القاهرة – «القدس العربي»: لم تزل المدارس الكلاسيكية في الفن التشكيلي تتحاور مع عين المُشاهد من خلال خبرات الفنانين المصريين، سواء من خلال الرؤية أو التكنيك، دون أن يسلب هذا من الفنان تجربته الخاصة، التي تدور في فلك هذه المدرسة أو تلك. وتكون المراهنة هنا على مدى قدرة الفنان في تجسيد عمله وفكرته من خلال هذه المفردات. هذا ما نلحظه في عدة معارض تشكيلية شهدتها القاهرة مؤخراً، أولها معرض الفنان أحمد الجنايني، المعنون (رحلة فن/ذاكرة اللون والوجدان)، والذي أقيم بأتيليه القاهرة، وقد اتخذ الروح والتكوين السريالي، كذلك معرض الفنان عماد رزق، الذي تجسدت أفكاره من خلال المدرسة التعبيرية والتأثيرية في الفن، وقد أقيم معرضه في قاعة زياد بكير/دار الأوبرا المصرية. وأخيراً معرض (أصداء الأزمنة 2) للفنان مجدي عبد العزيز، والذي أقيم في قاعة الباب/دار الأوبرا المصرية، وهو هنا يمزج ما بين المدرسة التكعيبية والخط العربي في حالة متناغمة، دون تغريب، فأصبحت التجربة الفنية قادرة على احتواء حالة متناغمة من الوعي والحِس في لحظة بصرية لافتة. تنطلق الأعمال من خلال مدارس كلاسيكية لها ثقلها في الفن التشكيلي، منها ما كان ثورة في الفن وقتها، لكن روح التجريب في هذه الأعمال تحاول الحفاظ على هذه الثورة قدر الإمكان.
مجموعات الجنايني السريالية
جاءت أعمال أحمد الجنايني من خلال مجموعات أطلق عليها اسماء دالة لتجتمع تحت موضوع واحد، مثل … وادي الجمال، إنسانيات، ومجموعة الشهيد، والتي من خلالها نشهد الحِس السيريالي الواضح، من حيث المخلوقات الخرافية، والتكوينات ورؤية العالم، واللون الطاغي ــ الأصفر والرمادي بشكل خاص ــ حالة متوترة تحكم اللوحة وإيقاعها، خاصة عند وضع التكوينات وخلق هذا التوتر أكثر من خلال تشكيل الأجسام في مقدمة وخلفية اللوحة، كائنات شبحية تتساوى فيها الطفولة وأجساد الموتى، بحيث تختلط حالات الميلاد والموت في لحظة عابرة، تشوّش مقصود بالطبع من صاحب العمل، دون نسيات الطقس الاحتفالي، خاصة في حال الشهداء/الموتى وكأنهم في قدّاس جنائزي مستمر، يكاد يتجاوز إطار اللوحة، ويدعو إلى الاستمرار … تكرار الأجساد أو الشكل الدائري المغلق. ملحوظة أخرى لافتة في أعمال الجنايني تتمثل في استلهام الموروث البيئي والشعبي والإصرار عليه، سواء عالم القرية المصرية، الريف والبيوت والحيوانات والطيور، أو روح الحضارة القديمة، خاصة الموت وطقوسه، فالأجساد كلها تتشكل كالمومياوات، لكنها خارجة حيّة من توابيتها، تطالع الفضاء والناس، لتصبح أكثر منهم وجوداً وتأثيراً/رحلة الموت والعودة، ومورثات الشهداء الأحياء، ليمتد هذا الحِس حتى شهداء الثورة، التي لم تزل مشاهدها ولقطاتها لم تغب رغم كل ما يحدث. ضجيج النسيان هذا تخرسه اجساد الموتى، وهذا الثقل في تكوين الجسد، رغم هشاشته وهزلانه، وهو ما يخلق حالة من التعارض بين الضعف والقوة، ليبدو أكثر تأثيراً على جميع مفردات اللوحة.
البيئة الشعبية بروح تكعيبية
زمن قديم يحاول أن يجسده الفنان مجدي عبد العزيز، سواء من خلال أعمال التصوير أو الغرافيك، هنا تبدو القاهرة الإسلامية والحِس بشوارعها وحواريها، الحِس فقط دون التجسيد الكامل، فاللقطات/اللوحات تأتي في شكل لقطات كبيرة/تفصيلة توحي بحالة أكثر مما تجسده داخل إطار اللوحة. كزخارف أسوار أحد المساجد الشهيرة بالقاهرة، أو مشربية تقف خلفها امرأة/هكذا تصبح المشربية في الوعي الشعبي، ويتخذ الأمر شكلاً آخر من خلال الخط العربي وتنويعاته وتحوراته الدائمة، كأن يصبح خلفية في لوحة، أو يصبح هو العنصر التشكيلي الوحيد في لوحة أخرى، خالقاً تكوينات جديدة تماماً على التكوين الأصلي لهذا الخط أو ذاك. الروح التكعيبية تحضر بشدة خاصة في لقطات الشخصيات، حيث الشخصية هي البطل، أشبه بالبورتريه، لنساء شعبيات، والحفاظ على إكسسواراتهن المميزة .. منديل الرأس، الحَلق، الجلباب الشعبي المميز لنساء الحارات، العين التي ترى وتختزن الكثير من خبرات وتفاصيل بصرية، كل هذا يوحى به في إيقاع وتكوينات تكعيبية، تتخذ من الأشكال الهندسية بنية أساسية في اللوحة. تجربة ثرية ورصينة من حيث المساحات اللونية والتركيب الشكلي والزخرفي، دون أدنى شعور بحالة من حالات التغريب، بل تجعل المشاهد يعيد ترتيب واكتشاف تجربته البصرية، بعيداً عن الأنماط البصرية التي تربّت عليها مخيلته.
حيوات المخاليق
ومن السريالية والتكعيبية في أعمال الجنايني وعبد العزيز، ينطلق الفنان عماد رزق من المدرسة التعبيرية وصولاً إلى التأثيرية، ليصبح أكثر اقتراباً من حياة الناس وأفعالهم اليومــــية، أعمـــال توحـــي بالحــركة والصخب الدائم، تجسد البيئة المصرية والأحياء الشعبية، ويوميات الإنسان المصري وطقوسه، ما بين البيع والشراء وتناول الطعام على عربة فول، والجلوس على المقاهي، وصولاً إلى حلقات الذِكر الصوفي، حركة دائمة لا ترتكن إلى لحظة سكون واحدة، على العكس من وجوه الشخصيات ــ الشخصيات هنا أبطال في دراما لا تنتهي ــ هادئة ومُسالمة وحالمة ومستسلمة في أكثر الأوقات. نستطيع أن نستكشف العديد من الحكايات ونتخيل مواقف أصحابها، الأمر أقرب إلى لقطات سينمائية، فالرجال في الصباح يجتمعون حول عربة الفول، وهو مشهد اعتيادي في الشوارع المصرية، ورجل مُسن يجلس أمام دكانه في هدوء، والشارع الطويل المزدحم بالرواد يطالعه بصخبه. الصعوبة في تجربة عماد رزق انه يأتي بلقطات مألوفة، فيصبح عنصر الإدهاش لا يأتي من حالة بصرية جديدة على عين الرائي، ولكن من خلال التداعيات حول هذه الشخصيات، والسير والوقوف بينهم، ومطالعة ملامحهم القريبة جداً من ملامح المُتلقي وعالمه.
محمد عبد الرحيم