«إسطنبول مربط خيلنا» – جملة يرددها العرب في هذه المدينة الكبيرة، التي جمعت في طيها ملايين العرب من كل حدب وصوب، وتكاد تكون اللغة العربية هي الأكثر تداولا في الشارع بعد التركية. وبالكاد تجد محلا تجاريا أو مطعما أو مقهى إلا ووجدت أحد عماله من العرب، خاصة السوريين.
أما الأسواق فلا تكاد تعثر إلا على العرب، خاصة من دول الخليج، الذين تحولوا من عواصم الغرب العنصرية إلى بلد يشعرون فيه بأنهم ليسوا غرباء، ولا يعاملون فيه إلا بالمحبة والترحاب. لقد تعودت منذ عام 2011 أن أحط الرحال في هذه المدينة العظيمة بعد نهاية زيارتي السنوية لمسقط رأسي في فلسطين المحتلة. وفي زيارتي القصيرة أحاول أن أسمع من أصدقاء عديدين، جمعتني بهم روابط الصداقة والصحافة والأكاديمية، لأخرج من هذه اللقاءات برؤية موضوعية أو شبه موضوعية عن الأوضاع في بلد كبير ومهم ومؤثر في السياسات المحلية والدولية. فأكثر كتاب الشأن التركي، إما مداحون أو رداحون، وهذه بعض الملاحظات التي خرجت بها من هذه الزيارة:
انخفاض خطير في سعر صرف الليرة
أول ما يلاحظ الزائر منذ دخول مطار أتاتورك، هو انخفاض سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار. ففي اليوم الأول لوصولي كان سعر الصرف 4.90 ليرة للدولار الواحد، ومع نهاية الأسبوع وصل إلى 5.10 ليرة والتراجع مستمر. وأذكر أن أول زيارة لإسطنبول عام 2011 كان سعر صرف الدولار 1.60 ليرة للدولار. لقد تراجع سعر صرف الليرة منذ فبراير/شباط الماضي بنسبة 13% وهذا مؤشر يثير كثيرا من المخاوف لدى الشارع التركي. كل من تسأله عن سبب هذا الانحدار الخطير يعطيك تفسيرا مختلفا، ولا يكاد يتفق اثنان على تفسير واحد. البعض يضع اللوم كليا على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتدخله في السياسة المالية وعدم إطلاق يدي البنك المركزي ليقرر سعر الصرف رسميا. والبعض أثار مسألة العقوبات الأمريكية على وزيري العدل والداخلية التركيين، حول مسألة اعتقال الراهب الأمريكي، أندرو برونسون، المتهم بالتجسس، ورد تركيا على الصفعة بمثلها بفرض عقوبات على وزيري العدل والداخلية الأمريكيين حتى»لا يظنن أحد أن تركيا يمكن أن تخضع للغة التهديد والعقوبات – ومن ظن ذلك فهو لا يعرف الأمة التركية» كما قال الرئيس أردوغان. ومع أن هذه العقوبات شكلية وليست ذات مضامين، إلا أنها تركت أثرها على السوق المالي. أما التهديد الأمريكي بفرض عقوبات بعشرات المليارات على بنك «خلق» الحكومي، لانتهاكه العقوبات المفروضة على إيران فقد يثير مزيدا من القلق لدى المستثمرين الكبار، وهو ما اضطر وزير الخزانة والمالية برات البيراق، وهو بالمناسبة صهر أردوغان، لعقد لقاءات مع مجموعة من كبار المستثمرين العاملين في تركيا في لندن في يونيو/حزيران الماضي بهدف تهدئة مخاوفهم بشأن السياسة النقدية للحكومة الجديدة. هناك عمليات سحب استثمارات أجنبية بمبالغ هائلة، كما أن هناك عجزا في الميزان التجاري لصالح الاستيراد، وليس التصدير بسبب حجم استيراد النفط من الخارج، فتركيا تستورد نحو 90% من احتياجاتها من الطاقة، التي شهدت أسعارها ارتفاعا كبيرا في الأشهر الماضية.
السياحة: عودة الروس والألمان
ما رأيك في أردوغان؟ هذا السؤال طرحته على كثير من الأتراك العاديين في مناطق بعيدة مثل كابادوكيا. قال أحد باعة محلات الهدايا والصناعات اليدوية إنه يؤيد أردوغان، لأن هذه المنطقة كانت قاحلة فقيرة لا موارد فيها إلا زراعة العنب. فلما جاء أردوعان قرر إعفاء تاما من الضرائب، لكل من يعمل في القطاع السياحي. وقامت الحكومة بترميم البيوت الصخرية والكنائس والمعابد المحفورة في الجبال وحولتها إلى فنادق ودور استراحة. انتعشت السياحة بشكل غير طبيعي، وأصبح نحو 60 % من سكان مدن المحافظة الخمس يعيشون على السياحة و20% على الزراعة و20% على موارد أخرى. لقد بنيت الطرق الحديثة والمطارات في كل المدن النائية وأصبح سكان البلاد يقطفون ثمار التنمية الشاملة التي طالت كل أنحاء البلاد.
