لندن ـ «القدس العربي»: تتعرض تركيا رجب أردوغاون لحملة دولية تقودها الولايات المتحدة تهدف لأجبار أنقرة عل التحرك لحماية وإنقاذ مدينة كوباني من الوقوع في أسر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش».
ولم تواجه أنقرة خلال العقد الماضي منذ وصول حزب «العدالة والتنمية» ضعوطا مثل التي تتعرض لها اليوم.
ويكافح الرئيس أردوغان ورئيس وزرائه ومهندس سياسته الخارجية أحمد داوود أوغلو على عدد من الجبهات، داخلية خارجية. لكن المسؤولين التركيين وضعا شروطهما للتدخل في سوريا وطرحا أسئلة مشروعة حول مدى ونهاية اللعبة في سوريا والعراق.
ورغم أن القوات التركية حشدت على الحدود مع سوريا ويمكنها مشاهدة المعارك الجارية في كوباني، ورغم مصادقة البرلمان التركي وسماحه للحكومة بالتدخل لحماية المصالح التركية إلا ان الرئيس أردوغان ليس في عجلة من أمره على ما يبدو.
ويحاول الحصول على مقابل للدخول في عملية عسكرية قد تجد دعما من حلف الناتو نيابة عن الغرب، وقد تفضي في النهاية لتقوية منافسيه الأكراد والجماعات المؤيدة لحزب العمال الكردستاني- بي كي كي- وهذه المعضلة الحقيقية التي تواجه أردوغان.
حكاية أخلاقية
ومما يزيد من تعقيد الأزمة هي الطريقة التي يتم فيها تصوير ما يجري في كوباني وتقديمها «كحكاية أخلاقية» تستدعي تدخلا عاجلا.
وكما ترى صحيفة «الغارديان» في افتتاحيتها فالرأي العام الغربي قد يرى في موقف أردوغان تعبيرا عن قسوة و «برود قلب».
ولكن تركيا مثل أي لاعب آخر في الإقليم تسعى نحو حماية مصالحها وهي لا تختلف عن دمشق، طهران، الرياض أو أبو ظبي.
ومن هنا فلا أحد له الحق في لوم تركيا على موقفها خاصة عندما تطالب الغرب بإيضاحات وأجوبة حول اللعبة الغربية في العراق وسوريا.
وتعتقد «الغارديان» أن موقف أردوغان من كوباني ينبع من شكه بالسياسة الغربية تجاه النظام السوري في دمشق، ونابعة أيضا من طبيعة المسألة الكردية وتعقيداتها.تقول الصحيفة إن إدارة الرئيس باراك أوباما تحاول استخدام الحجة الأخلاقية لدفع تركيا الدخول في مغامرة سورية.
ولهذا أوفدت إلى أنقرة المبعوث الأمريكي لسوريا الجنرال المتقاعد جون آلن حتى يمتحن تصميم تركيا وموقفها من تنظيم الدولة الإسلامية التي تعتبر تهديدا للأمن الدولي. لكن تركيا لديها تحفظاتها على السياسة الأمريكية في سوريا خاصة فيما يتعلق بتسليح المعارضة السورية بالسلاح الثقيل، وخيبة الأتراك من تردد أوباما العام الماضي وتراجعه عن ضرب النظام السوري بعد الهجمات الكيميائية على الغوطة قرب دمشق.
وترى الصحيفة أن سوريا تمثل في استراتيجية «العثمانيون الجدد» حجر الزاوية في سياسة «صفر مشاكل» مع الجيران، حيث دعم حزب «العدالة والتنمية» المقاومة السورية ضد نظام الأسد منذ خريف عام 2011. لكل هذا «فتركيا التي تشك في النوايا الغربية ليست مستعجلة للإستجابة للمطالب الأمريكية وإرسال قواتها إلى داخل سوريا ولو لعملية واحدة في كوباني، وفي ظل غياب التأكيدات عن الهدف الكلي للعملية وبدون تفويض من الأمم المتحدة».
وتعتقد الصحيفة سياسة ضبط النفس نابعة من «التعقيد الإثني» والمعادلة السياسية الداخلية الصعبة، فأردوغان يواجه ورطة، فإن ساعد كوباني فسيعزز جماعات «بي كي كي»، وإن لم يساعدها فسيثير حنق أكراد تركيا، كما أن تداعيات التدخل قد تثير غضب داعش وتؤدي به لشن حملات ضد تركيا في الداخل، حيث يعتقد الخبراء أن لديه «خلايا نائمة» وعملية تبادل الدبلوماسيين الرهائن لم تكن بدون ثمن.
يضر بالأكراد
قد تكون المبررات التي تقدمها «الغارديان» مقنعة ولكنها ليست بالضرورة جذابة لصحيفة «نيويورك تايمز» التي خصصت افتتاحيتها للموضوع وقالت إن «استمرار الرفض التركي لمواجهة داعش يضر بالأكراد».
وقالت الصحيفة ساخرة «حلم الرئيس التركي طيب رجب أردوغان بقيادة العالم الإسلامي، ولكن في الأزمة الإقليمية الحالية فهو أي شيء ولكن ليس قائدا» وتشير للدبابات التركية المرابطة بهدوء على الحدود وعلى بعد ميل منها يحاصر متشددون إسلاميون بلدة كوباني وسكانها الأكراد.
وترى الصحيفة أن ما يجري في المدينة «اتهام واضح للرئيس أردوغان وحساباته السياسية المعيبة، فبوقوفه على الهامش ورفضه الدعم بأي طريقة مثل سماحه للمقاتلين الأكراد العبور من تركيا، فهو لا يقوم بإضعاف الأكراد فقط ولكنه يحاول امتحان إرادة الرئيس أوباما وإجباره على المساعدة في الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، الرجل الذي يمقته أردوغان».
وترى الصحيفة أن موقف أردوغان دليل واضح عن التشوش والتوتر الداخلي الذي يؤثر على عمل أوباما واستراتيجيته لإضعاف وهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية.
وهو ما دفع الولايات المتحدة لتكثيف غاراتها الجوية لصد هجوم «داعش» على كوباني، رغم ان المعارك لا تزال مستمرة. وتؤكد الصحيفة أن كل الأطراف- الأمريكيين والأتراك والأكراد- متفقون على أهمية القوات البرية حتى تستثمر الغارات الجوية، إلا أن أردوغان يرفض هذا حتى تقدم الولايات المتحدة دعما لقوات المعارضة السورية.
وتوافق على منطقة حظر جوي ومنطقة عازلة لحماية عشرات الألوف من اللاجئين السوريين. وتعتقد الصحيفة أن موقف أوباما الرافض المشاركة في الحرب الأهلية السورية صحيح، رغم وحشية النظام السوري، وتوافق على توصيف الإدارة حول الأولوية، أي «داعش» وليس نظام الرئيس الأسد.
فقرار الرئيس أوباما ضرب سوريا من الجو يحمل مخاطر من الإنزلاق في حرب ظل يقاوم التدخل فيها. لكل هذا تهاجم «نيويورك تايمز» أردوغان وترى أن تصرفاته لا تعبر عن عضو في الناتو. فرغبة الرئيس التركي للإطاحة بنظام الأسد جعلته، كما تقول يعزز من قوة «داعش» وغيره من الفصائل المسلحة من خلال السماح بدخول المقاتلين الأجانب والأسلحة وعوائد النفط عبر تركيا إلى سوريا.
وتحذر أنه «في حالة رفض أردوغان الدفاع عن كوباني والإنضمام للتحالف ضد «داعش» فإنه سيساعد على ولادة تنظيم إرهابي متوحش مما سيعمل على زعزعة الإستقرار وانتشار السموم على طول الحدود».
وتقول الصحيفة إن أردوغان برفضه دعم الأكراد السوريين عقد من وضعه في داخل تركيا. مشيرة للتظاهرات التي اندلعت في المدن التركية. وفي حالة سقطت كوباني فسيزداد غضب الأكراد.
وتقول الصحيفة إن الأمريكيين يحاولون جاهدين حل الخلافات مع أردوغان، لكن الفجوات العميقة بين الطرفين تهدد سلامة تحالف أوباما المكون من 50 دولة أو يزيد.
وتتساءل الصحيفة عن السبب الذي منع الإدارة حل الخلافات هذه قبل بدء الغارات على سوريا.
ليست مهمة
ويأتي الهجوم على أردوغان في وقت حاولت فيه الحكومة الأمريكية التقليل من أهمية البلدة الإستراتيجية. وفرق المسؤولون بين أهداف العملية في العراق وسوريا حيث تتم الغارات بالتنسيق مع قوات البيشمركة الكردية وهو أمر ليس متوفرا الآن في سوريا مما يعني محدودية ما يمكن تحقيقه من خلال الغارات الجوية.
وفي رده على التطورات بعد اجتماعه مع قادته العسكريين ومستشاريه للأمن القومي أكد أوباما على صعوبة المهمة وأنها لن تحل في ليلة وضحاها.
وترى «نيويورك تايمز» ان اللهجة الخافتة من الإدارة جاءت لتخفيض التوقعات من الحملة ولمواصلة الضغط على تركيا التي وافقت على المشاركة ضد «داعش».
ويقول مسؤولون أمريكيون أن الأتراك يرغبون في إرسال قوات برية إلى داخل سوريا والقيام بقصف مدفعي، والمساعدة في تدريب المعارضة السورية والتشارك في المعلومات الإستخباراتية، وحتى الآن لم يطلب البيت الأبيض من تركيا رسميا إرسال قوات للدفاع عن كوباني، لأن الأكراد السوريين لا يريدون تعزيزات عسكرية تركية، كما أن دور تركيا في سوريا معقد نظرا لموقف أردوغان من النظام السوري.
وترى الصحيفة أن المحادثات الحساسة مع أنقرة تركزت حول المنطقة العازلة التي طالبت بها تركيا من قبل ورفضتها وزارة الدفاع الأمريكية نظرا لكلفتها المالية وصعوبة تنفيذها. ورغم هذا نقلت الصحيفة عن مسؤول أمريكي بارز قوله إن الإدارة تضغط على تركيا لإرسال قواتها عبر الحدود والقيام بغارات جوية «لا نستطيع إرسال قوات برية» فهذه «مهمة الدول الإقليمية» حسب المسؤول.
ويعتقد خبراء أن قلة النتائج للغارات الجوية، 280 غارة على العراق و121 على سوريا قد تدفع أوباما لإعادة النظر في استراتيجيته.
وفي حالة سقطت كوباني فهذا يعني فشلا في استراتيجية أوباما حسب جيفري وايت من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.
وقال لصحيفة «لوس أنجليس تايمز»، «سينظر إليها كهزيمة للولايات المتحدة رغم أن الغارات الأمريكية على سوريا كانت محدودة» مضيفا «سينظر إليها على غياب الإرادة الأمريكية لإنهاء المهمة في سوريا». وفي غياب التنسيق مع الأكراد على الأرض في كوباني لا ثقة لدى الأمريكيين بقدرة هؤلاء على الصمود لوقت أطول.
تداعيات
ويقول مسؤول عسكري ان الغارات الجوية يقصد منها تخفيف الضغط على كوباني. وأيا كانت النتائج فنتيجة المعركة في البلدة الكردية ستترك آثارها على العلاقات التركية- الكردية. فتحقيق السلام مع الأقلية الكردية، وحكومة إقليم كردستان كانت من أولويات سياسة أردوغان.
وتنقل الصحيفة عن هنري باركي، المتخصص في الشؤون الكردية في جامعة ليج في بنسلفانيا قوله إن كوباني «أصبحت مثل حلبجة» و»ستترك أثرا بالغا على نفسية الأكراد».
ويقول الخبراء إن المسألة لا تتعلق بمحاولة بي كي كي الذي تعتبره تركيا مثل «داعش» القيام بعمليات ضد الدولة التركية ولكن له علاقة بالتوجهات الأخرى في المجتمع التركي والمنطقة بشكل عام. فالعملية السلمية بين الحكومة والبي كي كي على الهامش، وكشفت المعركة التي يشنها «داعش» عن حالة من الحنق داخل المجتمع الكردي خاصة الشباب ممن لم يكونوا راضين عن العملية السلمية.
ومع ذلك فالاحتجاجات لا تعني الإحتجاجات نهاية للتعايش بين الغالبية والأقلية الكردية حسب باركي. ومهما يكن فالأزمة التي تواجهها الحكومة التركية فيما يتعلق بكوباني أو الموقف من الأكراد نابعة من ترددها بمواجهة «داعش» نيابة عن الغرب بدون ضمانات.
لا تريد القيام بالمهمة
وفي هذا السياق كتب المؤرخ والباحث في جامعة أكسفورد مارك ألموند في صحيفة «دايلي تلغراف» إن الجيش التركي لن يسحق «داعش» إن كان تدخله سيصب في مصلحة أكراد سوريا.
وفي مقاله تحت عنوان «الأتراك لن يقوموا بالعمل القذر نيابة عن الغرب»، جاء فيه أن الغرب يرى في التدخل حلا مناسبا طالما لم يرسل هو قوات برية إلى سوريا. ففكرة إرسال قوات برية «بساطير على الارض» تعتبر بالنسبة للرئيس الأمريكي باراك أوباما أو رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أمرا محرما لا يمكن ذكره.
ولهذا السبب تتجه كل العيون نحو تركيا لتنفذ المهمة. ويرى الغرب أن دخول أنقرة في الحرب مصلحة قومية نظرا للحدود المشتركة مع كل من سوريا والعراق.
ويرى الكاتب أن تركيا قادرة على سحق قوات «داعش» بسرعة، لكن قواتها تراقب المعارك في كوباني مثلما فعل الجيش السوفييتي الأحمر عام 1944 أمام وارسو.
ويقول ألموند إن الغرب يعتبر «داعش» المشكلة والأكراد جزء من الحل. فيما تتعامل أنقرة مع طموحات الأكراد لإقامة كيان مستقل لهم تهديدا لها. وفي الوقت نفسه ترفض المعارضة السورية اقتطاع جزء من سوريا. ورغم عضوية تركيا في حلف الناتو إلا ان المصالح التركية ومنذ عام 2002 تفترق عن تلك التي يدافع عنها الغرب، مشيرا للتطورات التي مرت على تركيا منذ وصول حزب «العدالة والتنمية» قبل عقد من الزمان، ووصول أردوغان للحكم حيث أصبح الزعيم الأكثر شعبية منذ وفاة مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك عام 1939.
ويلاحظ المؤرخ التناقض بين فكرة أتاتورك الذي كان يرفع شعار «إنس الماضي» و «المستقبل هو أوروبا» ويدعو لقطع صلة تركيا العلمانية و تاريخها العثماني وجوارها العربي والإسلامي وبين رؤية «العثمانيون الجدد»، فأردوغان وحزبه يفضلون الرابطة الإسلامية والحركات الإسلامية في مصر وفلسطين وسوريا ودعموا الإطاحة بنظام الأسد منذ عام 2011.
ويضيف الكاتب بعدا للموقف التركي النابع من الإنقسام الطائفي، مؤكدا على الفروق التي تجعل علوية تركيا غير العلويين في سوريا، لكن في ظل الوضع الحالي فالعلويين في تركيا يرون أن التدخل ضد «داعش» شيء والزحف نحو دمشق شيء آخر.
وفي النهاية يفسر الكاتب سبب بطء الرئيس التركي في الرد على أزمة كوباني بأنه محاولة للمقايضة مع الغرب، ومنع نشوء كيان كردي أو التوصل لصفقة حول ملف عضوية تركيا في الإتحاد الاوروبي.
وبالتأكيد فلن يتحرك أردوغان طالما لم يؤد تدخله إلى الإطاحة بنظام الأسد. وعلى العموم فسيؤدي تدخل تركيا في سوريا لحل مشكلة الغرب ويجنبه خسائر بشرية لكننا سنفيق في اليوم التالي على صداع جديد في الشرق الأوسط.
إبراهيم درويش