تركيا أردوغان وثمن الخروج من العزلة: التخلي عن الأيديولوجيا والتمسك بالبراغماتية

حجم الخط
2

أنهت تركيا فصلا من التوتر مع إسرائيل بتطبيع العلاقات الدبلوماسية معها من جديد. فبعد ست سنوات من التوتر التي قضى فيها البلدان ثلاثا في التفاوض حول أحسن تسوية تعيد مسار العلاقات الدبلوماسية بينهما، وافق البلدان على تسوية ملفات الخلاف وتبادل السفراء بطريقة أرضت شروطهما بطريقة نسبية. ولهذا السبب غابت الأجواء الإحتفالية واكتفى كل طرف بالإعلان عن تطبيع العلاقات واعتراف من كليهما أن القوتين الإقليميتين لا تستطيعان البقاء في حالة من العداء في وقت تعيش فيه المنطقة وضعا مضطربا. ويأتي التصالح مع إسرائيل كجزء من حملة تركية لـ «تصفير المشاكل» مع الجيران بعد حالة من العزلة الغريبة التي عاشها البلد نتيجة للحرب في سوريا وتداعيات إسقاط الطائرة الروسية في العام الماضي بشكل أغضب الرئيس فلاديمير بوتين الذي فرض عقوبات على تركيا وأوقف التعاون التجاري والسياحي بين البلدين، بالإضافة للخلافات حول ملفات إقليمية ومشاكل داخلية تعاني منها الدولة التركية وأهمها استئناف الحرب مع الإنفصاليين الأكراد وفشل السياسة التركية في سوريا وانتقال آثار الحرب هناك إلى قلب المدن التركية. وكان هذا واضحا في هجوم يوم الثلاثاء الذي استهدف بوابة تركيا للعالم، أي مطار اسطنبول الذي يعد ثالث أهم مطار في أوروبا، ومن هنا فاستهدافه من قبل انتحاريين هو استهداف للسياحة والإستقرار في البلاد. وعليه فقرار الرئيس التركي طيب رجب أردوغان الانتهاء من ملفات شائكة يخدم بالضرورة مصالحه المحلية ويعيد مكانة تركيا الإقليمية.

من الأيديولوجي إلى البراغماتي

وبدا واضحا في التحركات الأخيرة تغليب الجانب البراغماتي على الأيديولوجي. فقبل خمسة أعوام كانت تركيا تمثل نموذجا مهما لتصالح الإسلام مع الحداثة والديمقراطية. وأملت أنقرة ان يسهم نموذجها بانتصار القوى الإسلامية الصاعدة في دول الربيع العربي. إلا أن انتصار الثورة المضادة وسقوط الإسلاميين المدوي في مصر واليمن وخروجهم في تونس إلى المعارضة أدى لعزلة تركية في المنطقة العربية. ويرى سكوت بيترسون في صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» (28/6/2016) أن التحول الدبلوماسي البراغماتي الجديد يعبر في إطار منه عن تراجع في وضع أردوغان في المنطقة خاصة أنه لم يحصل على ما يريد في كل اتفاق سواء مع إسرائيل أو روسيا التي اعتذر لرئيسها. ولا ينفي الكاتب أن يكون هناك رابط بين المشاكل المحلية ومحاولات الإنفتاح على العالم الخارجي. ويقول هنري باركي من معهد وودرو ويلسون للباحثين أن «الناس ينظرون إلى أردوغان باعتباره شخصا مستبدا.. وحمل بعض صفات القادة الذين أطيح بهم» وهذا على خلاف الصورة التي تشكلت عنه عام 2009 عندما وقف إلى جانب غزة في حربها ضد إسرائيل، وفي عام 2011 عندما نظر إليه كبطل في ميدان التحرير، وسط القاهرة. ويرى باركي أن شعبية أردوغان هبطت داخل بلاده وخارجها. وجاء هذا نتاجا لمواقف ديكتاتورية ومواقف متشددة في سوريا ومن أزمة الهجرة التي ضربت أبواب أوروبا حسب «نيويورك تايمز» (27/6/2016) التي قالت ان التطورات الدبلوماسية هي محاولة لإصلاح الضرر الذي تسببت به هذه السياسات. وبحسب أصلي أيدينتسباس، الباحثة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية «مرت تركيا في فترة من العزلة خلال السنوات الماضية بعدما تخلت عن سياستها الشهيرة (صفر مشاكل مع الجيران) إلى مكان بمشاكل مع معظم الجيران» و«كانت هذه أدنى نقطة في تاريخ الجمهورية حيث لم يتبق لها إلا قطر والسعودية كصديقتين». ورغم محاولة أردوغان إنشاء علاقات مع الجيران المسلمين إلا أنه أخطأ في حساباته خاصة في سوريا، فقد دفع باتجاه تغيير النظام السوري ورفض التعاون الأمريكي مع أكراد سوريا في قتال تنظيم الدولة ولم يلتفت لحدوده الطويلة مع سوريا إلا العام الماضي بعدما تدفق منها آلاف الجهاديين وانضموا إلى تنظيم الدولة الإسلامية. وفي حالة روسيا كان التعاون الاقتصادي هو المهم مع أنه كان في صالح موسكو التي باعته النفط والغاز مع أن تركيا استفادت من 3 ملايين سائح روسي في كل عام.

مشاريع طاقة

ومن هنا فاستنئاف العلاقات التركية – الإسرائيلية يمنح أنقرة فرصة لتوقيع اتفاقيات مربحة لمشاريع غاز تبيع من خلاله إسرائيل الغاز إلى تركيا ومنها إلى أوروبا. وبحسب لويس فيشمان، الأستاذ المساعد في كلية بروكلين والمتخصص في العلاقات التركية- الإسرائيلية، فاستئناف العلاقات «لا يتعلق فقط بتوقيع عقود غاز مربحة مع إسرائيل ولكن محاولة لاستعادة نفوذها الإقليمي». وترى أيدينتسباس أن وراء إصلاح الملفات الخارجية محاولة «وجودية للنجاة»، فأردوغان الذي حقق حزبه أعلى أصوات وفاز بأكثر من جولة انتخابية يواجه بلدا يعج بالمشاكل أصبح من الصعب حكمه. ويرى جنكيز تشاندر الأستاذ الزائر في معهد الدراسات التركية في جامعة استوكهولم أن التطورات الأخيرة تعبر عن براغماتية أردوغان، فتحسين العلاقات مع الجيران تعني أن الحكومة تسير في الطريق الصحيح وأنها خرجت من عزلتها.

غزة تنتظر

ومع ذلك تظل الاتفاقيات التي وقعتها تركيا خارج الطموح. ففي غزة مثلا لم يحصل الأتراك على ما يريدون من فك الحصار المفروض عليها، فيما طالبت إسرائيل أردوغان بإغلاق مكاتب حماس في تركيا التي قالت إنها تستخدم لتوجيه هجمات ضدها. وفي النهاية توصل الطرفان إلى حل وسط، فلم تحصل أنقرة إلا على تعهدات بتخفيف الحصار والسماح بمرور المساعدات التركية إلى غزة ولكن عبر ميناء أشدود. وسيسمح لتركيا بمباشرة مشاريع إعمار متعددة في القطاع المحاصر. وستظل مكاتب حماس في اسطنبول مفتوحة مع تعهد الحكومة التركية باقتصار نشاطها على العمل السياسي فقط. وتقول مجلة «إيكونوميست» (2/7/2016) إن هذا لن يجلب المساعدة المباشرة لأهل غزة خاصة أن المساعدات التركية ستمر عبر الميناء الإسرائيلي وستتعرض للفحص من السلطات فيه. ولدى تركيا خطط طموحة لبناء محطات توليد طاقة كهربائية وتحلية للمياه. وهي مشاريع مفيدة لـ 1.8 مليون نسمة يعانون من نقص في الكهرباء وستوفر فرص عمل ضرورية للسكان هناك. ومشاريع كهذه بحاجة إلى صيانة دائمة وإمدادات ومن الصعب تأمينها في مكان تعرض لغارات إسرائيلية متواصلة. وهناك معوق آخر هو الإنقسام بين السلطة الوطنية في رام الله وحماس التي تسيطر على غزة. ولا تتوقع المجلة عودة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها. فهناك شكوك داخل المؤسسة الإسرائيلية من العلاقات الأمنية بين الموالين لأردوغان وإيران. ويقول مسؤول إسرائيلي بارز «من الصعب رؤية كيف تعود العلاقة لسابق عهدها طالما بقي أردوغان في هرم السلطة». ففي الماضي كانت القوات المسلحة للبلدين تجري مناورات عسكرية مشتركة واستخدمت إسرائيل الأراضي التركية للقيام بعمليات رقابة واستخبارات ضد كل من سوريا وإيران، وهذه الأمور ليست مطروحة في الوقت الحالي.

تعاون أمني

ولا ينفي مايكل كوبلو، مدير المنبر الإسرائيلي للسياسة هذه الامكانية. ففي مقال تحت عنوان «الإرهاب وصفقة تركيا مع إسرائيل» في مجلة «فورين أفيرز» (29/6/2016) ناقش فيه أن الهجوم على اسطنبول الذي تزامن مع تطبيع العلاقات بين البلدين يؤشر إلى أهمية التعاون الأمني وفي مجال مكافحة الإرهاب. ويعتقد الكاتب أن الدوافع وراء استئناف العلاقات وهي التعاون في مجال الطاقة والتنسيق في سوريا وفي مكافحة الإرهاب، تظل قائمة وإن على الورق وفيها منفعة لكل طرف. ويرى أن الاتفاق ليس في مأمن من الإنهيار مع اندلاع جولة جديدة من القتال في غزة. ويشير الكاتب هنا إلى أن التزام تركيا بالإتفاق مع إسرائيل يظل مرتبطا بالشروط المحلية والتأثير الإقليمي لها. فمثلا ليست للحكومة التركية سلطة على المحاكم التي تقدمت أمامها عائلات قافلة المساعدات لغزة «مرمرة» عام 2010 بدعاوي قضائية ضد قادة في وحدة الكوماندوز التي هاجمت القافلة الإنسانية، وترفض التنازل عن القضايا. وحتى تتحايل على الوضع تخطط الحكومة التركية إصدار تشريع يلغي المحاكم الحالية ضد الجيش الإسرائيلي. وخطوة كهذه ستكون مثيرة للجدل.
ويشير الكاتب إلى حماس والتي قد تكون عقبة أمام وفاء تركيا بتعهداتها من الإتفاق خاصة في حالة حدوث هجوم إرهابي داخل إسرائيل. وعندها ستضغط إسرائيل باتجاه إغلاق مكاتبها في تركيا. ومن غير المحتمل أن يستجيب أردوغان للطلب خاصة أنه طور علاقة شخصية مع مدير المكتب السياسي في حماس، خالد مشعل. وبالنسبة لتعهد تركيا المساعدة في إعادة جثث القتلى الإسرائيليين لدى حماس، فهذا قائم على تقدير تأثير الجناح السياسي في الحركة على الجناح العسكري الذي يتصرف باستقلالية في معظم الأحيان. ويرى الكاتب أن نجاح الصفقة الحالية يظل رهنا بالهدوء في غزة. مشيرا إلى أن الرأي العام التركي لا يزال ينظر بشك إلى إسرائيل وسيضطر أردوغان لاستدعاء سفيره مع سقوط أول الضحايا الفلسطينيين في غزة. وعليه فالتقارب التركي- الإسرائيلي يقوم على بيت الورق الذي يمكن أن يطير مع أول بادرة لحرب إسرائيلية- فلسطينية. ويتحدث الكاتب عن الدور المصري الذي قد يكون تخريبيا للصفقة، إن أخذنا بعين الإعتبار التوتر الحالي بين أنقرة والقاهرة. فحكومة عبدالفتاح السيسي تريد تحديد التأثير التركي في غزة ولن تكون راضية عن المشاريع التركية هناك لأنها ستعطي حماس متنفسا لا تريده الحكومة المصرية. ومن هنا فالتطبيع في العلاقات بين البلدين أمر جيد ولكن علينا تخفيض سقف التوقعات التي يعول عليها كل طرف.

خطوة مهمة

وعلى العموم ترى صحيفة «فايننشال تايمز» (29/6/2016) أن تبني الرئيس أردوغان فلسفة أكثر براغماتية لعضو الناتو والقوة الإقليمية التي تصل أوروبا بالشرق الأوسط هي خطوة إيجابية في منطقة تعاني من الاضطرابات، وهو تحرك رحب به الدبلوماسيون الأجانب والمستثمرون وتضيف أن تركيا عادت للوضع السابق. ويرى سنان أولغن، رئيس مركز اسطنبول للدراسات الاقتصادية والسياسة الخارجية أن «النموذج السابق القائم على سياسة خارجية مبنية على الايديولوجيا فشل فشلا ذريعا.. وأخذ الأمر تركيا عدة سنوات لتقدير ذلك ثم التعافي منه». ويوافق منصور أكغون، مدير مركز التوجهات السياسية العالمية في جامعة كولور في اسطنبول الذي قال إن هذا التغير «جاء من إدراك بأن تركيا تركت وحدها ومعزولة في الشرق الأوسط الذي لم يكن وديا معها وكانت بحاجة لإيجاد حلفاء في المنطقة وفي الخارج». وقال آرون ستين، الزميل في معهد «أتلانتك كاونسل» إن تدخل روسيا في سوريا «غير موقف تركيا الاستراتيجي تماما». ولكنه أشار إلى أن تركيا لن تتوقف مرة واحدة عن موقفها الداعي لخروج الأسد من الحكم ولكنها بدلا من ذلك تقوم بإعادة موازنة جهودها. كما أن خسارة الثوار السوريين الذين تدعمهم تركيا أمام القوات الكردية التي تدعمها أمريكا، وقلق تركيا من أن تقوم روسيا بدعم الفصائل الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني لزعزعة الاستقرار في تركيا اضطرها لإعادة التقييم وبتخفيف الضغط بسبب التحديات الكثيرة التي تواجهها تركيا، يمكن لأردوغان أن يجد متسعا من الوقت للسعي لتحقيق طموحه السياسي لتعديل الدستور التركي لخلق رئاسة تنفيذية قوية. ويقول أكن أنفر الأستاذ المساعد في العلاقات الدولية في جامعة قادر خاس: «كل التحولات في السياسة الخارجية لها أبعاد انتخابية محلية. وقد وضع الرئيس أردوغان أولوية للتحول الدستوري إلى رئاسة تنفيذية ولهذا السبب فهو يريد التخلص من أزمات العلاقات الخارجية للتركيز على القضايا الداخلية».

تركيا أردوغان وثمن الخروج من العزلة: التخلي عن الأيديولوجيا والتمسك بالبراغماتية

إبراهيم درويش

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Mechri ahmed alger:

    من صفات النظام القوي الناجح ان يكون قادرا على تغيير اتجاهه من الاديولوجية الى البراغماتية او العكس او استعمال واحدة في جانب والاخرى في جانب اخر بطريقة متزامنة حسب الضروف وهذا هو نظام اردوغان وحزبه التنمية والعدالة فالاسلام دينهم الخاص بهم الذي يطبقونه على انفسهم ولا يصدرونه لاحد اما التعامل مع الاخرين ولسيما من غير المسلمين فهو براغماتي بحت وهو اسلوب ناجح كما نرى فيتوجب على الدول الاسلامية انتهاجه.

  2. يقول الصوفي الجزائر:

    يبقى اردوغان رجل في زمن عز فيه الرجال والله ان رؤساء العرب لو يجتمعون لا يستطيعون اتخاذ عشر ماتخذه اردوغان من مواقف اتجاه قضايا الامة

إشترك في قائمتنا البريدية