بعد انقضاء ثلاثة عقود على انهيار حكومات الكتلة الشيوعية في أوروبا 1989 وعلى هيمنة نظرة إيجابية للديمقراطية الليبرالية كالنموذج الإنساني الأفضل لإدارة علاقة الدولة بالمجتمع والمواطنين والصالح للتطبيق عالميا، ثمة حملة عاتية على الديمقراطية اليوم تضخم من نواقصها بهدف القضاء على مصداقيتها وتطرح كبديل لها صياغات سلطوية تشترك، وإن تنوعت يافطاتها، في النزوع نحو تقييد حركة المجتمع وإلغاء العديد من حريات المواطنين.
فقد اقترنت خبرة التحول نحو الديمقراطية في بعض دول شرق ووسط أوروبا بانهيار النظام العام والتدهور المستمر في الأوضاع المعيشية لأغلبيات واضحة من المواطنين وتوالي فضائح فساد كبرى تورطت بها رموز النخبة الجديدة من سياسيين ورجال أعمال على النحو الذي جعل من كلمة الديمقراطية مرادفا للفوضى في نظر الكثيرين داخل هذه المجتمعات وخارجها. وقد جسدت روسيا الاتحادية طوال سنوات حكم يلتسين التي امتدت من منتصف 1991 إلى نهاية 1999 هذه الخبرة السلبية بجلاء شديد، وتواكب معها تراجع حاد في الدور العالمي لروسيا التي استحالت من قوة عظمى إلى دولة من الدرجة الثانية تستجدي معونات الغرب الاقتصادية وينتزع الأخير منها ما يشاء من تنازلات جيو ـ استراتيجية وسياسية.
وفي مقابل تعثر بعض الديمقراطيات الجديدة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع وتزايد المعاناة المعيشية لمواطنيها اكتسبت الصيغة السلطوية التي عبرت عنها منذ التسعينيات الصين المطبقة بنجاح لاقتصاد السوق الرأسمالي دون انفتاح سياسي، ثم حذت حذوها تدريجيا روسيا الألفية الثالثة بقيادة بوتين الذي أعاد بأوتقراطية بناء مقومات النظام العام على نحو همش الحريات المدنية والسياسية للمواطنين وإن لم يمس باقتصاد السوق والمسيطرين عليه من كبار رجال الأعمال، مصداقية متصاعدة كنموذج بديل للديمقراطية الليبرالية. تمتعت التجربة الصينية بمعدلات نمو اقتصادي عالية، وحظت التجربة البوتينية ومعها استرجعت روسيا جزئيا عافيتها الداخلية وشيئا من دورها العالمي بجاذبية كبيرة في نظر نخب الحكم السلطوية خارج الغرب. وعمدت تلك النخب، وإليها تنتمي أغلبية نخب الحكم في بلاد العرب، إلى الدفع بالتجربتين للتدليل على أن تطبيق مبادئ الديمقراطية الليبرالية ليس ضروريا لإنجاز الأهداف التنموية للمجتمعات أو لمعالجة أزماتها الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة. بل روج لقراءة بديلة مؤداها أن الامتناع عن تطبيق مبادئ الديمقراطية الليبرالية ربما مثل شرطا رئيسيا لحماية المجتمعات من خطر الفوضى الشاملة وشبح انهيار النظام العام، ورتبت تداعيات الانتفاضات الديمقراطية العربية 2010 ـ 2012 ارتفاعا واضحا في أسهم تلك القراءة البديلة بعد أن حيل بين الانتفاضات وبين إنفاذ مبادئ التداول السلمي للسلطة وحكم القانون واحترام حقوق الإنسان وأدخلتها المقاومة العاتية لنخب الحكم السلطوية في دوامات صراعات وحروب أهلية كارثية.
ثم تصاعد التشكيك في الديمقراطية الليبرالية والحملة عليها في سياق آخر يرتبط بمجتمعات الغرب الأمريكي والأوروبي، ويكتسب أبعاده الزمنية مرتبطا بالأزمات الاقتصادية والمالية العالمية المتتالية. فإذا كانت دعائم الديمقراطيات الغربية هي حكم القانون والرقابة العامة على أصحاب السلطة والنفوذ بجانب تداول الحكم وحماية الحريات وحقوق الإنسان كضمانات تحقق الصالح العام، فان فضائح الفساد التي تعصف بالعديد من المجتمعات الغربية تظهر مدى ضعف آليات الديمقراطيات القانونية وأدواتها الرقابية لجهة ضبط حركة اقتصاد السوق والمتعاملين به. وبالمثل، يدلل الصعود غير المسبوق للحركات الشعبوية والعنصرية واليمينية المتطرفة التي باتت إما تشارك في الائتلافات الحاكمة في بعض العواصم الأوروبية أو تشغل مقاعد المعارضة ذات التأييد الشعبي المتميز أو تؤثر بوضوح في السياسات العامة التي تطبقها حكومات اليمين واليسار على امتداد أزمة الديمقراطية الغربية إلى قلب الفضاء السياسي. لا يلتفت لا الائتلاف الحاكم في النمسا (شراكة الحزب المسيحي الديمقراطي واليمين العنصري) ولا الحكومة اليمينية في الجمهورية التشيكية إلى القيم الإنسانية للديمقراطية الليبرالية حين يصيغون سياساتهم بشأن قضايا الهجرة واللجوء، ولا يبتغي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من سياساته الاقتصادية والتجارية الحمائية سوى الحصول على رضاء المجموعات السكانية المنجذبة إلى الأفكار الشعبوية والعنصرية والرافعة لشعار أمريكا أولا. مثل تلك التحولات في الغرب تدفع عشاق السلطوية إلى المزايدة على الديمقراطية الليبرالية والتمادي في إثبات فشل آلياتها، وصولا إلى حكم نهائي مفاده إخفاقها كنموذج في ضمان الصالح العام وعجزها عن التعامل مع مخاوف الناس من موجات الهجرة واللجوء ومطالبهم باتجاه سياسات حمائية تضمن لهم أماكن العمل بعيدا عن تقلبات الأسواق وحركة رؤوس الأموال.
على الرغم من كل ذلك، تظل الحملة العالمية على الديمقراطية عاجزة عن تقديم إجابة مقنعة على التساؤلات المشروعة حول نواقص ومخاطر السلطوية المطروحة كبديل. فالصين وروسيا تعانيان من صعوبات مشابهة للمجتمعات الغربية لجهة ضمان توازن اقتصاد السوق وعدم توحش الرأسمالية. بل الظاهر هو أن صعوبات الحكومات السلطوية وعنها تغيب آليات التصحيح الذاتي الحاضرة في الديمقراطيات، خاصة في روسيا حيث تسيطر مجموعة صغيرة من شاغلي المناصب العامة وأصحاب الأموال على الحياة الاقتصادية، ربما كانت أعنف. ولا يمكن إنكار أن فقدان الحريات المدنية والسياسية في الصين وروسيا وغيرهما من الحكومات السلطوية التي عادت راياتها تغطي مجمل بلاد العرب يعد نقيصة جوهرية ومصدرا لمعاناة قطاعات واسعة من المواطنين. ولن يكتب صعود الحركات الشعبوية والعنصرية واليمينية المتطرفة كلمة النهاية في التزام الديمقراطيات الليبرالية بالتداول السلمي للسلطة وحكم القانون وحقوق الإنسان، بل هو صنو موجة عاتية ستتجاوزها المؤسسات الديمقراطية مثلما تجاوزت موجات الفاشية والنازية من قبل.
٭ كاتب من مصر
عمرو حمزاوي
ما لنا بالصين وروسيا حتى نقيم الديموقراطية فيهما ؟
لنقيمها ببلادنا العربية لنعرف فشلنا في تطبيقها على أنفسنا
وأهم شيئ في الديموقراطية هو تقبل الآخر مع إختلافاتنا معه !!
ولا حول ولا قوة الا بالله
الديموقراطية منهج حكم و الليبرالية منهج تفكير في الحريات و اهمها الحرية الاقتصادية. و يمكن القول بوجود ديموقراطية ليبرالية و ليبرالية ديموقراطية حسب ايهما الحاكم او الرئيسي. الذي نشهده اليوم هو زيادة الليبرالية بمعنى زيادة حرية الرأسمالية مما ادى الى التوحش على حساب الجانب الاجتماعي الانساني.
بالطبع فان مراحل التحول الاولى من النظام الاشتراكي الى الرأسمالي تشكل صدمة و ينتج عنها تردي الوضع الاقتصادي للاغلبية التي لا تملك مهارات السوق بينما تتضخم ثروات الاقلية مستفيدة من عدم المنافسة القوية و من الثغرات في القانون.
اما التحول الى الليبرالية الديموقراطية و الذي بدأ بشكل واسع ايام تاتشر و ريغان و يتلخص بانسحاب الحكومة من السوق و تقليل تدخلها في تنظيم الاقتصاد فهو الذي ادى الى ما نراه اليوم من توحش الرأسمالية في البلدان الديموقراطية و الذي يجري النظر فيه و لابد من تعديله.