تدوينات رتيبة لسائق باص تشبه الشعر!

حجم الخط
0

باريس ـ القدس العربي» من سليم البيك: قد يكون «باترسون» من تلك الأفلام التي تستمر طويلاً، تُشاهَد وتُعاد مشاهدتها (كما تُقرأ القصيدة وتُعاد قراءتها) باب منها أنّ كلّ مشاهدة قد تحمل معها «إدراكات» جديدة ينتبه إليها المُشاهد. وليس في الفيلم حكاية تتطوّر، ولا شخصيات تخرج من حيّزها.
الفيلم تصوير لحياة روتينية، يومية، لأسبوع كامل، يبدأها الفيلم بيوم الاثنين صباحاً، وينهيها باكتمال دورة حياتية تعيد نفسها كلّ سبعة أيام. تكرار لكل ما فيه تقريباً، وقد تكون الدوائر التي تعم البيت، في ديكوراته والرسومات على هذه الديكورات، وباللونين الأبيض والأسود تحديداً، ترميزاً لهذه الإعادة الدائرية في يوميات باترسون وزوجته. واللونان الحياديان يرمزان للرتابة في ما يتم تكراره. هذه حياة باترسون، سائق الباص العمومي الذي يكتب شعراً يشبه كثيراً حياته، كما يشبه رسومات زوجته الدائرية.
فيلم جيم جرموش الجديد هو تصوير لسبعة أيام من حياة زوج، باترسون (آدم درايفر) ولورا (غولشيفته فاراحاني)، وكلبهما مارفين. تتكرر الأيام، من صباحها حتى مسائها، ويكون ذلك دون التسبب بأي شعور بأنّ ما يظهر على الشاشة مُعاد، بأنّه، للمرة الخامسة أو السابعة.. يظهر وقد بدأ يصير مملاً، بل كان التكرار عنصراً جمالياً استطاع جرموش أن يجعله في صالح الفيلم الذي صوّر لقطات «مجانية» من حياة الزوج دون حكاية تجعل، إن تواجدت، الإعادة مملة. فالمَشاهد والحوارات هنا جميلة لذاتها لا لخدمة يمكن أن تقدّمها لعموم الحكاية.
الروتين اليومي، والتكرار في المَشاهد، أتى بما يشبه بنية القصيدة التي يكتبها باترسون الذي يصر على أنه لا يهتم بوزن/تلحين قصائده، يكتبها قصائد نثر، وهذه الأخيرة، كما يكتبها باترسون والكثير ممن يكتبها، تأتي أولاً معنيّة «بتوافه» الحياة اليومية، وتأتي «دائرية» في بنيتها، كما هي «دورة» الحياة الأسبوعية لدى باترسون، وكما هو الأسلوب الفني لدى زوجته في رسمها على الستائر وأغطية الطاولات.
يصحى باترسون يومياً بين السادسة والسادسة والنصف صباحاً، دون منبّه، يتناول فطوره، يلاحظ علبة كبريت مرمية على الطاولة، يتناولها ويقلّبها، في ظهيرة اليوم ذاته يكتب قصيدة عنها، يكمل القصيدة في الأيام التالية ويكتب غيرها. بعد الإفطار يذهب إلى عمله مشياً، يكتب قليلاً في دفتره وهو جالس على كرسي السائق في باص عمومي، قبل أن يمر عليه المشرف ويسأله إن كان جاهزاً للانطلاق. يبدأ عمله، يستمع إلى «توافه» من أحاديث الرّكاب، توافه يمكن أن يكتب عنها في قصائده. يعود عصراً إلى بيته ليرى زوجته منشغلة بواحدة من أعمالها الفنية، ترسم وتدهن على أقمشة وجدران وما يمكن أن تجده مناسباً لأسلوبها الفني، دوائر وانحناءات بالأبيض والأسود، يتناولان العشاء، يخرج مع كلبهما ليلاً، ليتنزّه كلاهما، باترسون والكلب، قبل أن يربطه أمام بار يدخله ليشرب كأس بيرة ويتحادث مع صاحب البار وبعض مرتاديه.
