تراجع الخطاب الاقتصادي للسيسي: من «مصر قد الدنيا» إلى «المطلوب مش موجود»

حجم الخط
0

في لهجة انفعالية، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أثناء افتتاح مشروعات في مدينة 6 اكتوبر الاسبوع الماضي «احنا كده عشان المطلوب مش موجود.. الدولة فيها 90 مليون.. قولوا للناس الحكاية.. لازم يعرفوا حجم المطالب وهل هو متاح ام لا» في إشارة إلى عدم امتلاك الدولة التمويل اللازم لتقديم كثير من الخدمات الأساسية، من بينها:
1- ان الدولة تتكلف نحو أربعين مليون جنيه يوميا من أجل توفير 35 مليون متر مكعب من مياه الشرب. وبينما يتكلف المتر الواحد مئة وستين قرشا فان الدولة تقدمه لشريحة محدودي الدخل بسعر 23 قرشا فقط. وأكد السيسي ان هذا الوضع «غير قابل للاستمرار، لأن الدولة لا تقدر عليه». وقد أثار هذا التصريح مخاوف واسعة ومفهومة من احتمال رفع جديد لأسعار مياه الشرب.
2- ان الدولة تحتاج بشكل عاجل إلى عمل محطات المياه القادرة على «المعالجة الثلاثية» لمياه الصرف ما يسمح باستخدامها في الشرب والري، بطاقة تصل إلى ثلاثة مليارات متر مكعب سنويا، وبتكلفة قدرها 21 مليار جنيه. وشدد السيسي على اهمية هذا المشروع بشكل خاص رافضا الإفصاح عن السبب، لكنه تساءل غاضبا «هنجيب الفلوس دي منين».
3- ان تلبية الاحتياج المتزايد في مجال الإسكان سعيا إلى مواجهة انتشار البناء العشوائي والتعدي على الأراضي الزراعية تحتاج إلى بناء نصف مليون وحدة سكنية سنويا. وفي تصريح صادم وصف السيسي ما تعمل الحكومة على انجازه في هذا المجال بأنه «ولا حاجة مقارنة بما نحتاجه». وأعلن تبرع صندوق «تحيا مصر» بمليار جنيه مشددا على أهمية ان ينتهي بناء مئة
ألف وحدة سكنية هذا العام لكنه طلب من الحكومة «ان يتصرفوا في توفير الباقي من الأموال». وشدد على ان الفشل في بناء نصف مليون وحدة سكنية يعني ان البناء العشوائي مستمر. وتساءل: كم يتكلف الترفيق «بناء المرافق» لخمسمئة ألف وحدة سكنية؟
وليكتمل بناء الصورة للواقع الاقتصادي المصري، وبناء على مصادر الحكومة، ينبغي التوقف عند تصريحات مهمة لوزير الاستثمار أشرف سلمان، يبدو انها جاءت نتيجة لتعليمات السيسي للوزراء بمصارحة الناس بالحقائق، إذ قال «إن مصر لا تستطيع جذب استثمارات أجنبية واحتياطيها يكفي 3 شهور فقط». وأضاف خلال جلسة نقاش مع مجلس الأعمال المصري الأوروبي مساء الأحد الماضي «نلجأ إلى طبع الفلوس احنا أصلا شغالين طبع فلوس وهذا ليس في صالح الاقتصاد»، مشيرًا إلى أن مصر احتلت المركز 131 ضمن 189 دولة على مستوى العالم في تقرير بيئة الأعمال الذي أطلقه البنك الدولي عن عام 2016، بحسب ما نقلت عنه مواقع مصرية.
وقد تراجع ترتيب مصر 19 مركزًا في التقرير، حيث احتلت المركز الـ 131 من بين 188 دولة مقارنة بالمرتبة 112 في تقرير العام الماضي، وفقا لما أعلنته مؤسسة التمويل الدولية الـ IFC التابعة للبنك الدولي الأحد.
وأوضح الوزير، أن الحكومة لن تتمكن من تسريع في معدلات النمو الاقتصادي؛ بسبب هبوط عجز الموازنة إلى نسب تتخطى 11.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
وبوضع كل هذه التصريحات في سياقها الصحيح يتضح ان الخطاب السياسي للحكم في مصر قد شهد انقلابا حقيقيا خلال العامين الماضيين، عندما كان قائما على وعد صريح من رئيس الجمهورية أن مصر «هتكون قد الدنيا» في إشارة واضحة إلى انها ستكون قادرة على تحقيق تقدم في طريق حل المشاكل الاقتصادية بشكل خاص. وبالفعل فقد حدد السيسي إطارا زمنيا تقريبيا لهذا الوعد عندما قال في ذلك الوقت ان المواطنين «سيشعرون بتحسن خلال عامين».
وبالنظر إلى حقائق الواقع الاقتصادي اليوم، يتضح ان تلك التصريحات عملت على رفع سقف التوقعات لدى المواطنين من دون ان تملك رؤية اقتصادية أو علمية لتحقيقها، وقد أدى هذا إلى نتيجة عكسية من جهة استعداد المواطنين لتحمل أي أعباء جديدة. ومن هذه الحقائق:
1- حسب الإحصائيات الرسمية، وصلت نسبة البطالة إلى 13 في المئة، بينما تشير أرقام أخرى إلى أكثر من 20 في المئة. ويمثل الشباب الفئة الأكثر معاناة من هذه المشكلة التي تنذر بالتحول إلى «قنبلة موقوتة» خاصة مع العلاقة المتوترة بين الحكم والشباب، وهو ما بدا مؤخرا في الفشل غير المبرر في الافراج الاستثنائي عن مئات الشباب، على الرغم من إعلان رئيس الجمهورية عن رغبة الدولة في التحاور مع الشباب، وإقراره في أكثر من مناسبة بأنه «يوجد عدد كبير من الشباب المظلومين في السجون».
2- أدى ارتفاع معدلات التضخم، والانفجار في أسعار بعض السلع الأساسية خلال الشهور الماضية مع التراجع المستمر لسعر الصرف في مواجهة الدولار، إلى تفاقم معاناة المواطنين الأقل دخلا بشكل خاص، وهو ما يجعلهم يرفضون أي حديث عن تحمل المزيد من الأعباء فيما يخص تكلفة المياه والطاقة، خاصة مع استمرار مصر في شغل مكانة متقدمة عالميا في مؤشرات الفساد.
3- ان التصريحات الواردة أعلاه لوزير الاستثمار تشير بوضوح إلى الانقلاب على الخطاب الذي روجه الحكم إبان «مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي» في اذار/مارس من العام الماضي، والذي خلط بين مذكرات التفاهم غير الملزمة، والتي تعبر عن «نوايا مشتركة» في انتظار التفاوض على التفاصيل، حيث يكمن الشيطان دائما، والاتفاقات الاقتصادية الحقيقية. ومن بين أشهر مذكرات التفاهم التي تم توقيعها، مشروع بناء العاصمة الإدارية الجديدة الذي سمحت الحكومة لرئيس الجمهورية بتدشينه إعلاميا بحضور نائب رئيس دولة الإمارات، قبل ان تنتهي من الاتفاق على إجراءات التنفيذ، وهو ما أدى إلى انسحاب الشركة الإماراتية منه مؤخرا.
4- ان الطرح الذي قدمه السيسي يعني انه يقترح القاء المزيد من الأعباء على المواطنين «الجدعان المستعدين للمشاركة»حسب تعبيره، في تجاهل خطير لحقيقة ان االمواطنين الأكثر فقرا بشكل خاص قد تحملوا بالفعل أعباء إضافية رهيبة ضخمة خلال الفترة الماضية، بالمقارنة مع ما تحقق للمستثمرين وأصحاب الدخل الأعلى من إمتيازات.
5- صبت الدولة الاستثمارات الأكبر في مشاريع لن تؤتي أكلها قبل خمس سنوات أو أكثر أحيانا، مثل المجرى الجديد لقناة السويس ومشاريع شرق بورسعيد والعاصمة الإدارية الجديدة وغيرها، دون ان تملك أي رؤية لإنقاذ الأغلبية الساحقة من المصريين الذين يعانون اليوم من البطالة وارتفاع الأسعار وانهيار خدمات الصحة والتعليم وغير ذلك. وإذا حاولوا التظاهر أو الاحتجاج على هذا الوضع غير القابل للاستمرار، لن تتورع الحكومة عن اعتبار هذه الأفعال «مطالب فئوية تهدد الأمن القومي للبلاد» ثم تطبيق قانون التظاهر وربما قانون الإرهاب أيضا عليهم، مع ان كل ما يطلبونه هو ان يتمكنوا من الحصول على حد الكفاف.
6- أصدر الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، في الاسبوع الاول من شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، قرارا جمهوريا «يتيح للقوات المسلحة لأول مرة تأسيس وإنشاء شركات بمفردها أو بالمشاركة مع رأس المال الوطني أو الأجنبي. جاء ذلك في القرار رقم 446 لسنة 2015، لتنظيم قواعد التصرف في الأراضي والعقارات التي تخليها القوات المسلحة، وتخصيص عائدها لإنشاء مناطق عسكرية بديلة». وبالنسبة للخبراء الاقتصاديين فقد أكد هذا القرار غير المسبوق على ان اسلوب إدارة الحكم للملف الاقتصادي يعتمد سيطرة المؤسسة العسكرية على أغلب المشروعات الحكومية. بل انه يكرس أولوية الشراكة فيها مع الشركات الأجنبية وخاصة الخليجية بدلا من المحلية التي يفترض ان دورها أساسي في دفع القطاع الخاص ليتبوأ مكانته الحتمية في إنقاذ الاقتصاد. وبينما تصل تكلفة المشاريع التي يقوم بها الجيش إلى عشرات المليارات، لا تبدو واضحة الآلية التي يتم بها التكليف أو المحاسبة.
7- ان الاقتصاد المصري لا يستطيع الإنطلاق بينما يكبله تفاقم العجز في الميزانية العامة من جهة، والعجز في الميزان التجاري من جهة أخرى. وحسب أرقام البنك المركزي المصري فإن رصيد الدين الخارجي ارتفع نهاية السنة المالية 2014-2015 بمقدار ملياري دولار ليصل إلى 48.1 مليار دولار. بينما بلغت أعباء خدمة الدين الخارجي متوسطة وطويلة الأجل 6،5 مليار دولار بنهاية العام المالي الماضي وبلغت الأقساط المسددة 4.9 مليار دولار والفوائد المدفوعة 700 مليون دولار  وهكذا فإن تصريحات رئيس الوزراء شريف اسماعيل مؤخرا والتي توقع فيها حدوث «انفراجة واسعة» في الوضع الاقتصادي، لا يمكن إلا ان تكون محاولة مقصودة لتضليل المواطنين، وذلك بالاستناد إلى أرقام الدولة المصرية نفسها، بل وتصريحات كبار المسؤولين فيها.
8 – ان توقيت التصريحات الرئاسية التي رسمت صورة قاتمة للواقع الاقتصادي يستتبع أسئلة من نوع: على أي أساس بنى الحكم وعوده بشأن «مصر قد الدنيا» قبل عامين، وماعلاقتها بأجواء الانتخابات الرئاسية التي صدرت فيها؟ وهل تهدف إلى اتخاذ إجراءات تقشفية أكثر قسوة؟ أم إلى تبرير التراجع عن وعد تحقيق التحسن خلال عامين؟ وهل ما زال يملك من الشعبية ما يكفي لتمرير مثل تلك الإجراءات؟ والأهم أين الرؤية الاقتصادية الضرورية التي يعتمد عليها الحكم في مواجهة هذا الوضع الصعب؟ لكن الأجواء في مصر اليوم لن تسمح بفتح نقاش كهذا.
خبير اقتصادي مصري

د. محمد علي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية