لا يمكن أن ينكر أحد حجم الدراما التي أحاطت بفترة ما قبل الترشح للانتخابات الرئاسية وصولا إلى إعلان قائمة أسماء المرشحين التي يفضل البعض تسميتها مرشح ونصف، أو مرشح وكومبارس. وأيا كانت التسمية التي تطلق بشكل ساخر فإنها قادرة على التعبير عن جزء أساسي من الإشكاليات التي أحاطت بالمرحلة السابقة على الانتخابات المفترض عقدها في آذار/ مارس 2018 حيث تحول جزء أساسي من التحدي في وجود مرشحين. ورغم التأكد من أن الرئيس عبد الفتاح السيسي سوف يعلن ترشحه للمنصب، إلا أن إعلانه ظل مؤجلا لفترة بعد فتح باب التسجيل، في حين أن الاسماء التي أعلنت عن نيتها أو سعيها للترشح ظلت مجرد اسماء محتملة لم يصل أي منها إلى درجة الترشح الرسمي. ولم يتجاوز البعض خطوة إعلان النية التي كانت كافية للدخول في دوائر من العقاب والاستهداف المعنوي والمادي والقانوني لهم ولأسماء تدعمهم. لقد ظل مسلسل دراما البحث عن مرشح انتخابي يتصاعد، وكلما تصور المشاهد أن الاسم المطروح هو غاية المراد يفأجأ بأن التفاصيل أكثر أثارة مما توقع، وأن الوقائع لها كلمة أخرى تؤكد أن مصر ما بعد 25 يناير/كانون الثاني ليست قبلها وأن السيناريوهات ليست مؤكدة.
ورغم أن النتائج كانت تبدو شبه محسومة، بغض النظر عن الأسماء التي كانت مطروحة، ورغم كل المغريات المتعلقة بخطاب الديمقراطية والإصلاح وسهولة ترويجها في الغرب، لم يستطع النظام أن يخاطر بالهدف النهائي وهو التفويض حتى وإنْ كان تفويضا شكليا تتم صناعته وتعليبه من خلال السلطة والإعلام المؤيد.
أدرك النظام الحاكم عبر التجربة أن الوقائع يمكن لها، إنْ أحسن استخدامها وتوظيفها في الداخل والخارج، أن تدافع عن وجوده وتدعمه، وإنْ كانت كل التحديات قد مرت باسم التفويض والتأكيد على أن الحاكم هو مفتاح السياسات الصعبة، فترويج خطاب التفويض ضرورة بقاء واستمرار وتمرير سياسات لا تقل صعوبة في المستقبل. ومن أجل التفويض أصبح من الضروري أن تكون انتخابات الرئاسة بكل ما يحيط بها تدشينا لمسار التفويض وإخراج لكل الأسماء الأخرى التي يمكن أن تشكل تهديدا وقيمة في اللحظة والمستقبل.
أعادت مرحلة البحث عن مرشح رئاسي للواجهة حديث الحاكم الأوحد الذي لا يقبل بوجود أسماء أخرى تنافس وجوده. وكما حرص السيسي على تقزيم مصر من أجل تعظيم مكانته، وتضخيم المشكلات من أجل تعظيم سياساته بوصفها إنجازات، كان من المهم تقزيم كل الأسماء الأخرى وبشكل أساسي التي تشترك معه في الخلفية العسكرية. ولهذا، وخروجا على كثير من الممارسات المعتادة، تم التعامل بحدة مع الأسماء التي أعلنت مجرد النية في الترشح بداية من العقيد أحمد قنصوه الذي حكم عليه بالسجن، وصولا إلى أسماء لها وزن أكبر مثل الفريق أحمد شفيق والفريق سامي عنان إلى درجة الاختفاء وعدم القدرة على التواصل معهم أو معرفة أماكنهم لفترة، ووضع عنان في السجن الحربى مقابل أحاديث عن رفض بعض القيادات داخل الجيش لمثل تلك الممارسات لأنها تحمل قدرا من الإساءة لشخصيات عسكرية كبيرة، وهو أمر يسهل إدراكه بمقارنة هذا الوضع مع تعامل المجلس العسكري مع الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك ورفض ما اعتبر إهانة له ولمكانته العسكرية رغم الثورة وأجواء الغضب التي صاحبتها والتي كان يمكن أن تبرر محاسبته وسجنه وهو ما لم يحدث فعليا. في محاولة ضمان التفويض تم التأكيد على تشويه الاسماء الأخرى، وتم الربط بينها وبين الفساد خاصة مع تصريحات السيسي الحادة والمثيرة للجدل عن الفساد والفاسدين الذين يسعون للوصول للسلطة وتأكيده على عدم السماح بهذا. وبعيدا عن ما تثيره تلك التصريحات من تساؤلات عن حماية الفساد المعروف، فإنها إلى جانب أحاديث وتقارير إعلامية، تربط بشكل غير مباشر بين شخصيات عسكرية كبيرة وفساد مفترض وتعلن أن النظام يعرف هذا ويتجاوز عنه ما دامت تلك الأسماء لا تهدد كرسي الحكم.
في الوقت نفسه أدخل الجيش بوصفه طرفا في الصراع بشكل يثير تساؤلات ومخاوف لا يمكن التقليل منها في واقع يتميز فيه الجيش بأنه عابر للطبقة لدرجة كبيرة مقارنة بغيره من المؤسسات، وبعد أن حمل ولو بشكل جزئي صورة الداعم للشعب مقابل السلطة عندما لم ينتصر لحماية بقاء مبارك في السلطة، حتى وإنْ كانت القراءة المغايرة ترى أنه قام بحماية مبارك عبر الانتصار الجزئي لحالة الغضب وانتظار تغير مزاج الجماهير وتحميل الأخطاء التالية لثورة يناير/كانون الثاني. في النهاية لم يعلن الجيش أنه ينتصر لفرد أو يتماهى معه، ومن الخطورة أن يتم تقديمه بوصفه جيشا لحماية نظام أو فرد حاكم. ولهذا ظهرت تساؤلات عديدة عن دور الجيش في حماية التجاوزات التي صاحبت مرحلة الترشح للانتخابات، وتم استحضار مشهد ترشح السيسي بالبدلة العسكرية ودعم الجيش له مقابل انتقاد قنصوه لأنه أعلن عن نيته وهو يرتدي البدلة العسكرية، وكيف تمت إدانة إعلان قنصوه وعنان لنية الترشح لأن الأول مازال في الخدمة والثاني في حالة استدعاء منذ ثورة يناير/كانون الثاني. تبريرات وتفسيرات تطلق هنا وهناك، وجدل بين حقيقة انتهاك الوضع العسكري من عدمه خاصة وأن ما أعلن هو النية في الترشح وفقا للإجراءات القانونية والقواعد المطلوبة.
يظل في النهاية وخارج هذا الجدل أن الجيش ظهر بوصفه أكثر اتساقا مع الحاكم، وأن أردنا الدقة هو إضافة للسيسي وهو يدخل مرحلة جديدة يؤكد فيها أن ما حدث منذ «7 أو 8 سنوات لن يتكرر» وهو الأمر الذي اعتبر إشارة إلى ثورة يناير/كانون الثاني التي وللمفارقة قادت بدورها للحظة وأخرجت مبارك وأسرته من السلطة وساهمت في وصول السيىسي لها.
في الوقت نفسه ساهمت الانتهاكات التي تمت من خلال استهداف الأسماء الأخرى المحتملة عبر وسائل الإعلام أو رفع قضايا أو غيرها من الوسائل بما فيها الشكاوى التي قدمت للجنة العليا للانتخابات والخاصة بقيود عمل توكيلات باسم بعض المرشحين كما حدث مع المحامي خالد على، إلى جانب بداية الحملة الانتخابية الداعمة للسيسي بشكل مبكر ومتجاوز لقواعد الحملات الانتخابية والدعاية المفترضة بشكل غير مباشر عبر مسمى مكرر هو مطالبته بالترشح، وإدخال الكثير من مؤسسات الدولة في تلك الحملة ودعمها له بشكل علني مخالفة للقواعد المنظمة.
ورغم أن بعض الاسماء في الإعلام المؤيد للسلطة بدأت تؤكد على أهمية وجود مرشح آخر بعد صدور بيان جون ماكين رئيس لجنة خدمات الدفاع في مجلس الشيوخ الأمريكي الذي انتقد من خلاله التضيق على المرشحين والتساؤل عن درجة الحرية التي يمكن أن تتمتع بها الانتخابات إن لم تكن تعددية، وطرحت فكرة وجود مرشح آخر بوصفها قضية قومية مطالبة بترشح رئيس حزب الوفد قبل اختيار رئيس حزب الغد موسى مصطفى موسى، فإن تواجد موسى أو غيره من الأسماء التي كان من الممكن تمريرها بالطريقة نفسها، مرشح مؤيد وحزبه للسيسي، ليس لها علاقة بحرية أو ديمقراطية ولكنها تصب في خانة التفويض.
وجود مرشح آخر يسمح بالتأكيد على النسبة التي يحصل عليها السيسي مقارنة بغيره وليس من فكرة الإجمالي الكلي للناخبين أو من لهم حق الانتخاب، ومن خلال تلك النسبة يتم تمرير حديث التفويض الممتد، مع حديث تعديل الدستور من أجل زيادة صلاحيات الرئيس ومدد الحكم الممكنة. المطلوب من الانتخابات هو أن ترتدي غلاف التفويض وأن تظهر صور للجان فيها عدد كاف من الناخبين وربما بعض الأغاني وكلمات الدعم والتفويض المعلبة وربما المختارة سلفا.
الانتهاكات التي تحدث تتجاوز ما تم في انتخابات 2005 الرئاسية التي حرص فيها مبارك على تقديم صورة تعددية، ولا تتشابه مع انتخابات ما بعد الثورة، ولكنها تدشن كل مقولات السيسي ورؤيته للسلطة ودوره في الحكم وتقدم السجادة الحمراء الضرورية للترحيب بالتفويض المقل ومحاولة تحييد فكرة الثورة لعقود أخرى قادمة.
يقول أحمد مطر: «فاشهدوا أن الذين انهزموا أو عربدوا، والذين اعترضوا أو أيدوا، والذين احتشدوا كلهم كان له دور أدوه وتم المشهد وقضي الأمر»، وإن كان مبارك لم يتصور لحظة الثورة، ومرسي لم يتصور لحظة النهاية كما لم يتصور لحظة تولي السلطة، والشعب لم يتصور قدرته على فعل التغيير، من الصعب أن نتصور تحييد كل الأشياء في المستقبل أو أن المشهد قد انتهى حقا فكلمة النهاية لا تكتب بدون انتصار العدالة والحرية وإعلاء قيمة البشر.
عبير ياسين