تجديد الخطاب «الدنيوي»

ليس في العنوان أعلاه أي خطأ مطبعي، فقد قصدت عمدا وضع كلمة «الدنيوي» محل وصف «الديني» في العبارة التي صارت مألوفة جدا، ويرددها الكل بحماس لافت، ومن أول الرئيس عبد الفتاح السيسي، وإلى مشايخ الأزهر والأوقاف، وإلى زرافات المثقفين والإعلاميين، وبنوايا تبدو صافية في عناوينها، ومسكونة بالشياطين في تفاصيلها.
وقد أبدى الرئيس السيسي عدم رضاه عن طريقة تناول قضية «تجديد الخطاب الديني» في الإعلام، وهو على حق، فقد جرى تحريف الكلم عن مواضعه، والإساءة لدعوة الرئيس، وتصويرها كما لو كانت ثورة على الدين، وليست ثورة في الدين، ولا ثورة من أجل الدين، كما رغب الرئيس، واستنقاذ واسترداد الإسلام من أيدى خاطفيه الإرهابيين، الذين يريدون الظهور في صورة حماة الدين، بينما هم من المهلكين الهالكين، وقد «هلك المتنطعون»، كما يقول النبي، عليه أفضل الصلاة والسلام، وهلك المفرطون أيضا، فالتجديد شيء آخر غير التبديد، التجديد هو إعادة الشيء لأصله، ولا تلزمه مناظرات «بحيري»، ولا «عنعنات» مشايخ الأزهر والأوقاف، فليس في الإسلام سلطة دينية، ولا اختصاص حصري بالتوجيه والإرشاد، ولا مذاهب ولا فرق ولا جماعات ولا أئمة مقدسون، وكلها موضوعات جدال لا ينتهي. فهي من أفهام الناس المتغيرة، هي من الفهم الديني الموسوم بمواصفات زمانه ومكانه، ولا يبقى ثابتا سوى الدين في أصله، لا يبقى ثابتا سوى القرآن الكريم والسنة النبوية المصدقة المتواترة، وما عدا ذلك فهو ركام، قد يطمس بعضه الأصل المقدس، ويترك الناس في الحيرة والبلبلة.
نعم، هكذا هو الإسلام، في بساطته وصدقه وقوة إقناعه، فالدين ليس من شأننا ولا من اجتهادنا، الدين هو القرآن وسنة نبيه، وما عدا ذلك فهو كلام دنيوي تماما، حتى لو تعلق بالتفسير والتأويل، ويختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف، فالقسمة إلى سنة وشيعة كلام دنيوي، والقسمة على أربعة أو خمسة أئمة ومذاهب كلام دنيوي، وتصديق «البخاري» أو تكذيبه كلام دنيوي، وقد توقف الكلام الدنيوي في الدين مع نهاية القرون الأربعة الأولى بعد الهجرة، توقف الاجتهاد الدنيوي من وقتها بأمر سلطاني، أي أننا بصدد عشرة قرون وتزيد، لم يضف فيها إلى الجهد من مزيد، وصرنا عالة على اجتهادات تقادمت وتآكلت، صرنا في غربة معرفية عن الكثير من موضوعاتها، فقد تغيرت الدنيا وتغيرت الأسئلة، وزالت موضوعات كانت قائمة وقت الاجتهاد، واستجدت موضوعات لا قياس فيها ولا عليها، وتتطلب تجديدا في الخطاب الديني بجانبه الدنيوي، فنحن لا نناقش الإسلام كعقيدة ولا كشريعة، نحن في وضع الإيمان والتسليم بقداسة قرآنه وسنة نبيه، وما نناقشه هو الإسلام كدين ودنيا، وعملا بقول رسول الله «ما كان من أمر دينكم فإليَّ وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به».
وفي الإسلام الشامل ـ كما نفهمه ـ دائرتان متداخلتان، دائرة الشمول الإلزامي، ودليلها النص المقدس القطعي الدلالة، أي الآيات القرآنية المحكمة قطعية الدلالة، والأحاديث النبوية قطعية الدلالة قطعية الورود، وتتداخل دائرة الشمول الإلزامي مع دائرة أوسع أسميها «الشمول التوجيهي»، وتتضمن قيما إسلامية عامة مجردة، كالتوحيد والعدالة والمساواة وأولوية الجماعة، ومركز دائرة «الشمول التوجيهي» هو العقل الإنساني، والتفكير المبدع المتفاعل مع متغيرات الزمان والمكان، إضافة لأولوية العقل الإنساني في فهم النص المقدس، وفي تنزيل الأحكام على الواقع، وهو ما عرفته سيرة الإسلام في صدره الأول، وقبل أن يتفرق الناس شيعا في مستنقعات الفتن والمذاهب والفرق، فقد حكم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بعد سنتين من وفاة الرسول، واجتهد «الفاروق» في تنزيل الأحكام المقضي بها في القرآن ذاته، ومن ذلك وقفه لسهم «المؤلفة قلوبهم» في مصارف الزكاة، ووقف سهم «الرسول وقرابته» في توزيع فيئ الغزوات، فضلا عن المثال المشهور لإيقافه تطبيق «حد السرقة» في «عام الرمادة»، ولم يقل أحد ـ حاشا لله ـ إن عمر بن الخطاب خرج عن صحيح الإسلام، وكان علي بن أبى طالب، وهو الذي قال فيه النبي «أنا مدينة العلم، وعلي بابها»، يصف القرآن بأنه «حمال أوجه»، ويقول «إن القرآن ينطق بالرجال»، ولم يكفر أحدا ممن نازعوه أمر الخلافة، وحاربوه بالسيف وبخديعة التحكيم، وكان يقول وهو في حومة الوغى، يتفرق عنه أصحابه ويكفره الخوارج، كان رضوان الله عليه يقول «لقد التقينا.. وربنا واحد.. ونبينا واحد.. ودعوتنا إلى الإسلام واحدة»، أي أنه اعتبر النزاع على الخلافة شأنا دنيويا لا دينيا، وترك حسابه وحساب مخالفيه لله رب العالمين.
هذا هو الأصل الصافي للإسلام، الذي يدلنا على المقصود بفكرة التجديد، أي استعادة الأصل، وإزاحة الركام والغبار عن الوجه المضيء للإسلام، وإطلاق العنان لحيوية العقل الإنساني، الذي يجتهد في تنزيل الأحكام القرآنية على الواقع المتغير، فضلا عن دوره الأصيل في عمارة الدنيا، وفي صياغة نظريات السياسة والاقتصاد، بما لا يخالف فيها إسلامية سامية كالعدالة والتوحيد، فالدنيا في الإسلام مزرعة الآخرة، والفرصة المتكافئة أساس الثواب والعقاب في الآخرة والدنيا، فالله هو «العدل» المطلق، والإسلام في كلمة هو «العدل»، وليس الجمود على اجتهادات الأقدمين، ولا التوقف عندها، فقد كان الكثير منها مجرد اجتهادات دنيوية لأصحابها، ومفهومة بظروف زمانهم ومكانهم، ومن نوع ما سموه «السياسة الشرعية»، ونظريات دار الحرب ودار الإسلام، أو ضرورة إقامة دولة خلافة جامعة للمسلمين، أو البحث عن خليفة «قرشي» أو ما شابه، وكلها آراء دنيوية نسبت ظلما إلى أصل الدين، فالخلافة ـ صالحها وطالحها ـ مجرد واقعة دنيوية تاريخية موقوتة بزمانها وظروفها، وليست أصلا دينيا ولا اعتقاديا، تماما كتقديس الملكية الخاصة، واعتبارها زورا من أصل الدين، مع أن المالك الأصيل في الإسلام هو الله وحده، والإنسان مجرد «مستخلف» فيما يحوز، ولا شيء في الإسلام يحظر تأميم الملكيات «الخاصة» متى اقتضت المصلحة، و»الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار» كقول رسول الله، ولا يجوز بيع ولا شراء ولا توريث ولا تخصيص الأراضى الزراعية «الخراجية» باجتهاد عمر بن الخطاب والصحابة الأولين، وتلك ـ مع غيرها ـ موضوعات الناس التي يلزم فيها تجديد الخطاب «الديني»، أو قل : تجديد الخطاب «الدنيوي» إن شئت الدقة.

هل خسرنا؟

هل خسرت مصر بمشاركتها في عملية «عاصفة الحزم» التي قادتها المملكة السعودية؟
الجواب عندنا، أن مصر كسبت الجولة، فقد شاركت بحساب دقيق، شاركت جويا وبحريا بثقل معقول، وبأولوية مصالحها الحيوية عند مضيق باب المندب، وردع التوحش الإيراني عند حدود مصر البحرية، وغلق المجالين الجوي والبحري لليمن، حفظا لخصوصيته العربية، ومنعا لاستخدام أراضيه كقاعدة انطلاق إيرانية لتهديد كيان السعودية ودول الخليج الحليفة لمصر، والمشاركة في المشروع المصري لبناء حلف عسكري وقوة عربية مشتركة.
شاركت مصر جويا وبحريا، ولم تتحمس أبدا لحملة برية على أراضي اليمن، ولأسباب ظاهرة جدا، فليس من طرف يمني يستحق التدخل معه لردع الآخرين، و»الحوثيون» جزء من الشعب اليمني، ومن حقهم أن يشاركوا في تفاعلات اليمن، وربما في حكمه، ولكن بدون أن يتحولوا إلى مخلب قط لإيران، والآخرون ـ غير الحوثيين ـ ليسوا أفضل كثيرا، فالجماعات الوطنية الحية ـ من نوع التنظيم الناصري والحزب الإشتراكي وشباب الثورة ـ ليسوا ثقلا راجحا في الساحة اليمنية الآن، ولا دور لهم في حروب السلاح، والجماعات الأخرى المسلحة أشبه بفرق المرتزقة، وسواء كانوا من جماعة علي عبد الله صالح، أو من حزب الإصلاح (الإخواني) وآل الأحمر، أو من جماعات الإرهاب الوحشىي الصريح على طريقة «القاعدة» و»أنصار الشريعة» و»داعش» وأخواتها، أضف إلى ذلك «مشيخات» القبائل، وهؤلاء يحاربون بحسب التقلبات، وبحسب دفاتر الشيكات، في بلد جبلي ومسلح بطبعه، وفيه ستون مليون قطعة سلاح.
والصورة اليمنية ظاهرة المعنى، فوجود قوات عربية برية لا يلجم مخاطر الحرب الأهلية في اليمن، بل ربما يفاقمها، ويوفر لها مزيدا من الأسباب والحوافز والذرائع، وبغير هدف إيجابي ملموس لعملية قهر الحوثيين، فقد يكون هؤلاء جماعة متخلفة فكريا واجتماعيا، وهذا صحيح، لكن الصحيح ـ أيضا ـ أن خصومهم المسلحين أكثر تخلفا، وقد تتحول عملية الخلاص من الحوثيين إلى كارثة حقيقية، تتحول فيها اليمن إلى مغناطيس جاذب لإرهاب «داعش» بالجملة، وبدعوى الحرب ضد الحوثيين الشيعة (الكفرة).
ونظن أن السعودية هى الأخرى، أدركت مخاطر التدخل والاجتياح البري، وأوقفت عمليات «عاصفة الحزم» عند الحد المدروس، وحتى لا ينقلب السحر على الساحر، وتجد نفسها ضحية لجوار خطر «داعش»، وهو خطر أفدح بمراحل من خطر «الحوثيين».

٭ كاتب مصري

عبد الحليم قنديل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    من قال ان الاجتهاد قد توقف منذ عشرة قرون
    فالاجتهاد قائم منذ عهد الصحابة ولقيام الساعة
    وقد زاد الاجتهاد أضعافا مضاعفة بالقرن العشرين بسبب الاختراعات

    عاصفة الحزم لم تتوقف
    توقف فيها الضربات الروتينيه لمخازن الأسلحة لانتهاء المهمة بنجاح بعد تدميرها بالكامل ولكن ضرب تجمعات وتحركات الحوثيين لم تتوقف لغاية الآن ولذلك فالحزم متواصل مع اعطاء الأمل بالتوصل لحل سياسي يقبله جميع اليمنيين وكذلك بتسهيل دخول المواد الاغاثية والطبية التي يمنع الحوثيين دخولها

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول احمد بيومي / مصر:

    أتحداك لو فيه واحد مصري يقدر يفهم من كلام السيسي حاجه … الكلم لم يحرف عن مواضعه كما تزعم ايها الناصري الجهبذ … السيسي لايقول جملا مكتملة الأركان واضحة المفاهيم … وهذه ليست من قبيل الصنعة السياسية ولكني أظن أن ثقافة الرجل لاتطاوعه على التعبير عما يريد قوله …؟ لنرجع إلى كافة التصريحات وندرسها دراسة لغوية نفسية وبعيدا عن السياسة لنكتشف أننا في النهاية لانخرج إلا بشيء واحد من أحاديث الرجل الا وهو لاشيء … لأنه ربما لا يملك بداخله شيء …

  3. يقول الاستاذ الدكتور/غضبان مبروك:

    يبدوا اليوم الاستاذ قنديل في اوج عطائه وفي احسن مستواه وفي اريحة من تعبيره لانه لم يتكلف بل كان طبيعي مع ذاته ونفسه.فشكرا له على هذه المقالة ونتمنى ان يزيدنا من علمه علما لاننا مهما بلغنا من العلم فاننا في حاجة الى المزيد.فكل شيئ نسبي الا الله فهو المطلق.

  4. يقول عبد القادر الجزائر:

    كيف لمن يعجز عن انصاف خصمه ان يتكلم في اصلاح الخطاب الديني

  5. يقول عربي حر:

    تحية للكاتب المحترم
    أفرزت أزمة ما يسمى بالربيع العربي شرخاهائلا في مجتمعاتنا العربية وساهم الرد الرسمي الذي إتسم في أغلبه بإستعمال الرصاص والمذابح كرد على ثورة الشعوب إلى طرح أسئلة هامة
    – هل نريد دولة ديموقراطية مع تحمل الكلفة الإقتصادية والسياسية أم نكتفي بنظام الطغيان مع الأمن ؟؟؟
    لعب الطغاة اللعبة جيدا ووضعوا القواعد إما نحن أو الفوضى
    في سوريا رفض الشعب العودة إلى الحضيرة ودفع الثمن غاليا
    وفي تونس مازالوا يتلمسون الطريق
    وفي ليبيا لم تكن هناك دولة حتى يحافظ الشعب عليها
    وفي مصر حسم الشعب أمره بسرعة وإختار مساره ثم عاد بنفس السرعة يستدعي جلاده القديم ليحكمه ولكن بوجه جديد
    قبل أن تكون أزمة شعب هي أزمة مثقف لماذا ؟
    لأن الشعب حسم أمه وانتفض على جلاده وجاء دور المثقفين ليكونوا في الطليعة التي تعطي تصورا لشكل الدولة المدنية وكيفية بنائها وبدل ذلك
    للأسف جلسوا في حجر النظام القديم يبررون إخفاقاته ويعلمونه كيف يقمع شعبه بأسلوب مختلف
    والشكر موصول للقدسنا العربي

  6. يقول نور-تونس:

    يا أخ قنديل مادام الإخوان دائما مرتزقة و الناصريون دائما وطنيون يبقى تحليلك دائما مصبوغ إيديولوجيا

إشترك في قائمتنا البريدية