تجاعيد

لأن كل بشر إلى نهاية، فإن قصة البشرية هي قصة حزينة مؤلمة في مجملها، من غبار النجوم أتينا وسنغادر على الشاكلة ذاتها، ذرات غبار تنتفض نفضة ثم تنتشر في الكون الواسع، ليس هناك هدف أو سبب أو غاية، قصة حزينة يائسة بائسة تتوجها نهاية غير ذات مغزى، وكل النهايات حزينة، كلها تخلو من المغزى، كلها تغوص في العدم.
إلا أن الإنسان لم يستطع أن يواجه هذه العدمية، فخلق لنفسه قصة، خلق لنفسه استمرارية لا تتجلى إلا في الضمير والذاكرة البشريين، ولأن هذين إلى عدم كذلك، ستموت معهما قصة الإنسان، كل تاريخه، كل انجازاته، كل قصة صغيرة لكل واحد منا، كل حكاية عظيمة لأبطالنا، كل تاريخ زاخر لأممنا، هي تحيا فقط من خلال ذاكرتنا وتتنفس من خلال سردنا وتستمر من خلال توثيقنا، وعندما ننتهي ستنتهي هي كذلك، وكأن كل شيء لم يكن. ان حكايتنا الإنسانية لهي أكثر القصص حزنا وعبثية.
وجدت هذه الفكرة نخرا في قلبي بعد أن قرأت خبرا صغيرا هامشيا ولربما كوميديا كذلك. سيدة بريطانية في الخمسين من عمرها قررت ألا تبتسم منذ أن كانت في سنوات مراهقتها، وبقيت مقاطعة للابتسامة لما يقرب من الأربعين عاما تجنبا لظهور التجاعيد على وجهها. استطاعت هذه السيدة أن تتفادى الابتسام حتى في يوم مولد ابنتها، وتقول هي إن تلك طريقة ناجعة لتفادي خطوط الزمن وكل ما تتطلبه من علاجات ومبالغ ضخمة في وقت لاحق من العمر. تجزم السيدة أن ذلك تطلب منها تمرينا عضليا كبيرا وقدرة مؤثرة على التحكم في وجهها لتمنعه من الابتسام. لسبب ما، رسب هذا الخبر، رغب ما يبدو من كوميديته، حزنا عميقا في قلبي، حزنت جدا لهذه السيدة التي أضاعت أحلى سني عمرها دون ابتسام لتحافظ على شيء هو غير ذي وجود أو معنى في الأصل. لو تعلم هذه السيدة ضآلة هدفها وعبثية جهودها، لو تعلم ما ضيعت من وقت قصير جدا وثمين جدا هو كل ما لها في هذه الدنيا، لو تعلم كم أناني هو ما فعلت، ألا تبتسم في يوم في وجه طفلتها، ألا تشارك والديها ضحكة، الا تقدم تعبير عشق لحبيبها، لو تعلم قيمة ما ضيعت من أجل ما لا قيمة له، لما عذبت نفسها بهذه الصورة الحارقة الآثمة.
وإلى ما هو أبعد من ذلك، فإن أجسادنا هي خريطة أعمارنا، هي السجل الذي نوثق عليه تاريخنا، أفراحنا وأتراحنا، فكيف يمكن لبشر أن يفكر أن يترك هذا السجل خاليا لمجرد المحافظة على شكله الجديد البراق؟ وما المعنى من ذلك وما المغزى منه؟ ذات زيارة لطبيب متخصص في الأمراض الجلدية، عرض علي تكنولوجيا ليزرية جديدة لإزالة خطوط الحمل التي تحفرها الأشهر التسعة على منطقة البطن، أخذت مهلة أسبوع لأفكر، ففكرة استعادة شباب الجسد التام بدت غاية في الإغراء، الا أنني انتهيت بإجابته بالرفض، لم أكن أتخيل أن تزال كل آثار أولادي من على جسدي، ما كنت لأعرف هذا الجسد، ما كنت لأميز تاريخي اللحظي القصير في هذه الدنيا اذا ما محيت آثاره من على جسدي، خفت أن أتوهه عن نفسي، وغلب خوفي رغبتي الإنسانية الشديدة في إعادة ساعة الزمن، فقلت لا.
لست أدعي طبعا كمال مبدئي هذا، فأنا لا زلت أبحث عن مستحضر يبقي على مظهري، لا زلت أسعى للتكنولوجيا الطبية التي تبطئ ساعة الزمن، لا زلت أمارس ما أستطيع من طقوس تطيل عمر شباب الشكل والجسد، ولكنني لا أتخيل أن يخلو هذا الجسد من حكاياتي تماما، من لحظات الفرح، لحظات الألم، لحظات المرض، لحظات التعافي، انها في مجموعها أنا، هي كل ما يعرفني ويقدمني لحياة ستنساني بعد وقت قصير جدا، هي في لبها تاريخي، وهي ما يثبت وجودي، وعندما أختفي وتختفي، ستنتهي قصتي، فلم أسع للنهاية قبل وقتها، لم أمحوني من ذاكرة نفسي قبل الأوان؟
كلما فكرت في هذه السيدة الخمسينية تذكرت صورة وجهها المتجهم الخالي من التجاعيد والخطوط، النظيف من أي علامة فرح، من أي تعبير حياة وكأنه صفحة بلاستيكية تستعرض البؤس والجفاء، تنتابني موجة عارمة من الحزن، وكأنها بفعلتها قد أخذت من حق البشر جميعا وليس حقها هي فقط، وكأنها ضحت بفرح الناس كلهم وليس فرحها هي فقط. في فعلتها خيانة، خيانة لوقتنا القصير وتاريخنا المرير الذي لا تقدرنا على ابتلاعه سوى لحظات الضحك القليلة في حيواتنا. لقد أخذت هذه السيدة من مجمل نصيب البشرية في الابتسام والسعادة، انتقصت من مخزوننا الجمعي القليل، ولهذا أنا حزينة عليها وغاضبة منها وكأني بها تستحق محاكمة على ما سرقت من البشرية جمعاء. ولن يكون حزني وغضبي ومقالي هذا سوى هباء منثورا بعد وقت قصير، فكيف أخرج منهم جميعا إلى لحظات الفرح القليل؟

