كان دونالد ترامب قبل فوزه بمنصب رئيس دولة العالم الأعظم مقرباً من مصنع النجوم في هوليوود. بل إن البعض يعتبره نموذجاً تاماً للشخصيّات التلفزيونيّة الفارغة، التي يُصنع منها بجهد موجه ومقصود وهمٌ أكبر من الحياة يُطلقه تجار الصّورة على المشاهدين فلا يعد يمكنهم الخلاص منه مهما فعلوا. لكن هوليوود التي تغلّب عليها بحكم تحالف تمدد لعقود مع المنظومة الليبراليّة الأمريكيّة ما لبثت أن فقدت ودّها القديم مع الرّجل بعد انتخابه، فأغلقت أبوابها دونه، وتعالت انتقادات نجومها ضده بمناسبة أو بدون.
مايكل مور الذي أقلق منامات بوش سيستهدف ترامب
أحد الأصوات العالية ضد الرئيس العتيد كان ملك صناعة الوثائقيّات المتوّج مايكل مور. صانع الوثائقي الشهير (فهرنهيت 9/11) الذي كان ولا يزال يتسبب بأضرار فادحة لمشروع الرئيس السابق جورج بوش وسمعته، أعلن أن عمله المقبل الذي أسماه (فهرنهيت 11/9) – أي التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني، وهو اليوم الذي أعلنت فيه نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة – سيكون هجاء أمرّ لعهد الرئيس الحالي ترامب، وأنه كذلك يعمل على ما أسماه بـ(مشروع سري) لمقابلة جمعته معه في أحد البرامج الحواريّة، «سيجعلهم يندمون على اليوم الذي قرروا فيه استضافتي معهم»!
الرئيس – النجم التلفزيونيّ السابق – ترامب يُدرك تماماً معنى أن يلوك سيرته فنان مسيّس مثل مور، لا سيّما وأن آخر البرامج الحواريّة التي كانت ما زالت تدافع عن الترامبيّة على قناة رئيسية عامة (Roseanne) أُوقف بعد تورط مقدّمته بكتابة تغريدات عنصريّة شبّهت فيها مساعداً للرئيس السابق باراك أوباما بالقرد، الأمر الذي يعني أن ترامب الذي ما يزال مطروحاً وبقوّة في فضاء (تويتر) أصبح مكشوفاً تماماً على جبهة الصورة. وهو لذلك انطلق في موجة محمومة للحصول على فرص للتصوير مع القلّة من نجوم الصورة الذين بقوا على تأييده، فاستضاف في البيت الأبيض النجم الذي بهت سيلفستر ستالون، وبعدها نجمة الهُراء الأكبر كيم كارديشيان التي التقته – وفق الإعلام – «للتداول بشأن إصلاح السّجون»، قبل أن يعلن عزمه إصدار عفو عن مقدّمة البرامج التلفزيونيّة مارثا ستيوارت، التي كانت أُدينت عام 2004 وسُجنت عدة أشهر لتحايلها على السّلطات الفدراليّة في قضيّة فساد تتعلق بتجارة في الأسهم – ربما تحضيراً لعودتها إلى الشاشة -.
لكن أفتك أسلحة ترامب على الإطلاق في مواجهة مايكل مور ورفاقه ربما لن يكون سوى دانيش دوسوزا مهرّج اليمين الأمريكي المتطرّف الذي سقط على صناعة الأفلام الوثائقيّة سقوطاً، والذي أصدر الرئيس عفواً عنه هو الآخر في جريمة فديراليّة، واستضافه البيت الأبيض مع رجالات الدولة الكبار في حفل توقيع خاص لإطلاق كتابه الأخير «موت أمّة».
مصنع خرافات متنقل صار صانع وثائقيّات
ديسوزا، الذي ولد في بومباي في الهند وهاجر إلى الولايات المتحدة أيّام مراهقته أطلق هذا الأسبوع فيلمه الوثائقي الرّابع، وهو يحمل ذات اسم «موت أمّة» أو «دث أوف أناشين» والذي جاء تماماً على شاكلة أفلامه السابقة كلها: مجموع ترهات وتهويشات تعتمد الانتقاء من المصادر التاريخيّة لتقدّم نظريّات وتصوراً ملفقاً عن العالم والناس والأحداث يناسب عقليّات المتطرفين اليمينيين التي تريد دائماً الاستماع إلى أشياء محددة بغض النظر عن (الحقيقة).
في «موت أمّة» أكوام من ذلك، إذ يصف ديسوزا ترامب بأنه إبراهام لينكولن جديد – أي محرر العبيد في الميثولوجيا الأمريكيّة – يقود حرباً صليبيّة لمواجهة الديمقراطيين الذين هم حزب نشأ أصلاً على العنصريّة وللدّفاع عن (حقوق) مالكي العبيد! وهو يعتبر الاتجاهات اليساريّة على تنوعها – وعلى رأسها الحزب الديمقراطي – نوعاً من الفاشيّة، مدللاً على ذلك بأن أدولف هتلر نفسه كان يساريّاً.
يستخدم ديسوزا في وثائقياته تقنيّات البروبوغاندا التقليديّة بتضمين وقائع مقحمة داخل إطارات غير إطاراتها التاريخيّة ملقياً حولها بادعاءات وتلفيقات حتى لا تكاد تميز الخيال من عدمِه.
فلا يمكن بالطبع قبول ربطه في «موت أمّة» بتاريخ الحزب الديمقراطي الملوّث بمسائل العنصريّة البغيضة قبل 150 عاماً بالحزب الديمقراطي اليوم – الذي ربما يمارس أشكالاً مختلفة من العنجهيات ضد العالم الثالث لكن ليس من بينها العنصريّة ضد العبيد -، كما أن الحجة التي ساقها لتبرير يساريّة هتلر لا تقوم على بناء فكري بل على أساس أن الأخير كان متسامحاً مع الشبان المثليين الذين كانوا يملؤون أروقة مقر قيادة الحزب النازي – على حد زعم ديسوزا دائماً -، وبما أن اليساريين يدعمون المثليين إذن هتلر يساري.
ديسوزا مدمن على تقديم أفكار من هذا الطراز لزبائنه الدّائمين في اليمين المتطرّف، وهو كان شنّ حملة واسعة على الرئيس أوباما فجعل منه مثلياً مسلماً أرسله أبوه لاختراق المنظومة الأمريكيّة من الدّاخل وتدميرها، كما وصنع وثائقيّاً في ذم آل كلينتون أثناء الحملات الانتخابيّة الرئاسيّة الأخيرة التي فاز بها ترامب، خلط فيه الحابل بالنابل لكنه كان إلى حد ما أحد أسباب هزيمة هيلاري كلينتون أمام غريمها.
توقيت«موت أمّة» ليس بريئاً بدوره، فهو يُعرض عشيّة الانتخابات النصفيّة في الولايات المتحدة والتي تعدّ دائماً بمثابة تصويت شعبي على أداء الرئيس الجديد بعد قضائه عامين على سدّة الرئاسة، ولا بدّ أن وثائقياً مثله سيكون في القلب من ماكينة ترامب الدعائيّة ضد الديمقراطيين.
من أي كوكب سقط هذا؟
ديسوزا الذي بدأ حياته المهنيّة محرراً لدوريّة يمينيّة لا يقرأها أحد تقريباً، صعد في الأوساط المحافظة لجرأته الدائمة على قول ما قد لا يتجرأ اليمينيون ذوو البشرة البيضاء على قوله. وهو بدونيته وتملقه لهؤلاء تقدّم في فضاءاتهم فحصل على وظائف داخل مؤسساتهم المؤدلجة وما لبث أن أصدر كتباً متلاحقة ضمّنها من ذات الهراء الذي شاهدناه لاحقاً في الوثائقيّات. على أنّه قرر اقتحام ملعب صناعة الأفلام الوثائقيّة بعد أن صدمه اتساع حجم تأثير مايكل مور في الجمهور الأمريكي وهو أمر لم يعد سراً بالطبع، إذ أن كتبه إذا وصلت لأيدي مليون قارىء من جمهوره، فإن ذات الأفكار معلبة في هيئة وثائقي تصل إلى عشرات الملايين من الذين صوّتوا لترامب مع ما يرافق ذلك من تكاثر العوائد الماديّة. وهكذا انطلق ليكون لليمين كما مايكل مور لليسار.
إستحالةٌ هي مقارنة القيمة الفنيّة لوثائقيات ديسوزا بروائع مور. فهو بغير الأفكار الرثّة التي يطرحها، ينتهج أسلوب تقديمٍ شديد الإزعاج ويعتمد على أساس إلقاء المفاجآت كقنابل متتالية وعلى مدار ساعتين دون السماح للمشاهد بتأمل أي فكرة أو التعمق فيها، ولذا ينتهي مشاهدوه من اليمينيين إلى الاستمرار في قناعاتهم كما هي دون تغيير.
ديسوزا كما نيكي هايلي ملّون مهمته قول ما لا يقال
ترامب بالطبع غير مولهٍ بالملونين عموما وبالمهاجرين خصوصاً أمثال المهاجر الهندي ديسوزا والهنديّة نيكي هيلي – المتحدثة باسم الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدّولي -، لكنّه من الذكاء بمكان ليوظف بعض هؤلاء من المصابين بعقدة الدونيّة واللاهثين لإثبات ولائهم تجاه السيّد الأبيض في الواجهة الإعلاميّة أبواقاً فاجرة لقول ما لا ينبغي أن يقال، وليكونوا حجته بأنه ليس عنصريّاً كارهاً للآخر المختلف كما (يدّعون).
«موت أمّة» إسم على مسمى. فأمّة نصفها يتعاطى هُراء ديسوزا هي حتما أمّة تمشي بقدميها إلى الانحطاط. والمأساة الأكبر أن هؤلاء يمسكون دفة قيادة العالم في أوقاتنا الحالكة السواد هذه.
إعلامية وكاتبة لبنانية بريطانية
7gaz
ندى حطيط
That was a smart anylising
Good on you
*أعتقد أن الاهوج الجشع (ترامب)
انكشف أمام العالم بشكل عام فنبذوه
وأمام الشعب(الأمريكي) بشكل خاص
والكرة الآن بملعبهم ليقولوا له(كفى)
تهريج وفسق وتضليل.
سلام