أن يتم اعتقال عدد من العاملين في صحيفة «جمهوريت» (العلمانية)، وعدد من نواب حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي)، بينهم رئيسا الحزب المشتركين صلاح الدين دمرتاش وفيغن يوكسك داغ، في غضون أقل من أسبوع واحد، فهذا من علامات الذهاب إلى المجهول.
فالصحيفة هي الأقدم في تركيا، وممثلة الخط الكمالي العلماني، وقريبة في توجهاتها من حزب المعارضة الرئيسي (الشعب الجمهوري) الذي يتمتع بدعم شعبي ثابت يدور حول رقم 25٪ من الناخبين في الانتخابات، فضلاً عن سوريالية اتهامها بتلقي أموال من جماعة فتح الله غولن الإسلامية المتهمة بالقيام بالانقلاب العسكري الفاشل في 15 تموز/يوليو الماضي، أو بالدفاع عن حزب العمال الكردستاني المتهم بالإرهاب، وهي الجريدة التي تجمع، إلى علمانيتها المتصلبة، نزعة قومية متشددة تجاه المطالب القومية للكرد، ناهيكم عن الدفاع عن الحزب الكردي المسلح.
وإذا كان صحيحاً أن الحزب الكردي الذي تم اعتقال قادته ونواب له في البرلمان يشكل الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني، فيبقى أنه دخل اللعبة السياسية وتمكن من عبور البوابة الضيقة للبرلمان التركي بأصوات 6 ملايين ناخب، ليسوا جميعاً من الكرد. وإذا كان لا بد من اعتبار كونه تلك «الواجهة السياسية» فهذا أدعى إلى إعادة النظر في الصفة الإرهابية لحزب العمال الكردستاني، بدلاً من إلصاق تهمة الإرهاب، أو مساندته، بـ»واجهته السياسية». ذلك أن الحكومة، وكانت بقيادة الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان بالذات، كانت قد فاوضت هذا الحزب «الإرهابي» حسب وصفها، قبل سنوات قليلة، بما في ذلك قيادته الميدانية في جبل قنديل، وقيادته الأسيرة في سجن إيمرالي، وعلى أعلى المستويات الاستخبارية، بقيادة رئيس جهاز الأمن القومي هاكان فيدان الذي وصفه أردوغان، ذات مرة، بأنه «كاتم أسراره وموضع ثقته»!
كان ذلك في وقت انتعشت فيه الآمال الكبيرة، ليس لدى الكرد وحدهم، بل لدى عموم المجتمع التركي، بأن الحرب الأهلية الدائرة منذ ثلاثة عقود وكلفت المجتمع أكثر من أربعين ألف قتيل، قد اقتربت من نهايتها. فإذا عم السلام الداخلي، كما كانت التوقعات المتفائلة حينذاك، وأضيف ذلك إلى الإنجازات الاقتصادية الباهرة التي تحققت في عهد حزب العدالة والتنمية، ومضت تركيا في تطبيق معايير الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وما يعنيه ذلك من توسع هامش الحريات وسيادة القانون وفصل السلطات وشفافية الإدارة العامة وقابليتها للمحاسبة، ليتتوج كل ذلك بدستور جديد مدني وعصري، ديمقراطي وتحرري، تكون تركيا قد انتقلت من حال إلى حال، فيما يشبه ثورة إصلاحية، إذا جاز التعبير، ممتدة زمنياً بدلاً من الانقطاع المفاجئ الذي تحدثه الثورات، وتكون مترافقة عادةً مع خضات اجتماعية كبيرة وعنيفة.
إذا قارنا مزاج تلك الأيام، بأحلامها الوردية وآمالها العريضة، بما يحدث اليوم في تركيا من استقطاب اجتماعي – سياسي حاد، وقمع الحكم لكل معارضيه ومخالفيه بذريعة ذيول المحاولة الانقلابية الفاشلة، وقطع الانترنت وحجب مواقع التواصل الاجتماعي وإغلاق الصحف ومحطات التلفزة والإذاعة، فضلاً عن الحرب التي لم تتوقف على المناطق الكردية في جنوب شرق البلاد، والمغامرات الخارجية، القائمة والمتخيلة، في سوريا والعراق حيث الامتداد الكردي في البلدين.. نصاب بصدمة كبيرة أمام هذا المسار المتقهقر.
لقد شكل حزب العدالة والتنمية، في زمن صعوده الباهر، فرصة تاريخية لتركيا للانتقال من دولة فقيرة وضعيفة، وشبه ديمقراطية ـ شبه دكتاتورية، إلى دولة عصرية غنية باقتصادها وثقافتها ووئامها المجتمعي، ينظر إليها كنموذج يحتذى في التوفيق الذي طالما بدا مستحيلاً بين علمانية الدولة وديمقراطية النظام السياسي، كما بين الثقافة الإسلامية والحداثة.
أما اليوم، فقد وصلت الأمور إلى درجة أن أي صوت مختلف عن الصوت الحاكم الوحيد لم يعد آمناً على سلامته الشخصية. الروائية المبدعة أصلي أردوغان موقوفة منذ شهرين. وصل عدد الصحافيين المعتقلين والموقوفين باتهامات ملفقة إلى قرابة المئة. وشملت عمليات تطهير الإدارة العامة، بذريعة استئصال جماعة فتح الله غولن الموصوفة بالإرهابية، أكثر من مئة ألف شخص، نحو خمسين ألف منهم معتقل، والبقية تم تسريحهم من العمل. إلى درجة أن فراغاً هائلاً قد حدث في جهاز الدولة، بما في ذلك الجيش وسلاح الطيران، لا نعرف كيف يمكن إعادة ملئه لتتمكن الإدارات العامة من استئناف عملها.
إن اعتقال مجموعة جريدة «الجمهورية» يعني مباشرةً استعداء ربع السكان على الأقل، إذا افترضنا أن التيار العلماني يقتصر عليهم. أما اعتقال قادة ونواب حزب الشعوب الديمقراطي فهو نذير حرب أهلية متجددة. فمن المتوقع أن يلي اعتقال قادة الحزب، إغلاق الحزب نفسه كما طالب رئيس حزب الوطن دوغو برينجك صراحةً، في عودة إلى تقليد كالح في الحياة السياسية التركية استهدف دائماً التيارين الإسلامي والكردي، بما جعل تركيا توصف بأنها مقبرة للأحزاب السياسية.
مختصر القول أن تركيا تبدو اليوم مثل قطار خرج عن سكته وهو في أقصى سرعته، لا نعرف متى يصطدم بالحائط، وما الذي سيسحقه في طريقه.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي