لغياب سميرة مع رزان وائل وناظم خصوصية من ثلاثة وجوه، تتفرد بها عن حالات الاختطاف أو الاعتقال والتغييب القسري الكثيرة في سورية. يحيل الوجه الأول إلى هوية الأربعة، والثاني إلى ما يحيط بالقضية من إنكار، والثالث بغياب الأربعة المستمر طوال ثلاث سنوات وشهرين.
من ارتُكِبت الجريمة بحقهم هم امرأتان ورجلان، اختطفوا في ضربة واحدة، وتجمعهم قضية واحدة لا تتجزأ. لكن لكل من الأربعة فرادة شخصية، مثلما لكل منهم اسمه الخاص غير القابل للاختزال. سميرة معتقلة سابقة ومناضلة طول 30 عاماً قبل خطفها، ويميزها حس إنساني نادر، على ما ظهر في نصوص كتابها: «يوميات الحصار في دوما 2013»؛ ورزان مناضلة وناشطة حقوقية وكاتبة متميزة، وأبرز رموز جيلها من الجنسين؛ ووائل معتقل لمرتين عند الأسديين، وناله منهم تعذيب وحشي، و»منشق» عملياً عن حزبه المهاود الموقف من النظام؛ وناظم شاعر ومحام كان يفضل التفرغ للشعر والعشق، لكنه كرس وقته حتى خطفه لثورة مواطنيه.
والفرادة الشخصية للمرأتين والرجلين تضفي بعداً جمالياً على المجموعة، يُثري رمزيتهم السورية العامة. وهذه صفة استثمرتها وأبرزتها ملصقات ورسوم غرافيتي عديدة، معروفة.
والأربعة أصدقاء قبل الثورة بسنوات طويلة، جمعتهم الرفقة الشخصية والقضية العامة المشتركة. وبينما لا يشبهون بعضهم بعضا، فإن توزعهم مناصفة على الجنسين، وتواريخهم الشخصية والعامة المختلفة، وانحيازاتهم الديمقراطية والعلمانية، ودورهم الشعبي أثناء الثورة، يجعل المرأتين والرجلين أصلح رموز الغنى السوري المهدور وإمكانيات مستقبل مغاير.
وجه الخصوصية الثاني يحيل إلى مثابرة فصيل «جيش الإسلام»، المشتبه فيه الأول والوحيد حسب كل القرائن المتاحة، على الإنكار، إنكار مسؤوليته عن الجريمة، وإنكار معرفته أي شيء عنها. لا تنشغل هذه المقالة بإيراد ما يظهر تهافت هذا الإنكار، فقد خصصت لذلك رداً مطولأ نشر قبل نحو شهرين http://aljumhuriya.net/36366. الجماعة كاذبون من دون أدنى ريب، وكمكيافيلليين أصلاء لهم حيل وفتاوى من أجل الكذب المشروع.
يفرق الإنكار قضية سميرة ورزان ووائل وناظم عن حال المغيبين عند دولة الأسديين، أو عند «داعش»، حيث لم يُعنَ أي من الفصيلين الإجراميين الأخيرين بنفي مسؤوليته عن جرائم مماثلة كثيرة. وبينما يرجح أن يكون الإنكار آلية دفاعية من قبل التشكيل المشتبه فيه، فإن الاعتصام به طوال أكثر من ثلاث سنوات يعطي انطباعاً بجسامة ما يخفيه، ويثير في نفوس أهالي المغيبتين والمغيبين وأصدقائهم هواجس قاتمة.
ووراء جدار الإنكار سر أو أسرار، لا بد أن تعرف في يوم غير بعيد، وتوضع في متناول العموم. لا بد أيضاً من أن تروى كسيرة عامة تتداول على نطاق واسع ويُفصّل فيها ويبنى عليها. سيرة المغيبين كما سيرة المحرضين والجناة كوجهين لفصل بارز من فصول السيرة السورية المأساوية. هذا يحفزنا إلى ملاحقة لا تنتهي لهذا التشكيل، نتطلع إلى أن تثمر قضائياً وسياسياً في وقت ما. لكن لهذه الملاحقة أبعادا فكرية وأخلاقية ورمزية لا يمكن أن تستنفد في أي وقت قريب. وهي تندرج أيضاً في سيرة الثورة السورية التي لن ينتهي القول في شأنها طوال عقود.
الوجه الثالث لخصوصة القضية هو الغياب. يتعلق الأمر بانقطاع الأخبار والمعلومات طوال 1155 يوماً، باحتجاب طويل ومستمر لسميرة ورزان ووائل وناظم، بما يسبغ على اختفائهم ملمحاً أسطورياً. كل وقائع الاختفاء والغياب المديدة فيها هذا البعد الأسطوري، بقدر ما إنها مساحة لعمل الخيال وللاشتباك مع الانتظار والقلق وعدم اليقين.
فيما يخصني مباشرة، تحدي غياب سميرة خلال ثلاث سنوات وشهرين خيالي: يحاول ملء المسافة بينها وبيني، التسلل إليها والاتصال بها وإيناس وحشتها والاطمئنان عليها. سميرة التي في خيالي تحاول أن تكون سميرة التي في محبسها، ولا تستطيع، ولا تكف عن المحاولة. هذه تجرية تتكرر كل وقت. ليس فقط أن حدتها لا تتراجع، بل هي تزيد قوة وكثافة.
في غياب سميرة ما يشبه طبقة «دينية» (لا أجد كلمة أنسب)، تتمازج فيها على نحو متكرر، وخلال وقت طويل مشاعر الفقد والأسى، والغضب والمرارة والسكينة، والانتظار والأمل واليأس، والحب والواجب، والذنب والتكفير، والديْن، والصبر ونفاد الصبر، والشجاعة والاستسلام، والسر والخفاء، والجريمة. أفترض أن التجربة الدينية تتميز بكثافة المحتوى الشعوري العالية، وأن في الاشتباك المستمر مع الغياب/الغيب، ما يضفي كثافة أعلى بعدا على هذه التجربة.
وما يزيد التجربة قسوة أيضاً هو أنه ليس هناك دليل لكيفية التصرف في مواجهتها. لا أعرف تجارب مشابهة، على الأقل لم أطلع على سجلات شخصية للتعامل مع تجارب مشابهة. كان من شأن ذلك أن يساعد في نزع شوك التجربة ولو جزئياً، والاندراج في سجل معلوم لخبرات مماثلة. غياب هذا السجل يجعل التجربة أصلية، لا وقاية ولا حماية في مواجهة قسوتها. وهذا يتقابل مع عالم التشكيل المشتبه في ارتكاب الجريمة، حيث ثمة «سنة» تكفل التكرار اللامتناهي والحماية من التجربة، وحيث كل جهد يبذل من أجل أن يكون الجميع نسخاً ثابتة متماثلة من أصل سابق معطى. والصفة الدينية الجوهرية للتشكيل المشتبه فيه إذا تعزز الخاصية شبه الدينية الملفعة بالسر والغيب لمعاناة تجربة الخطف، فإنها تجعلها تجربة مضادة، تؤسس لمساءلة جذرية لدين وتدين الخاطفين.
ومن هذا الباب يصلح تغييب وغياب سميرة ورزان ووائل وناظم ركيزة لحركة قطع فكري وثقافي أساسي يتجاوز السجال الإيديولوجي والسياسي مع الإسلاميين، باتجاه تقويض الأسس العقدية والفكرية للإسلامية السياسية والعسكرية المعاصرة، وتأسيس عالم مغاير من التفكير والحساسية والمعنى والاعتقاد والانتماء. تقويض معنى مرتكبي الجريمة وعالمهم الرمزي والخيالي هو ما يبدو مستحقاً للجهد، وأن يكون ميدان عمل للفكر والخيال، وإنتاج المعاني والرموز. الكثافة الرمزية للواقعة تؤهلها لأن تكون ركيزة تحول ثقافي.
وهو في ما يخصني معركة فرضت بأعلى كلفة شخصية، وفي أقل الشروط العامة ملاءمة، فلا بد من خوضها إلى النهاية. لديّ كل الأسباب الشخصية والعامة لطلب الانتقام من مرتكبي الجريمة، لكن تحطيم قضيتهم ومعناهم، الدين الفتوي الإكراهي، المجبول بالكراهية والعابد للسلطة، أهم بكثير من تحطيمهم كأفراد أو كتشكيل. كأفراد، هم مثل الأسديين تافهون ومعدومو القيمة، وإن يكونوا حقودين وقادرين على الإيذاء، مثل الأسديين أيضاً.
رمزية سميرة ورزان ووائل وناظم، وغيابهم المتمادي، وجهان لتجربة استثنائية، تحفز نحو الطي التاريخي لصفحة الشرعيين والهيئات الشرعية، المليئة سلفاً بالمخازي.
كاتب سوري
ياسين الحاج صالح