف بحدود المكان والزمان، ينتمي لأدب الخيال العلمي.
وأبلغ مثال على ذلك أول قصة في المجموعة. حيث أن الشخصيات تخرج من دواسر (قبور قديمة) وهي تنفض عن نفسها غبار الزمان والمكان (انظر العرافة العجوز في قصة الالتحام)
إنها شخصيات معمرة. ومولودة قبل ألوف السنوات. وتموت باختيارها. حين يدب إليها اليأس. وتتنقل بين الكواكب في المجرة مثل نبتون وبلوتو بالإضافة لكواكب خرافية منها تامرا، أو الكوكب الاخضر، كما يسميه (في قصة مكعب الكون اللامع).
كما أنها تستعمل في رحلاتها السهم الأبيض. ولها عيون ليزرية. وسوى ذلك.
ولكن كل هذه الكشوف العلمية (الثابت منها والخرافي) تبدو لي مثل قشرة بسيطة. عبارة عن ستارة شفافة، نستطيع أن نشاهد من ورائها خيالات وظلالا تتشكل في لا شعورنا، من جراء الخبرات الناقصة مع الحياة، وبسبب قلة صبرنا حيال مشاق الواقع وصعوبته وتعقيده.
إنها أقرب ما تكون لمنبهات، أو عصاب ، ينبهنا لمسائل موجودة في اللاشعور. لا نريد أن نفكر بها، ولكنها تلعب دورا في تحديد المسار.
وأعتقد أن تيه أبطال القصص وضياعهم في المجرة بين الكواكب. وعدم قدرتهم على رؤية الصور الواقعية والمادية بوضوح يحدوه الصراع الأبدي والأزلي بين غريزة الحياة ومشكلة الموت.
لقد وقف أبطال القصص عند الحد الفاصل بين واقع يندثر ومجهول يقترب.
وعليه إذا ركز الكاتب جهوده لشخصنة خيالاته في ماهيتين هما الرجل والمرأة أو الذكورة والأنوثة. كان هناك شخص ثالث لا نراه في الحالات العادية بالعين المجردة. ولكنه هنا متجسد ومنظور. وهو الموت.
وأعتقد أن الهروب من الأرض واللجوء للكواكب والفضاء هو مجرد كناية عن مشاعر الخوف والرعب من الموت.
حتى أن بطل قصة ( الالتحام) كان يسمي الموت (قاتلي الخفي) ويراه وهو يأتي إليه. بصورة شخص غامض بلا صفات قبل أن يحتله ويدخل فيه.
و هكذا ينهي القصة وهو يغرد بصوت رخيم قائلا: أنا أموت. ها أنا أموت.
لقد رسمت هذه القصص الموت بشكل كينونة (موجود وكائن لا يمكننا تسميته ولكن نستطيع التعرف عليه). وكانت الشخصيات تسمع وقع خطواته وهو يطاردها (قصة الالتحام وقصة انبجاس في يوم ذي مسغبة) . ولكن المفاجأة أنه ليس ملاك الموت المجنح الذي يحمل منجل حصاد الأرواح، إنما هو الشعور باليأس الذي يتجرد من داخل النفس البشرية ويتجسد بصورة وقوام..
وهكذا يأخذ بطل القصة حياته بيده. بمعنى يضع لحياته حدا ختاميا. ويقدم على الانتحار.
وهذه الحيلة الفنية إن عبرت عن شيء فهي تعبر عن الاغتراب والانفصال. اغتراب ذاتي وقطيعة اجتماعية. وبذلك يكون الموت بالتراضي. بموافقة ومباركة الشخصية ذاتها.
وهذا وحده يفسر لماذا يموت أبطال القصص وعلى شفاههم ابتسامات ندية. أو لماذا ينظرون لقاتلهم بابتسامة ترحيب (قصة الالتحام).
***
و أرى إن هذه القصص هي مزيج من الخيال العلمي والفانتازيا بنفس الطريقة التي يكتب بها راي برادبوري.
و لكن إذا كان برادبوري متأثرا بثقافة التضحية والفداء عند المسيح عليه السلام فهذه القصص متأثرة بميتافيزيقا الثقافة الإسلامية والتي تتوفر في الجو العام بسخاء.
فالصور والتراكيب تقترب بخلفياتها من فكرة الصعود على مرقاة للسماء. حيث الرحمة الإلهية ومبدأ الوجود. والصعود للسماء يقابله هنا التيه والتشرد في الفضاء. والمرقاة التي لا يتصورها عقل البشر تقابلها المراكب السيارة والروبوتات. كذلك في كل القصص وصف مسهب لسماوات متعاقبة ولكل واحدة منها باب وسادن وكأننا أمام فندق خمس نجوم عائم بين الكواكب . وبمقدوري القول إن عناصر الخيال الإسلامي كانت تعمل بالخفاء تحت قشرة رقيقة من التكنولوجيا وعلوم التنبؤ والمستقبل. ويمكن أن نسجل عدة إشارات من القصص الديني التي مصدرها القرأن الكريم والحديث الشريف كوساوس الشيطان ومعنى أبدية الشر ومقاومته بالإيمان والثبات، ناهيك عن قراءة الفاتحة على رأس الميت وشخصية رضوان سادن الجنة وحكاية يأجوج ومأجوج وطرد آدم وحواء من السماء.
و لكن المدني ليس من أنصار «أحسن القصص». إنه لا يعيد إنتاج الأساطير الدينية إنما يضفي عليها المعنى الحضاري والمعرفي للمنطقة بصورة رموز من حضارات وادي الرافدين. فقد أشار لها بألقاب ورموز مكشوفة كالسيدة السومرية مع ألقاب ونعوت لا تجدها إلا في ملحمة غلغامش وألواح حمورابي.
وأرى أن هذا هو الفرق الأساسي بين قراءة عبد الحليم المدني لعلوم الفضاء والمستقبل وبين أدب الخيال العلمي كما عبر عنه جول فيرن (من بين الرواد) ونيل غايمان (من بين الأحياء المعاصرين).
في الخيال العلمي دعوة للتوسع والغزو، واستفادة مباشرة من ثقافة استعمارية وإمبريالية لا تكفيها الأرض وتبحث عن مكاسب حتى في أعماق المحيطات وأقاصي الفضاء. ولكن في (الصعود إلى نبتون) اهتمام بالمعاني والغرائز الأساسية الخاصة بالأفراد، كالعشق والحنين والحرية، مع ميول واضحة لاكتشاف الذات. وربما هذا يفسر لماذا لا تخلو صفحة من ذكر للمرايا والسطوح العاكسة، فهي الأداة التي نتأمل بها أنفسنا.
بعبارة أخرى: كانت عيون الكاتب تنظر إلى داخله وليس لما حوله.
وعلى ما أعتقد إن الهدف من هذه القصص ليس كما يوحي العنوان (الابتعاد عن الأرض واختيار الفضاء والمجرة الشمسية كمسرح للأحداث). ولكن العكس. إنها تحاول تمهيد الطريق لعودة الإنسان لنقاء سريرته وصفاء روحه. يوم كان في الجنة تحت ظلال شجرة الحياة. وهي جنة رمزية بلا شك. قد تكون المعادل الموضوعي لبيت الإنسان وسكنه ومثواه. ولا أظن أنها تحمل أي هم سياسي أو وطني مباشر. وربما كانت كل الفكرة هي الهروب من مشاكل السياسة والصراع على الحكم.
ولو علمنا أن الكاتب يعيش في المنفى من عدة سنوات وأنه متخصص بتاريخ العلوم عند قدماء العرب لما ترددنا لحظة واحدة في رؤية هذه الحقيقة، أنه كان طوال الوقت يبحث عن ذاته وجوهره. وليس عن واقعه. عن الماهيات والماورائيات وليس عن شروط الحياة وظروفها ومتاعبها.
وفي سبيل ذلك كان لا بد من مواجهة المصاعب والمخاطر، واختبار قوة الشكيمة أمام غوايات إبليس من جهة، وأمام النسيان والإنكار.
إنها رحلة افتراضية نحو بدايات البشرية النظيفة والنقية وتصعيد نفسي لشرط وجودي. أو بعبارة مختصرة هي بحث عن الموضوع في الذات. وليست بحثا عن الموضوع في العالم.١- صدرت المجموعة عام 2013 عن مكتبة الوطن العربي/ ديالى/ العراق. بغلاف من تصميم وائل المصري. وفي 111ص.

٭ قاص وباحث من سوريا

 

 

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبود:

    ولَـيْـلٍ كَـمَـوْجِ الـبَـحْـرِ أَرْخَـى سُـدُوْلَــهُ

    عَــلَـيَّ بِـأَنْـوَاعِ الـهُــمُــوْمِ لِــيَــبْــتَــلِـي
    فَــقُــلْــتُ لَـهُ لَـمَّـا تَـمَــطَّــى بِـصُــلْــبِـهِ

    وأَرْدَفَ أَعْــجَــازاً وَنَـــاءَ بِــكَــلْـــكَــلِ
    ألاَ أَيُّـهَـا الـلَّـيْـلُ الـطَّـوِيْــلُ ألاَ انْـجَـلِــي

    بِـصُـبْـحٍ، وَمَــا الإصْـبَـاحُ مـنِـكَ بِأَمْثَلِ

  2. يقول عادل الاسطة نابلس جامعة النجاح:

    لا بد من ان تقرا رواياتي الثلاثة (ليل الضفة الطويل)(تداعيات ضمير المخاطب)و(الوطن عندما يخون)ان كان لديك وقت.

إشترك في قائمتنا البريدية