هذا ما يحدث سبع مرّات في الفيلم، في سبعة أيام، مع تنويعات خفيفة بين يوم وآخر، كأن يتعطل الباص، أو يحاول عاشق يتردد إلى البار الانتحار، أو تطلب منه زوجته لورا أن يشتري لها غيتاراً لتتعلم العزف عليه، أو بالتقائه فتاة صغيرة ألقت عليه قصيدة كتبتها. هذه كلها تنويعات طفيفة وغير أساسية في حياة باترسون، وقد يكون التنويع الأبرز منها هو انتقاله من قصيدة إلى أخرى، تكراره لقصيدة كتبها ثم انتقاله لكتابة أخرى، ثم مصير كل هذه القصائد. بالنسبة له هو، وزوجته الساذجة واللطيفة جداً التي يعنيها أن تسأله إن كتب شيئاً، هذا هو التنويع الوحيد أو التغيير الجدير بالالتفات في حياته اليومية، دون أن يمتد ذلك إلى المُشاهد بالضرورة، باستثناء مصير القصائد.
فكتابة باترسون (باترسون هو اسم البطل واسم مدينته القريبة من نيوجيرسي واسم كتاب للشاعر المفضل لباترسون اسمه ويليام كارلوس ويليامز) لقصيدته يومياً هو كتناوله اليومي لساندويش في استراحة الغداء تعدها له زوجته، أو كاحتسائه كأس البيرة كل ليلة، أو كمحاولته تعديل صندوق البريد المائل قليلاً كلّما عاد إلى بيته عصراً. هذه كلّها يوميات، توافه، روتين، بالكاد ينتبه إليها أحدنا ما لم يتم تكرارها، تماماً كتفاصيل تُوجد في قصيدة ما، قد لا ينتبه إليها القارئ ما لم تتكرر، دون أن يكون هذا التكرار مملاً، بل يكون عنصراً بنيوياً وجمالياً في القصيدة، وهو هنا عنصر جمالي في فيلم جرموش، والأخير بالمناسبة محب وقارئ نهم للشعر، كما يقول عن نفسه.
كل ذلك يمكن أن يجعل من فيلم جرموش قصيدة نثر بصرية، سينمائية. وليس الحديث هنا عن «شاعرية» يُسخّف المبتذلُ منها، وهو كثير، الفيلم، بل عن تقنية كتابة قصيدة النثر، (المجانية والدائرية واليومية) وهي تقنية أحسن جرموش نقلها إلى السينما في فيلم كانت القصائد التي يكتبها البطل تشبه حياة البطل وشخصيته، وتشبه والفيلم الذي ينقل هذه الحياة. قد يشير إلى ذلك التكرار لماركة أعواد الثقاب التي يقلّبها أثناء تناوله الفطور، تكرارها في قصيدته كما يتكرر كل تفصيل آخر في حياته وبالتالي في الفيلم.
الفيلم قطعة فنية سينمائياً (وقد يمكن القول أدبياً). في وقت يمكن تشبيه الأفلام بالروايات، لتَشارك الاثنين بعناصر كالشخصيات والحكاية، فإن فيلم جرموش الأخير، المشارك في مهرجان «كان» والذي يعرض حالياً في الصالات الفرنسية، يشبه القصيدة الطويلة، الممتعة بقدر ما تتكرّر في ذاتها، الرّهيفة المحتفية بالتوافه.
هنالك ما لا نودّ الحديث عنه في الفيلم، أفكار أساسية إنّما تتعلق بحدث نفضّل ترك معرفته لمشاهدة الفيلم، يخص تحديداً الدفتر، البطل الذي يكتب فيه قصائده، وهذا ليس من التنويعات التي ذُكرت أعلاه، إنّما، ما يحصل للدفتر، تغيير يبدو للوهلة الأولى أساسياً.
هذا فيلم آخر لأحد أفضل المخرجين السينمائيين الأمريكيين الأحياء، جيم جرموش، وهو مخرج مستقل (وموسيقي كذلك بالمناسبة) مبتعد عن شركات الانتاج الهوليوودية الضخمة، فيصنع أفلامه/أعماله الفنية كما يريدها، بغرابتها ولا- جماهيريّتها وبشبهها بشخصيته كما هي معروفة. لجرموش أسلوب سينمائي خاص، كرّسه في أفلام/علامات في السينما الأمريكية والعالمية كـ «قطار الغموض» في 1989 و «رجل ميّت» في 1995 و«قهوة وسجائر» في 2003 و«العشّاق فقط من بقوا أحياء» في 2013 وغيرها. والآن، في فيلمه الأخير، صعد جرموش أكثر بمنجزه وأسلوبه السينمائيين.

تدوينات رتيبة لسائق باص تشبه الشعر!
«باترسون» للأمريكي جيم جرموش

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية