لم أكن أتوقع أن يكون المآل في العراق على هذا النحو، تراجع المشروع الحداثي بشكل عام، في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والفكرية والمعرفية، انهيار البنية التحتية للثقافة وتقويض الرؤى التنويرية ومحاصرة اليسار بشتى السبل والوسائل المتاحة لدى من يحكمون العراق الآن، بكل أجنحتهم المذهبية والطائفية ذات المنزع الديني، المؤمنين بتحجيب العقل وتقليص فرص النقد والمحاججة، إضافة إلى التصدي لخطاب الانفتاح والحرية، ذاك الذي يدعو إلى سَن النظم المدنية والحضارية، ناهيك عن تناسي وغض الطرف حتى عن الذي كان موجوداً لدينا من تقدم طفيف، ابّان نهضة الاربعينيات والخمسينيات وصولاً للستينيات من منتصف القرن الفائت للألفية الثانية.
لم أكن أتوقع أن أعود إلى العراق، ثم أغادره مرة أخرى، كانت الصدمة كبيرة والبون شاسعاً بين ما أحمله من تفكير، علماني ليبرالي، يساري والشارع الذي يغص بجهل كبير. فمستوى التعليم تراجع بشكل ملحوظ منذ ما قبل التغيير، واللغة العربية التي اتصف بها العراق، ذبُلت وأصابها نوع من التآكل والصدأ، ناهيك عن تدهور العربية من جهة القواعد الصحيحة، وهذا ما نلحظه لدى غالبية المتخرّجين من الجامعات والتعليم العالي، أما الصحافة فقد نالها قسط كبير من ذلك.
لم أكن أتوقع أن يكون العراق على هذه الشاكلة. نهب وفساد وقتل بالكاتم للذي يعارض نهج الفقيه الديني، رشوة تسود جميع المرافق العامة في العراق، وهذا ما لمسته لمساً باليد، تعثر وتلكؤ وبطء شديد في خدمة المواطن، الذي يحميك يسرقك، أو يعتدي عليك، أو يعزلك، أو ينهيك بالكامل، الحصة التموينية تقلصتْ، غلاء في الأسعار، وفوضى في الاستيراد، وإهمال للمنتج العراقي، جعل الثقافة شيئاً كمالياً، لا نفع فيه ومن هنا تقليص ميزانية الثقافة وزيادة ميزانية الأحزاب الدينية التي باتت هي تنشئ مراكزها الثقافية لتروج لفكرتها المذهبية والسياسية والرجعية، حصار المثقف بوسائل كثيرة، حرمانه من التوظيف، إغراقه بالمشاكل اليومية التي لا تنتهي بدءاً من الماء والكهرباء إلى آخره.
عشت طيلة حياتي وأنا أجوب المنافي من بلد لبلد، حالماً بالعراق، حملتْ قصائدي العراق أنّى حللتُ وأقمتُ، كنتُ مثل أب يحمل صغيراً على كتفيه، حملت العراق ودرتُ به العالم، متباهياً بأني عراقي، أتحدّر من حضارة أولى، من حضارة مَهّدتْ للبشرية ومنحتها الأنوار لكي تكون كما هي عليه الآن، أوروبا نهضت في القرن الخامس عشر، ونحن تراجعنا في فترة نهوضهم، لندخل بعد ذلك في سرداب معتم ومغلق من التاريخ، كان السديم يحيط بنا من كل جانب، وحين حاولنا النهوض مرة أخرى أوائل القرن العشرين وعدنا لنبني انفسنا، تناهبتنا الأفكار السوداوية والمواثيق الفاشية، لندخل مرة أخرى في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم في حالة من الخراب والتدهور الذي ساهم من دون شك في إيصالنا لما نحن عليه الآن.
عشت طيلة حياتي في المنافي الكثيرة التي يتصورها البعض ممن هم في الداخل، بأنها سعيدة، بينما هي على العكس من ذلك، تحمل أوضاعها السلبية أيضاً مثل أي حياة، عشت حالماً، مفعماً بالحلم، وذاكرتي مترعة حتى اللحظة بالتفاصيل العراقية الصغيرة لكل العراق، عشت يوتوبياي، بأني سوف أعود يوماً إلى مرابع الطفولة، إلى زقاقي في ذلك الحي الشعبي، إلى صيحة الديك فوق السطوح وبين سعف النخل، بأني سأعود إلى الفواخت التي تنادي من فوق ذرى النخل العالي «يا كوكتي وين أختي ….. « بأني سأعود إلى خبز التنانير والبيض الموجود تحت ظلال الشجيرات، إلى النوم على السطح حتى يوقظني الديك بصيحته البهية وتقرصني الشمس، بأني سأعود إلى البلبل الذي يغرد دائماً قرب وسادتي في القرى النائية، إلى النهر والبردي والقصب الراقص في الريح، إلى التمر المُعسّل والقيمر، إلى خبز العباس والعروق والأكلات البديعة التي يزخر بها المطبخ العراقي، إلى روائح زهر البرتقال والرازقي والنسرين والشبّوي وبخار النومي بصرة. وإلى الشاي الثخين والأسحم في مواقد الجمر، حيث المقاهي البغدادية القديمة، بأني سأعود إلى شارع الرشيد والسعدون وأبي نواس، بأني سأعود إلى قوارب دجلة التي تنقلني لذاك الصوب، إلى شوارع الرحمانية العتيقة، والشيخ عمر السهروردي ومرقد الحلاج والجنيد والخضر والشيخ معروف، إلى محلة النواب في الكاظمية، حيث طفولتي الأولى، إلى نخل الجعيفر، والجسور الجميلة، إلى شارع المتنبي ومقهى الشاه بندر ومقهى أم كلثوم، وسوق الهرج والشواكة والشورجة، وسوق الغزل حيث جماهيرية العصافير الملونة والحيوانات الدفيئة، بأني سأعود إلى حان أنيس وكأس رائق ونديم أليف، بأني سأعود إلى اتحاد الأدباء وحدائقه الأنيقة، إلى المكتبات في كل منعطف وزاوية، إلى مكتبات السراي المغموسة بأفياء طرية، حيث القدامة تفوح من أغلفة الكتب، والتاريخ يمنحك حين تمرّ أريجه الأزلي ما بين القشلة ومقاهي المحاكم الوثيرة.
لكن تلك اليوتوبيا الحالمة، تحوّلت إلى ديستوبيا رمادية، أن المكان البغدادي الحالي يلفظك كونك غير منسجم معه، لأنك تحمل إشارات التقويم والنقد وعدم الرضا. هأنتذا ترى، هل اتحاد الأدباء هو حقاً مكان مثالي للأديب والشاعر والروائي، يستطيع الجلوس فيه والذهاب إلى دورة المياه من دون عائق القذارة، هل تستطيع التمشّي في شارع الرشيد وأنت لم تكن محاطاً بالأزبال من كل جهة وصوب، هل تستطيع التسكع مساءً في شارع الرشيد وضواحيه من دون عائق الخوف والتلفت والانتباه من طارئ ما، قد يفاجئك في أي لحظة، هل تستطيع التنزه ليلاً في شارع أبي نواس من دون أي شعور بالقلق والخوف والرهبة من حادث قد يطرأ عليك، هل تستطيع الجلوس في مقهى رخيتة إلى ساعات طويلة وتتسامر إلى وقت متأخر من دون الشعور بانفجار قد يقع، هل تستطيع الذهاب من أجل الجلوس في حانة، من دون إدراك من قد يأتي إليك ليفجّر نفسه في كأسك وقدحك والحانة كلها. أين حانات بغداد القديمة، في شارع النهر، والرشيد والسعدون والباب الشرقي والكرادة؟ أين دور السينما؟ ولماذا أصبحت مخازن للمستورَد الصيني وأزبال العالم، لماذا صارت دور السينما محلات لتصليح السيارات في المربعة وعقد النصارى والفضل؟ أين دور المسرح والفرق الموسيقية الشعبية،؟ أين الحمّامات القديمة التراثية والتاريخية ؟ أين الشناشيل في شارع الكفاح والبتاويين؟ أين دور الملاهي الليلية، كهرمانة وما شابه؟ أين ذلك السهر في الحدائق العامة، والنزهات النهرية في دجلة في الليل والمساءات البغدادية الجميلة؟ أين هم المسيحيون والصابئة والأيزيديون؟ لمن كل هذه الصور المعلقة على الحيطان وعلى أعمدة الكهرباء؟ لمن كل هذه الأعلام السوداء والخضراء والحمراء والصفراء؟ لمن كل هذه السيارات ذات الدفع الرباعي؟ لمن كل هذه الأشرطة الدينية؟ لمن هذه المنطقة الخضراء، للشعب أم للأمريكان أم لقادة الميليشيات التي تفجر وتفخخ وتقتل؟ لِمَ لمْ نستفد من الغاز والبترول لتعمير العراق وجعله منارة حضارية؟ لِمَ لا نستغل الطاقة الشمسية في بلد الشمس والماء؟ لِمَ الشعب العراقي يظل يسمع صوت المولدات الكهربائية التي تخدش الحس وتشوّش البال وتدوّخ الرأس؟ لِمَ الماء يجري عكراً في حنفيات الأرياف؟ لِمَ هنالك طحين مغشوش ودواء فاسد؟ لِمَ هناك فقر في بلد ثري؟ لِمَ هناك قمع في بلد يدّعي الحرية ؟ لِمَ هنالك عقوبة إعدام؟ لِمَ هناك رقابة على الكلمات والمطبوع في دولة تزعم أنها ديمقراطية؟ لِمَ الكذب تراه سائداً في كل مكان؟ لمَ المواطن عليه أن يحمل في المراجعة نسخاً مصورة وملونة من شهادة الجنسية والجنسية والبطاقة السكنية والبطاقة التموينية؟ لمَ المعاملات في دوائر الدولة تأكلها عثة البيروقراطية؟ لمَ الإنسان حزين في العراق، وظهره محني دائمأ وخائف من ظله حين يسير في الشارع وحيداً ؟ لمَ الأوساخ هي السائدة في الشارع والساحات العامة؟ لم الثقافة تُعطى
ليد غير أمينة ولا تملك ذرة من الثقافة؟ لمَ المحاصصة الطائفية والسياسية هي التي تتحكم بمفاصل الدولة؟ لمَ العراقي بشكل عام لديه أمراض مثل السكري والضغط العالي والكوليسترول وانسداد الشرايّين والآفاق أمامه على طول الخط ؟ لمَ الجواز العراقي غير محترم ومُرحّب به في المطارات وموانئ العالم ومكاتب السفر أنّى وليت الوجهة؟ لمَ الخطوط الجوية العراقية لا تقدّم الشراب على متن رحلاتها الجوية كما كانت في السابق؟
لمَ لا يتم بيع المشروبات الكحولية في مطار بغداد في السوق الحرة مثل بقية دول العالم المتحضر؟ لمَ الحياة كلها غير حرة في بلد يقول إنه قد جلب الحرية بعد عام 2003؟ لمَ كل هذا الزيف والدجل والتدليس في بلاد ما بين النهرين أو ميزوبوتاميا؟ لمَ أنا حزين أثناء كتابتي هذا المقال ؟ لمَ ، ل ، م ، للللل مممممم؟
ولكيلا أبدو متشائماً كثيراً، فثمة دائمأ مبدعون يعملون بصمت ومن دون ضجيج، ينتجون ويكتبون ويرسمون رغم الخراب الذي يحيط بهم، وثمة أيضاً نشاطات ثقافية ظهرت بعد التغيير، أبرزها عودة نشاط مهرجان المربد ودوراته المنتظمة، هذا رغم الملاحظات التي نبديها بين حين وآخر من أجل تطور المهرجان وتجاوز الهنات وسوء إدارة تنظيم المهرجان، إلى جانب ذلك هناك نشاط بيت الشعر والدور المضيء الذي تلعبه مجلته «البيت « فضلا عن فعاليات «اتحاد الأدباء» وأنشطته، خصوصاً على صعيد الأماسي والندوات والتكريم الرمزي، لكن هذا لا يمنع سهام النقد أن توجّه إليه، بغية التقويم وتخطي العقبات، وعليه أن يتقبلها برحابة صدر وبكل ديمقراطية كونه اتحاداً للأدباء وليس اتحاداً لباعة الملابس المستعملة، وينبغي ألا نتناسى المعرض الدائم للكتاب في شارع المتنبي، ذلك المعلم الثقافي المهم والبارز الذي يبث البهجة في القلب حين تكون بين رفوفه الرفيعة والعالية.
٭ شاعر عراقي
هاشم شفيق
الاستاذ هاشم
ما جاء في مقالك يدمي قلب كل عربي كان يتغنى بالعراق، بشعراء وكتاب العراق، ببدر شاكر السياب، والجواهري، والتكرلي وسواهم الكثير نحن تتلمذنا على الثقافة العربية في العراق، وعلى موسيقى العراق من ناظم الغزالي، ألى منير بشير، وكاظم الساهر، والاستاذ الكبير نصير شما… لقد كان العراق قلعة شموخ نعتز بها، ونحن السوريين كانت لنا ظهرا وسندا، أيا كان الحاكم ( دون الدخول في شكل النظام السياسي)
لقد عشت شخصيا في العراق لفترة ليست بقصيرة وكان شارع المتنبي الذي تحدثت عنه مؤئلا نادرا للثقافة، لكن يا حسرتاه على شارع المتنبي، وأبي نؤاس، ومقاهي دجلة والمسجوف، .. لكن بتنا اليوم نحن جيل ما قبل الكارثة، جيل ما قبل الفجيعة، جيل ما بعد الاستقلال، بتنا أيتاما يا صديقي، وأي أيتام، هكذا صار العراق وصارت سورية مرتعا للئام، وللخونة، وللطائفيين، وللقتلة، وسارقي أموال البلاد، ومغتصبي أملاك الآخرين ونساءهم. كلنا بتنا في المنافي ولكن لن نستسلم.. هذه مهمتنا ورسالتنا وواجبنا تجاه العراق الحبيب وسورية في القلب
هذا إختزال لما أضبح عليه حال العراق دمار بدمار وتراجع مخيف في شتى مفاصل الحياة وتقهقر فظيع نعم أنه نتاج عقود من السياسات الفاشلة إبان فترة النظام البائد وفترة النظام الحالي من حكم الملالي الذين أجهزوا على ما تبقى وأحالوا البلد الى فضاء من الفوضى الامنية والتخلف الفكري والتراجع المعرفي فضلا عن إشاعتهم الثقافة الطائفية المقيتة ، لطاما شعرت بالالم لما آل اليه وضع وطني العراق وفقدت الامل في الرجوع اليه ويأتي هذا المقال ليزيد من جرعة ألمي وحزني على بلدي الذي تكالبت قوى الشر المحلية والخارجية على تدميره