صرّح البيت الأبيض بأن «الصفقة بقيمة 110 مليارات دولار لشراء المملكة العربية السعودية أسلحة من الولايات المتحدة» تمثل جزءاً محورياً من منجزات زيارة ترامب الناجحة إلى منطقة الشرق الاوسط.
وهي الصفقة التي تعني عملياً «إنفاق المملكة أكثر من 300 مليار دولار خلال عقد من الزمان فقط على شراء أسلحة من الولايات المتحدة لوحدها» بحسب صحيفة «الغارديان» البريطانية.
وهي المملكة العربية التي تضاءلت كل احتياطياتها النقدية لأقل من 587 مليار دولار، بحسب منشورات صندوق النقد الدولي؛ أكثر من 388 مليار دولار منها محشور في سندات الخزينة الأمريكية نفسها، التي من المستحيل عملياً الخروج منها، بسبب الخسارة الهائلة التي سوف تصاحب عملية بيع تلك السندات، نظراً لتآكل قيمتها السوقية حالياً، ما يعني خسارة فادحة للمملكة إن قررت ذلك، وعدم إمكانية تسييل تلك الاستثمارات في المستقبل المنظور كحد أدنى، وهو ما يدل منطقياً على أن المملكة بسداد تلك الفاتورة الأخيرة بقيمة 110 مليارات دولار، تقوم عملياً بتحويل أكثر من نصف السيولة النقدية التي تمتلكها لصالح شركات السلاح الأمريكية، لتترك شعبها وكل الشعوب العربية التي يعمل أبناؤها في المملكة في قلق مقيم من المستقبل الكالح، الذي ينتظر أوان الإطباق عليهم.
وتأتي تلك الصفقة الأخيرة في سياق استجابة المملكة لابتزاز ترامب غير الموارب «بضرورة دفع ثمن الحماية التي تقدمها الولايات المتحدة للمملكة، إذ أن تلك الأخيرة مثلها مثل اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا، لا تدفع الثمن الحقيقي الذي تقتضيه مظلة الحماية الأمريكية»، وهو ما اقتضى لاحقاً رداً دبلوماسياً مقتضباً من الإدارة الألمانية مفاده بأن «ألمانيا تدفع حصة مشاركتها الصحيحة في الالتزامات المالية لحلف شمال الأطلسي، ولن تدفع زيادة عليها في الوقت الراهن أو المستقبل المنظور»، وهو الخطاب الأمريكي الذي أفضت مناهضته الناعمة على طريقة الكوريين الجنوبيين لانتخاب رئيس جديد لهم يقوم مشروعه الانتخابي على «عدم دفع فواتير منظومة صواريخ ثاد الأمريكية التي نصبتها الولايات المتحدة في كوريا الجنوبية، والتي تقارب قيمتها مليار دولار» دون أن ترقى لعظمة الفاتورة السعودية التي فاقت تلك الأخيرة بمئة ضعف ونيف على الأقل، بالإضافة إلى فتح كل الأقنية الدبلوماسية مع جارته الشمالية، بالطريقة نفسها التي كانت عام 1994، وأدت إلى خفض التوتر في شبه الجزيرة الكورية، وإبعاد شبح الحرب عن شعب واحد في دولتين مصطنعتين، نتيجة الحرب الأمريكية على أرضه في خمسينيات القرن المنصرم، بالمرحلة نفسها التي كان فيها شوك سايكس– بيكو ينضح أُكُلَهُ العلقمية في أرض العرب، على شكل دول عربية خلبية محملة بكوامن فشلها بنيوياً في تكوينها المبتور تاريخياً، والمخالف لكل منطق نشوء الأمم القومية في التاريخ الحديث.
وها هي أسعار النفط عالمياً تتراجع بشكل مطرد، بما يشي بصعوبة سداد تلك الفاتورة العملاقة من عائداته في المستقبل القريب، دون أن يتجرأ العرب بالرد على ترامب وشركاه من شركات صناعة السلاح الأمريكية، بالحقيقة المرة التي أفصح عنها بجلاء العالم جوزيف ستيغليتس الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد التي مفادها أن «إغراق المملكة العربية السعودية للأسواق العالمية بالنفط الرخيص خلال العقد المنصرم، كان السبب الوحيد الذي لولاه لما تمكنت الولايات المتحدة وكل الدول الغربية من تحمل صدمة التقهقر الاقتصادي العظيم في 2008، والذي دونه لكانت الاقتصادات الغربية انهارت في مجملها، بالشكل الذي انهارت به كلياً عام 1929» والذي قاد بنتيجته للحرب العالمية الثانية بشكل مباشر أو غيره. وهو ما يعني أن شعب شبه الجزيرة العربية قد يكون صاحب الفضل الأول وشبه الأوحد في بقاء الاقتصادات الغربية على قيد الحياة، بشكلها المتغطرس المتنكر الجحود الذي نعرفه، والذي يطالب الآن بما قد يرقى إلى امتصاص نسغ حياة ذلك الشعب الذي أسعفه من مواته المحقق.
لا يختلف عاقلان على خبث وشيطانية نظام الملالي في إيران، الهادف دون مواربة لاستعمار العرب، جغرافياً وسياسياً وفكرياً، كتوسعة لاستعمارها لإقليم الأحواز المظلوم المنسي، تحت يافطات ولبوسات دينية لا تغير من جوهر ذلك المشروع الاستعماري شيئاً، وأنّ تعملق ذلك المشروع وتخندقه عربياً عن طريق زبانية محليين، لذلك المشروع ليس إلا نتيجة طبيعية لتحالف الأعراب أنفسهم مع سادة البيت الأبيض، لتحطيم عبد الناصر في حرب اليمن في 1962، وما تلاه من نتيجة طبيعية لذلك في نكسة حزيران، وخروج مصر من موازين قوى العرب، وما تلاه من إصرار عربي على تحطيم العراق، دولة وشعباً، عقب خطيئة طاغيته الكارثية في غزو الكويت في 1991، على الرغم من قبول طاغية العراق آنذاك بالانسحاب من الكويت بضمانات قابلة للتطبيق، كما وثّق ذلك الباحث الطليعي مارك كورتيس في كتابه «اللابشر»، ومن قبله المفكر نعوم تشومسكي في كتابه المهم «ضبط الإعلام، اتساقاً مع إصرار السادة الأمريكان على ذلك؛ فدمّروا العراق شعباً ودولة، وتركوا الطاغية بعبعاً لابتزاز دول الخليج به حتى عام 2003.
ولكن الاتفاق المحتمل على التوصيف التاريخي الأخير، لا يلغي حقيقة كون إيران دولة عالم ثالث بكل ما تعنيه الكلمة من معان متداخلة، وأنها تستشعر بقرون استشعارها السياسية الخبيثة، إمكانيات تهشيمها الكلياني في سياق مشروع ترامب على تعزيز قبضة الولايات المتحدة عسكرياً على المستوى الكوني، وأنّ كل ترسانة صواريخها التي تهدد بها، لا يمكن أن تحميها من جنون الآلة العسكرية الأعظم كونياً، والتي تستطيع تحويلها في سويعات قليلة، حسب توصيف مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي إلى «أرض للنفايات»، وأنّ أقصى ما يمكن أن تفعله بصواريخها أن تدمر دول الخليج جميعها بالآلية نفسها التي ترعد وتزبد بها كوريا الشمالية مهددة جارتها الجنوبية، والفارق هنا أن الرئيس الكوري الجنوبي استشعر ذلك، وقرر تجرع العلقم الذي لا بدّ منه، وفتح الأقنية الدبلوماسية مع جارته الشمالية، ورئيسها الصبياني الأرعن لمعرفته بأنّ الخاسر الوحيد في لعبة الشيطان تلك ليس الولايات المتحدة، وإنما وطنه وشعبه. وفي ذلك السياق هل يعقل أن تكون الجعبة الدبلوماسية الخليجية أصبحت خاوية حتى من أدوات الأبواب الخلفية، والوساطات العمانية وغيرها، لأجل إيجاد حلول وسط معينة يمكن أن تجنب منطقة الخليج احتمال الاندثار عن خريطة المعمورة، وتحلحل التراجيديتين السورية واليمينة في السياق نفسه.
صحيح إلى درجة الصواب المطلق أن هناك جرحاً تاريخياً في الجسد العربي سببه الخنجر الإيراني المسموم الذي ما زال يتفنن في تقطيع اللحم العربي، وأنّ فقه العدالة يقتضي أن «الجروح قصاص»، ولكنها هي الضرورات الوجودية التي قد تبيح المحظورات، وتجبر العاقل على التوقف عن زرع الشوك الأمريكي في أرض العرب، فقد تجرع العرب ما يكفيهم من مرار حصاد ذلك الشوك، وقد يقتضي العقل راهناً تجرع علقم من نوع آخر للبقاء على قيد الحياة.
كاتب سوري
د. مصعب قاسم عزاوي
شكر لكاتب المقال. لماذا لا تنشر وسائل الاعلام العربية هذه الحقائق المهمة جدا! كله يخاف من ماما امريكا. يا حيف!