في المؤتمر الصحافي المشترك مع رئيسة الوزراء البريطانية، 13تموز/يوليو الجاري، قال الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إن الهجرة أضرت بأوروبا وغيرت ثقافتها وزادت من خطر الإرهاب. وخلال إجتماع في البيت الأبيض، كانون الثاني/يناير الماضي، وصف ترامب الدول الأفريقية «بالحثالة». صحيح أن تصريحات ترامب «تعكس رؤية مغلوطة، سطحية وعنصرية»، إلا أنها أيضا تعكس تناسي أو تجاهل الرئيس الأمريكي للحقيقة التاريخية القائلة بأن الولايات المتحدة تبقى مثالا حيا لكيفية إنبثاق أمة ونشوء دولة من الهجرة والمهاجرين، ومن بينهم جد وجدة ترامب نفسه، وأن للمهاجرين القدح المعلى في تشييد البنيات الأساسية في أمريكا وأوروبا. أما ربط الإرهاب بالهجرة، كما يردد ترامب دائما، فهو إفتراء وتعامل سطحي مع ظاهرة تاريخية، تظهر وتختفي حسب الظروف السياسية والإجتماعية المعينة، وفي سياق تاريخي محدد.
نحن لا نستطيع أن ننكر أن الحاضنة الفكرية لإرهاب وعنف الجماعات المتطرفة تكمن فينا، في أزمة الخطاب الديني بعد أن تفاقمت واستفحلت تناقضاته وتفتقت عن تنظيمات ظلامية تتبنى أهدافا غير عقلانية تنادي بتغيير العالم، بقوة السيف والترهيب، ليتوافق مع رؤاها وتخيلاتها. وإذا كانت أزمة الخطاب الديني تمثل الحاضنة الفكرية للإرهاب، فإن انعدام أبسط مقومات الحياة، وتفشي الفقر والفاقة والمرض، وارتفاع معدلات اللامساواة في العالم إلى سقف جنوني، بسبب سياسات اقتصاد السوق الحر غير الاجتماعية، وبسبب السياسات النيو ليبرالية المتوحشة، كلها تمثل الحاضنة المادية، الاقتصادية والاجتماعية، للإرهاب. فالإرهاب نمى وترعرع في ذلك الجزء من كوكب الأرض حيث المشاعر القائمة على أرض صلبة من الإحساس بالظلم والتهميش، والإدراك للدور الأمريكي المتميّز في خلق هذه الحالة، منذ تجارة الرقيق ومرورا بسلب الخيرات والثروات وقمع محاولات الاستقلال بالقرار الوطني، وحيث التاريخ الحديث المشبع بالتناقض مع الاستبداد والإمبريالية، والمحجوبة عنه السياسة والمعرفة، والمفتوح على العنف المضادّ والثورة على العجز المستدام. هذه أرض تنبت التطرّف والاستعداد للموت.
هذا الوليد، أنجبته الرغبة الأمريكية، عندما إستخدمته سلاحا في الحرب الباردة، فحمل الإيديولوجيا الأمريكية ذاتها حين شبّ على الطوق، وفسّر العالم مثلها على أنه فسطاطان للخير والشرّ، ولا توسّط بينهما، مروَعا بإنعدام الأمل في عالم أفضل وأرحب للبشريّة جمعاء. حديثنا هذا لا يعني أننا لا ندين الإرهاب، أو سنتقاعس عن محاربته. فنحن بالتأكيد نرفضه، ولكنا في ذات الوقت نرفض خيار المصيدة: إما مع أمريكا أو مع الإرهاب!، ولا نسلم لأمريكا بحق انفرادها بتعريف الإرهاب وصياغة المعايير الخاصة به!. ونحن ضد التوظيف السياسي لمفهوم الإرهاب بحيث يُدمغ به كل من يحمل رأيا مخالف أو معارضا، وكل من يسعى لاسترداد حقوقه المسلوبة. نحن ضد الإرهاب، ولكن بذات المنطق، نحن ضد انحياز أمريكا لإسرائيل وتبرير قمعها للشعب الفلسطيني. فنضال الشعب الفلسطيني، بكل فصائله، ليس إرهابا، وإنما هو نضال لاسترداد الحق المغتصب.
بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، ازدادت حدة النغمة التي ظل يرددها ساسة ومفكرو الغرب حول المطابقة بين قيم الرأسمالية والحضارة الإنسانية، وأن مهددات الحضارة الإنسانية، حضارة الشمال الرأسمالي، تأتي من الجنوب المظلم، من دول «الحثالة»!. فمن الجنوب تأتي المخدرات والإيدز والعنف الإثني ومنظمات الإرهاب، ومؤخرا، أمواج الهجرة التي تهدد نقاء المجتمعات الغربية!. لكن، الحقائق الدامغة تقول، مثلا، أن تمويل زراعة وتسويق المخدرات تتم برؤوس أموال غربية «شمالية»، وعدة مرات فاحت روائح فضائح تشجيع الغرب الرأسمالي لزراعة وتسويق المخدرات بهدف تمويل تدخلاته العسكرية ودعمه للحروب في عدة بلدان، مثل نيكاراغوا وكوبا وأفغانستان. ومعروف أن تفشي مرض الإيدز ينتج من عدة عوامل على رأسها الفقر والجوع والجهل وانعدام الرعاية الصحية، وهذه العوامل كلها ناتجة من سياسات النهب والتبعية الاقتصادية التي تعتمدها أمريكا والغرب الرأسمالي حيال الدول النامية، ومن جراء روشتات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لهذه الدول، والتي كان للغرب الدور الرئيسي في تنصيب ودعم الديكتاتوريات وأنظمة الاستبداد والطغيان فيها، مما عمَق من حالات الغبن والتفاوت الاجتماعي والتهميش العرقي، وكل هذه من مغذيات التطرف والإرهاب.
وأخيرا، أليس الغرب الرأسمالي، وتحديدا أمريكا، هو الذي صنع ورعى وغذى منظمات الإرهاب الإسلاموي في المنطقة باعتبارها الترياق المضاد للشيوعية…!؟ من صنع طالبان، وماذا عن اعترافات هيلاري كلينتون حول داعش؟!! باختصار، مثلما العديد من المنتجات الصناعية في الدول الرأسمالية يعاد إنتاجها، أو إنتاج بعض قطع غيارها، في عدد من دول الجنوب، برؤوس أموال غربية وبواسطة الشركات الرأسمالية العابرة للقارات، وذلك لأسباب اقتصادية معلومة، فإن المخدرات والإيدز والإرهاب، كلها في الأساس صناعة غربية رأسمالية يعاد إنتاجها في دول الجنوب.
والولايات المتحدة، اغتنمت الفرصة الذهبية التي وفرتها تفجيرات 11 سبتمبر، فتحركت لتنفيذ خططها المعدة سلفا، لوضع يدها على مصادر الطاقة في آسيا الصغرى وبحر قزوين، بعد أن تم لها ذلك في الجزيرة العربية عبر «عاصفة الصحراء»، ولتحتل موقعا فاعلا في قلب المثلث النووي الآسيوي، الصين والهند وباكستان، ولتستكمل تطويق إيران وروسيا والصين، ولتسير قدما في تنفيذ مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، جوهر إستراتيجيتها في المنطقة، وفي قمة أهدافه ضمان أمن إسرائيل وتفوقها النوعي، وذلك بدفع المنطقة تجاه ما سمي بالفوضى الخلاقة، حتى يتم إعادة تقسيمها إلى دويلات دينية ومذهبية ضعيفة ومتصارعة، بما يجعل تنفيذ المشروع ممكنا. ولعل إنقسام السودان إلى دولتين، بدعم فعال من الولايات المتحدة الأمريكية، هو حلقة من حلقات تنفيذ هذا المشروع. كما أن إستمرار الحرب الأهلية في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، يهدد بإنقسامات جديدة في السودان، مثلما هو الحال في اليمن وسوريا والعراق وليبيا.
والآن، أليس من حقنا دعوة الرئيس ترامب لإعادة قراءة تاريخ تكوين الولايات المتحدة، وتاريخ أسرته هو شخصيا، ولإكتشاف جذور الإرهاب في سياسات وممارسات أمريكا، لا في الهجرة والمهاجرين؟.
٭ كاتب سوداني
د. الشفيع خضر سعيد