وعلى ذكر السياحة، فقد أكد لي أكثر من خبير في الشأن التركي أن السياحة الخارجية عادت وانتعشت، وعاد الروس والألمان إلى مكانهم المفضل لقضاء إجازاتهم. فقد ساعد في ذلك استقرار البلاد أمنيا، بعد آخر عملية إرهابية في إسطنبول في ديسمبر/كانون الأول 2016، وثانيا بسبب المصالحة الروسية التركية وعودة طائرات أيروفلوت إلى المدن التركية. لكن الروس والألمان يفضلون المناطق البعيدة عن إسطنبول وصخبها مثل، أنطاليا وبودروم ودرابزون وأضنة وإزمير.
تجنيس السوريين
هذه المرة الأولى التي أسمع فيها مصطلح تجنيس السوريين بشكل متواصل. الأرقام تدور حول ثلاثين ألفا، وربما يصل الرقم إلى أربعين ألفا. لكن الحقيقة التي يتفق عليها كل من تحدثت معهم، أن اختيار الشخص للتجنيس يتم بعناية فائقة، حيث تكون المؤهلات والتحصيل العلمي والمهارات هي المؤشرات لتجنيس الفرد وعائلته. وتتم العملية بسرعة فائقة، قد لا تزيد عن ستة أشهر. يبدو أن الدولة تريد أن تستوعب هذه الكوادر المؤهلة في عجلة التنمية الشاملة التي تعيشها البلاد، والتي ستصل ذروتها في الذكرى المئوية لقيام الجمهورية عام 2023. لكن تجنيس عدة آلاف من السوريين لا يعني حل أزمة الوجود السوري في البلاد، الذي يصل في أقل التقديرات إلى أربعة ملايين ونصف المليون، تتحمل الدولة العبء الأكبر في تقديم الخدمات الأساسية لهم، من تعليم ورعاية صحية وعيش كريم، بدون أن تأخذ فلسا واحدا من المساعدات الإنسانية وتبرعات الدول المانحة. تركيا تعلمت الدرس ودفعت الثمن غاليا بعد أن ورطها الأمريكان في الملف السوري، معتقدين أن سقوط النظام مسألة شهر أو شهرين، ليتبين لهم خطأ موقفهم. لقد سمحوا لمرور آلاف الإرهابيين إلى الداخل السوري، ثم ارتد بعضهم على الشعب التركي بالمتفجرات في أكثر من مكان.
القوات الأمريكية قامت بدعم الأكراد المعادين لتركيا من جهة، ودبروا حادثة الانقلاب التي وفر فتح الله غولن لها الغطاء المناسب. تركيا الآن تكاد تنتهي من بناء السياج على طول الحدود السورية، الذي يمتد لـ900 كيلومتر كي تضمن عدم تسلل الإرهابيين من وإلى تركيا. أما قضية إدلب فما زالت معلقة وتركيا غارقة في موضوع إدلب وعفرين لأذنيها. فلديها الدوريات العديدة من الحدود إلى منطقة إدلب التي تضم ثلاثة ملايين إنسان، من بينهم من تبقى من المسلحين وعائلاتهم، ممن هجر من الغوطة وحلب والرقة ودير الزور وغيرها. تركيا تريد لإدلب وريفها أن تكون منطقة آمنة يستطيع السوريون الذين يفضلون العودة إلى وطنهم أن يستقروا فيها، ولو مؤقتا، بانتظار حل الأزمة الشامل. قد تكون إدلب بوابة لحل الأزمة السورية، إذ أن تركيا تنسق كافة المواقف مع روسيا. ويستبعد المحللون هنا أن يتكرر سيناريو الغوطة أو درعا في إدلب، لأن ذلك سيعني مواجهة مباشرة بين روسيا والنظام من جهة، وتركيا من جهة أخرى. غير أن تصريحات بعض المسؤولين الروس بأنهم لن يسمحوا للوجود التركي في منطقة إدلب بعرقلة بسط الجيش السوري سيطرته على كافة الأراضي السورية، تثير كثيرا من المخاوف. فإن حدث هذا فستكون مواجهة خطيرة بين حليفي اليوم في المشهد السوري: تركيا وروسيا.
المطار الثالث والاحتفال بالمئوية الأولى
يتحدث الناس هنا عن المشروع الأضخم في عهد أردوغان وهو المطار الثالث، الاسم المؤقت المستخدم حاليا، بعد مطاري أتاتورك وصبيحة. إنه المطار الأضخم في العالم، حيث يتم وضع اللمسات النهائية عليه قبل افتتاحه المقرر في نوفمبر/ تشرين الثاني، الذي يجمع بين الأصالة التركية المستندة إلى هويتها الإسلامية والتكنولوجيا الحديثة ووسائل الراحة وسهولة المعاملات. ويستوعب المطار في البداية 90 مليون مسافر وصولا إلى 200 مليون مع اكتمال كافة أقسامه. كما يعمل المطار على تشغيل 350 رحلة يوميا هبوطا أو إقلاعا على ستة مدرجات مستقلة.
أعتقد أن أردوغان يتمنى أن يطلق اسمه على المطار في المستقبل، خاصة بعد احتفالات المئوية عام 2023، وبعد اعتزاله السياسة كي تتذكره الأجيال القادمة كمؤسس الجمهورية التركية الثانية، المستقرة سياسيا واقتصاديا كعاشر أقوى اقتصاد في العالم، كما وعد أردوغان عشية الانتخابات الرئاسية. لكن هل سيترك الغرب المتآمر تركيا في حالها لتصبح الدولة الإسلامية العظمى التي تنافس دول أوروبا الغربية عن جدارة؟
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي
د. عبد الحميد صيام