كان تطوراً لافتاً، وهو بالطبع خبر مبهج لقرّاء الشعر باللغة الفرنسية، أن تصدر ـ في طبعة خاصة بأجهزة القراءة اللوحية ـ سلسلة الأعمال الكاملة للشاعر الفرنسي بول فيرلين (1844ـ1896)؛ وكذلك سيرته الشهيرة التي كتبها إدمون لوبيلتييه، وصدرت للمرة الأولى سنة 1907. وهذا طراز في الطباعة لم يعد ضرورة عصرية، في أزمنتنا الرقمية هذه، فحسب؛ بل هو يوفّر ميادين قراءة ميسّرة وعملية، فضلاً عن أثمانها الزهيدة، بالقياس إلى أسعار الكتب عموماً، والأعمال الشعرية الكاملة بصفة خاصة. (طبعة «لابلياد» الورقية، على سبيل المثال، تكلّف عشرة أضعاف الطبعة الرقمية!).
والأمر مبهج لأنّ شخصية فرلين، الإنسان والشاعر، اقترنت على الدوام بسمات انفرادية، وإشكالية، جمالية وسلوكية؛ وتوفيره اليوم على هذا النحو، في أيدي شرائح واسعة من القرّاء، خاصة الشباب، سوف يسهم في إعادة إدراج شعره على الخرائط المعاصرة لتذوّق الشعر الفرنسي. لقد التقط قصيدة شارل بودلير في عمر مبكّر للغاية، وجهد طويلاً لكي يواصل تلك الأسلوبية الفريدة التي بشّرت بها مجموعة «أزهار الشر»؛ وأغنى الشعر الفرنسي بالكثير الجديد في مستوى الموضوعات والتقنيات، وحرّره من كمّ مماثل من الأعراف والقيود؛ وحقّق رابطة متقدمة بين ستيفان مالارميه وأرتور رامبو، وكان ذلك الإنجاز شاقاً واختراقياً في آن؛ وانتمى إلى «الحركة البرناسية» دون أن ينجرف إلى جمالياتها الرومانتيكية المطلقة، ودون أن يكبح جماح الترميز الكثيف والتصوير التشكيلي للعالم المادي؛ وأخيراً، عاش حياة صاخبة وعاصفة، ومشحونة بكل ما هو جدير بشاعر بوهيمي.
ولعلّ «الصداقة اللدودة»، التي جمعت فيرلين ورامبو، هي التفصيل الأكثر دراماتيكية في حياة متقلبة مضطربة، صاخبة معذّبة. ففي أيلول (سبتمبر) من العام 1871، تلقّي فيرلين رسالتين من رامبو، وصلتا من بلدة شارلفيل واحتوتا عدداً من القصائد (هي اليوم جزء من كلاسيكيات الشعر الفرنسي)؛ مع طلب بأن يبذل فيرلين جهوده لمساعدة رامبو في المجيء إلي باريس. وعرض فيرلين القصائد على عدد من أصدقائه، فشاطروه انطباعه الحسن عنها، وتحمسوا للموهبة التي تقف وراءها. ولم يتأخر فيرلين، فكتب إلى رامبو: «تعال أيها الروح العظيمة العزيزة. نحن ننادي عليك، وننتظرك»، وأرفق بالرسالة مبلغاً من المال يكفي لوصول رامبو إلى باريس.
وهكذا بدأت صداقة خاصة حقاً بين الشاعرين، لم يمض وقت طويل حتى أخذ الشارع الباريسي يتقوّل حول طبيعتها، وبلغ الأمر أن صحيفة كتبت تقول: «شوهد المسيو بول فيرلين وقد تأبط ذراعه مخلوق شاب فاتن، هو المدموزيل رامبو». وقد زاد في الطين بلّة أن ظروف طفولة فيرلين، مثل طفولة رامبو، قد خلّفت الميول الواضحة نحو المثلية الجنسية، الأمر الذي أسهم في تكريس مشاجرات دائمة بين الشاعرين. وفي تموز (يوليو) من عام 1872 غادر الصديقان إلي بروكسيل، ثمّ إلى حياة تسكع أخرى في لندن هذه المرّة، وإلى دورة متعاقبة من الخصام والمصالحة والخصام من جديد، حيث كان الأمر ينتهي دائماً بشجار أشدّ عنفاً.
ويبدو أن أحداً لا يعرف على وجه الدقة ما الذي اعتور فيرلين في بروكسيل، صبيحة العاشر من تموز (يوليو) 1873، حين خرج باكراً لابتياع مسدس، وعاد مخموراً عند الظهيرة. «هذا لك، ولي، وللجميع»، قال فيرلين وهو يُظهر المسدس أمام رامبو. ولكن الرجلين غادرا الفندق معاً، وشربا وتناولا الطعام، ثم عادا إلى الغرفة، وإلى وصلة شجار جديدة أسفرت هذه المرة عن طلقتين من مسدس فيرلين: واحدة أصابت ساعد رامبو، والثانية ارتطمت بالجدار. وحين هرعت والدة فيرلين إلى الغرفة وجدت ابنها يبكي بحرقة ويتوسل إلى رامبو أن يطلق رصاصة على رأسه.
هذه الحياة العجيبة أكسبته لقب «الشاعر الرجيم»، لكنها أفضت به، أيضاً، إلى نزعة تديّن كاثوليكية، لعلها كانت محفورة أصلاً في وجدانه منذ الطفولة، وامتزجت برؤيا نبوئية تجوس أركان هذا المجتمع «المقيت، العفن، الخسيس، الأرعن، والملعون»؛ ولا توفّر نقداً لأحد: الديمقراطية، الجمهورية، حقّ الانتخاب، فكتور هيغو، غوستاف فلوبير، إدمون دي غونكور… ولكنّ فيرلين الجديد، هذا، لن يتحرر من جاذبية رامبو، وسيسعى إليه على الدوام. وفي ذروة صعود مجده وانتخابه «أمير الشعراء» الفرنسيين، أخذت الأمراض تفتك بجسده (الروماتيزم، السكري، السفلس، ذات الرئة…)، وكان أن لفظ أنفاسه الأخيرة بعد غيبوبة طويلة.
وهكذا، قضى كما يليق بشاعر بوهيمي، ملعون، وغير عادي: وحيداً، عارياً، ممدّداً على بلاط الغرفة المظلمة الباردة. وليست آخر مفارقاته أنّ شعره يعود، اليوم، إلى قارئ عصري، في صيغة رقمية!
صبحي حديدي
شكر، اذ أخرجتنا ،و لو لدقائق، من كابوسنا اليومي. سلام