يقول المدققون في أحاديث وتصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انه يتجنب لفظ اسم العاصمة الاقتصادية والثقافية التركية «اسطنبول»، ويحرص في المقابل على تسميتها «القسطنطينية»، مع كل ما يحمله ذلك من ايحاءات واسقاطات تاريخية، تعكس طموحات واحلام روسيا القيصرية بالتطلع نحو الجنوب، لفتح الممرات المائية لاسطولها في البحر الاسود إلى «المياه الدافئة»، ووصولا إلى وسط العالم، قديمه وحديثه على حد سواء.
قبل مئة عام بالضبط من ايامنا هذه، وتحديدا يوم 26 نيسان/ابريل 1916، وقعت في مدينة سان بطرسبورغ في روسيا (القيصرية في حينه)، اتفاقية «سازونوف ـ باليولوغ» بحضور ومباركة الديبلوماسيين: البريطاني مارك سايكس، والفرنسي فرانسوا جورج بيكو. ولكن بعدها بعشرين يوم فقط، وتحديدا يوم 16 ايار/مايو 1916، وقعت في لندن اتفاقية «سايس ـ بيكو»، التي قسّمت الجزء الاكبر من المشرق العربي، باعتباره جزءا من «تركة الرجل المريض»، الامبراطورية العثمانية، بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي.
ولئن كانت اتفاقية سايكس ـ بيكو معروفة للجميع، وخاصة لضحاياها في المشرق العربي على وجه الخصوص، والتي عانينا من فرضها بداية، وها نحن نعاني الآن من سعي متخلفين هاربين من عصرنا وحضارته، إلى تقويضها، فان للاتفاقية الاولى قصة جديرة بان تروى:
بدأت بريطانيا فور اندلاع الحرب العالمية الاولى في صيف العام 1914، التخطيط لضمان الحد الاقصى من مصالحها عندما تنتهي تلك الحرب بالهزيمة المعروفة وشبه المعلنة سلفاً لدول المحور، ونواتها الاولى الامبراطورية الالمانية والامبراطورية العثمانية. كانت رغبتها الاستحواذ، منفردة، على ترِكَة الرجل المريض. وهذه «الترِكَة» هي نحن، شعوب المشرق العربي عامة و»الهلال الخصيب» خاصة. لكن بريطانيا، (التى كانت «عظمى»)، خشيت الفشل في تحقيق كامل ذلك الطموح، فاشركت فرنسا معها بدءا من اواسط العام 1915، للوصول إلى اتفاق ثنائي، تتقاسمان بموجبه تلك الترِكَة. وبعد الاتفاق الأولي على ترسيم حدود مصالح كل منهما ومناطق نفوذه في هذه المنطقة، تجاهلت بريطانيا وفرنسا مطالب ومطامع حليفتهما ايطاليا، ولكنهما خشيتا تجاهل حليفتهما الكبيرة روسيا القيصرية وردة فعلها، فاوفدتا سايكس وبيكو إلى العاصمة سان بطرسبورغ في مطلع ربيع العام 1916، لشرح ما اتفقتا عليه والحصول على موافقة روسيا. إلا ان روسيا القيصرية، وقيصرها نيكولاي الثاني، طلبت «حصتها» من «الرجل المريض» ذاته ومن ترِكَتِه ايضا، فاتفق المجتمعون على ما عرف في حينه باتفاقية «سازونوف ـ باليولوغ»، التي وقعت في بطرسبورغ يوم 26 نيسان/ابريل 1916، وحصلت روسيا بموجبها على ولايات ارضروم، طرابزون، وان، يتليس (ارمينيا التركية)، وعلى منطقة في القسم الشمالي من اراضي كردستان، على الخط الممتد من موش وزعرت وجزيرة ابن عمر والعمادية لغاية الحدود الإيرانية، حيث تبلغ مساحة تلك المنطقة نحو 150 الف كيلومتر مربع، ما بين الشاطئ الجنوبي للبحر الاسود ومنطقة شمال الموصل.
ربما كان هذا ما سيتم لولا بدء موجة اضطرابات عارمة في تلك الايام، غطت المدن الروسية وادت إلى سقوط القيصر وتشكيل سلطة مؤقتة سرعان ما انهارت، ليتسلّم البلاشفة بقيادة لينين زمام السلطة، حيث قُتل القيصر الروسي الاخير نيكولاي الثاني وافراد عائلته وحاشيته، وبدأ تشكل الاتحاد السوفياتي. انشغلت روسيا ونظامها الجديد بشؤونها الداخلية، وانهت دورها في الحرب، ولم تكن في وارد أي توسع، متفرغة بالكامل لتثبيت سيطرة النظام الماركسي الوليد، على الاراضي الواسعة التي تتكون منها الامبراطورية الروسية.
كان هذا قبل مئة عام، بالتمام والكمال، عندما بدأ لينين في انشاء امبراطوريته السوفياتية، التي عمّرت سبعين عاما، على انقاض القياصرة، ونقل عاصمته من سان بطرسبرغ إلى موسكو، حيث تزامن ذلك مع بدء مصطفى كمال (اتاتورك، لاحقا)، في اقامة جمهوريته التركية العلمانية، على انقاض الخلافة والسلاطين العثمانيين وامبراطوريتهم مترامية الاطراف، ونقل عاصمته من اسطنبول إلى انقرة.
اتمت كل من روسيا وتركيا في هذه المئة عام دورة كاملة من 360 درجة: روسيا في الموقع الذي غادرته قبل قرن واحد. ما تغير هو اسم الدولة الذي كان «الامبراطورية الروسية»، واصبح الآن «روسيا الاتحادية»، واسم القيصر الذي كان نيكولاي الثاني آل رومانوف، واصبح الآن فلاديمير بوتين، أما العاصمة فبقيت موسكو.
وعلى الجانب الآخر عادت تركيا إلى الموقع الذي غادرته قبل قرن واحد.
ما تغير هو اسم الدولة الذي كان «الدولة العليّة العثمانية»، واصبح «الجمهورية التركية»، واسم السلطان الذي كان عبد الحميد آل عثمان، واصبح الآن رجب طيب اردوغان، واما العاصمة فبقيت انقرة.
لا يعني ذلك مطلقا اننا على عتبة تطورات ميدانية بحجم ما كان مخططا له في صيف العام 1916 على الصعيد الروسي التركي. فعالَم اليوم غير عالَم الامس، وما كان يصح في اعقاب الحرب العالمية الاولى لم يعد ممكنا، ولم يعد مقبولا. وقد حسمت تطورات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية هذا الامر نهائيا.
لكن التأكيد على استبعاد تفكير روسيا في الاستيلاء حتى على شبر من ارض تركيا، لا يعني اكثر من استبدال الاساليب والخطوات العملية لتحقيق الاهداف الثابتة لروسيا، في فتح وتأمين الممرات المائية لاسطولها، وتمكينه من الوصول إلى البحر الابيض المتوسط، والانتشار منه في كل بحور ومحيطات العالم. تتغير الاساليب والادوات والبرامج، ولا تتغير الاهداف العليا للدول والشعوب.
صحيح ان للقوة العسكرية وزنا وتأثيرا بالغا في أي مواجهات من أي نوع كان. لكن للقوة، بذاتها، حدودا للقدرة، لا تستطيع تجاوزها. فللمجتمع الدولي وللشرعية الدولية وللنظام العالمي السائد في أي مرحلة من مراحل التاريخ حضور وقدرة على ضبط تحركات الدول، رغم الاختلاف الكبير بين ما هو مسموح وما هو ممنوع لهذا الطرف او ذاك، وتناسب ذلك الاختلاف مع ما يملك الطرف المعني من عناصر القوة بكل اشكالها، اضافة إلى المبررات التي يستطيع الطرف القوي عسكريا الاستناد اليها وهو في طريقه لفرض ارادته. وكثيرا ما كان الطرف الضعيف هو الموفر لتلك المبررات، وغالبا نتيجة غياب الحكمة الكافية، وامثلة ذلك كثيرة.
لقد اثارت تركيا، بعد اسابيع من بدء التدخل العسكري الروسي في الحرب على سوريا، غضب روسيا. لكنها سابقت الريح في التحرك لشرح وتفسير دوافعها، استرضاء لـ«الدب الروسي» ولوقف التصعيد وتجنب مواجهة محسومة النتائج مسبقا.
اخيرا، من لا يقرأ التاريخ لا يفهم الحاضر، ومن لا يفهم الحاضر لا يرى المستقبل، ولا يصل اليه.
٭ كاتب فلسطيني
عماد شقور