د. ابتهال الخطيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    أحسنت يا دكتورة ابتهال أحسن الله اليك ولا حرمك من الابتسام والفرحة

    فعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
    ( تبسمك في وجه أخيك لك صدقة ) رواه الترمذي .

    قال عبد الله بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ: ( ما رأيت أحدا أكثر تبسّما من رسول الله – صلى الله عليه وسلم ـ ) رواه الترمذي وصححه الألباني .

    وعن جرير بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: ( ما حجبني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذُ أسلمتُ، ولا رآني إلا تبسمَ في وجهي ) رواه مسلم .

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول د. اثير الشيخلي- العراق:

    اتمنى ان تواصل الدكتورة ابتهال الكتابة ببراعة حول مثل هذه المواضيع التي تجلب الإبتسام و الراحة افضل بكثير من تلك المواضيع المثيرة للجدل اياها !

  3. يقول المختار:

    تحية لأرواح المسلمين الثلاثة الّذين قتلوا في بلاد الكاوبوي
    أين الكلام و أين العبارات، أين التنديد. سمعنا الكثير من التحليل و التفاسير عن هويتنا و تقاليدنا و ثقافتنا الّتي تستدعي الدم و القتل و لم نسمعها لأننا احتللنا و دمرنا بلداناً خارجية و نهبنا ثرواتها و أرسلنا مبشرينا الدينيين ليتبعهم في خطاهم جنودنا العصابيين الهمجيين و في إثرهم مواطنونا ذوي الدم النقي ليعمروا أراضي غير المتحضرين. سمعنا كل هذا و نحن الضحايا، نحن المستَعمَرُون، نحن القتلى، و حتى حقنا في ثورة و ربيع يعيد لنا بعض حقوقنا و يمكننا من تحقيق ذواتنا أنكروه علينا و أعطونا بدلاً حربا و قتلاً، و في الأخير يأتي بعض من كتابنا ليرمينا بكل مساويء الدنيا لأن اثنين خرجا من أين لا ندري ليقتلوا من لا ندري لنُتَّهم بلا ما ندري.

  4. يقول ابو سالم:

    أنا ابتسم فأنا موجود،

  5. يقول رياض- المانيا:

    شكرا د. ابتهال على هذا المقال الذي اتفق مع د. الشيخلي بانه يجلب الراحة بدل المواضيع اياها المثيرة للجدل. رأي الشخصي ان الجمال هو جمال الروح، مع عدم اهمال جمال الجسد وهذا ما اراد ان يوصله ابن حزم رحمه الله في كتابه الجميل طوق الحمامة، تساءل ابن حزم عن تفسير اسراع الحي بدفن حبيبه الذي مات والذي كان يهوى قربه، فقدم تفسيرا منطقيا وهو ان الحب ليس بين اجساد، بل بين ارواح، وان الجمال وسره هو جمال الروح لا الجسد الذي سيصبح ترابا، فمجرد خروج الروح من ذلك الجسد، يكون الجسد الذي كان وعاء للروح، قد فقد بريقه وسر انجذاب المحبوب اليه، لان الشيء الاهم قد خرج من هذا الجسد. فالحب هو تلاقي للارواح قبل ان يكون تلاقي لاجساد فانية. اما موضوع الهرم وتغير شكل الانسان مع مرور الزمن، فاني ارى التجاعيد تمثل طرق الحكمة التي سلكها صاحبها في حياته فرسمت على الوجوه، والشيب هو الوقار كما قال احدهم، عيرتني بالشيب وهو وقار.. يا ليتها عيرتني بما هو عار!! ارى ان لكل مرحلة عمرية معينة بريقها وجمالها الاخاذ، وان محاولة وضع اقنعة بلاستيكية مصطنعة، قد تنجح لبعض الوقت، ولكن واضعها سيعلم الحقيقة المرة، وهي انه يوما ما لن يوجد مكان جديد لدق مسامير القناع الاصطناعي الاخير!!! وهنا تحدث الصدمة التي سيواجهها كل انسان وهي ما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ما انزل الله من داء الا وجعل له شفاء، الا الهرم، اي الكبر، فلندع القلق ولنبتسم للحياة على مبدأ خير البشر، تبسمك في وجه اخيك صدقة.
    فالجمال السرمدي الباقي هو جمال العلم والادب
    واني اكتب بهذا المعنى خاطرة لي
    عناق الروح اسمى من عناق  ….    يتعانق فيه تراب مع تراب
    تحية لك وللمعلقين

    1. يقول سلمى:

      أخ رياض أقترح عليك , ان لم تكن قد قرأته بالفعل، قصة بعنوان ” قبح جميل” للرافعي في كتابه ” وحي القلم” ستعجبك ان شاء الله لأنها تتفق مع رأيك في الجمال و هي قصة رائعة. مع تحياتي

    2. يقول رياض- المانيا:

      تحية لك اخت سلمى وشكرا على الاقتراح، لا لم اقرأه للرافعي وساطلع على الموضوع… شكرا لك

  6. يقول خالد عرادة الاردن:

    تحية اليك سيدني الجميلة على هدا المقال المتميز والدي اعتبرة اهم بكتير من كتير من المقالات التي نقرئها هدة الايام قبرغم بساطة الفكرة وعدم اهميتها للوهلة الاولى الا انها اخدتني الي سراديب وحواري وازقة كتيرة في الدات البشرية والنفسية وجعلتني اقف كتيرا عند الكتير الكتير من العبث الدي نمارسة في حياتنا اليومية وبانتظام ومع سبق الاصرار والترصد تحت الكتير من المسميات في كل شيئ بارك اللة فيك سيدتي الجميلة والى الامام

  7. يقول منی:الجزائر.:

    اتفق معك استاذة إبتهال في متن المقال؛ وأختلف معك فيما ذكرتيه في مقدمته؛ ياأستاذة إبتهال حال مقدمتك كحال السيدة التي لم تبتسم منذ سنيين؛ أن يؤمن الإنسان أنه من عدم والی عدم ؛ ونظرية الصدفة القااتلة هذه؛ لا أدري حقيقة من يؤمن بها كمبدأ في حياته؛ كيف له ان يستمر في هذه الحياة البائسة؛ حالي معك كحالك مع السيدة البريطانية بالضبط.لكن في الشق الفكري والروحي؛ أتمنی عليك ان تتفهمي أسطري.
    ودمتم إخوتي المعلقين جميعا بألف خير.

    1. يقول رياض- المانيا:

      تحية لك اختي منى ولتعليقك النير، وانا فكرت ان اكتب نفس ما كتبتيه بالضبط، وقلت في نفسي بما ان د. ابتهال مقتنعة بانها جاءت من العدم والى العدم ولطالما لم تهاجم رغبة الاخرين في التدين واقتناعهم بان الاسلام على عكس ما تكتب هو الحل للعديد من المشاكل وليس المشكلة، فقلت ورغم مرارة ما كتبت فما دامت مقتنعة بذلك فلها الحرية وكل منا مسؤول عن نفسه ولا حول ولا قوة الا بالله

    2. يقول د. اثير الشيخلي- العراق:

      سبحان الله ، و لكن بما انكم اثرتم ما حاولت ان اتغاضى عنه و افسره تفسيرا اخدع به نفسي، بما انكم اثرتم ذلك ، اسأل الدكتورة الخطيب و هي صاحبة الشهادة التي تتطلب يقينا بشروط البحث العلمي ، و ايراد اﻷدلة على كل ادعاء و دعوى ، ما دليلك أيتها الدكتورة الفاضلة اننا من غبار النجوم و صائرون اليها ؟!
      علماء الفيزياء و الفلك لا يزالون غير متفقين حول نظرية اﻹنفجار العظيم و حائرون حول نشأة الكون و اصله ، فهلا شاركتيموهم هذه النظرية و وضعتي ادلتها بين ايديهم !
      اما ايراد دعاوى من غير أدلة فذلك يتناقض و كما تعلمين مع شروط البحث العلمي.
      تحياتي لﻷخ الفاضل رياض و لﻷختين منى و سلمى .

  8. يقول سلمى:

    المجد و الشرف الرفيع صحيفة … جعلت لها الأخلاق كالعنوان
    و أحب من طول الحياة بذلة… قصر يريك تقاصر الأقران
    فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها… فالذكر للإنسان عمر ثان
    أمير الشعراء.
    نموت و تبقى أعمالنا لأنها مفتاح حياتنا الآخرة و لذلك أنا أرى للحياة الدنيا قيمة كبيرة . أعجبت كثيرا, كأم, بما قلتيه عن الاحتفاظ بذاكرة جسدك كأم حملت و تعبت , و لكني ,. و بابتسامة أقول أني , عكس قراء آخرين, لا أمانع ما يصفونه بالمواضيع المثيرة للجدل و أرجو أن لا تدفعك كثرة المنتقدين لرأي أو كثرة المتفقين على آخر لممارسة رقابة ذاتية على ما تكتبين. فأي معنى يكون لوجودنا ان لم نختلف و نتناقش ما دام الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية. شكرا على المقال

  9. يقول Issa Mohamed, Jordan:

    سأل عربي صديقه الأمريكي: كيف أعمار موتاكم جميعا اقل من ثلاث سنوات؟؟ الجواب: نحن نسجل لحضات الفرح والسعادة فقط على شاهد القبر.

  10. يقول حسان .:

    الخلود هدف أزلي للإنسان منذ أن أدرك وجودة . الشعور بالمسؤولية الفردية عن إختيار الأفكار وتبعاتها , وما وتولدة في النهاية من أفعال , وإختيار السوى الذى يسعدة ويسعد أحبابة من أهم ما يحتاجة الإنسان , وإذا كان الحزن سيفيد في شيئ فليحزن . الخيار خيارة .

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية