تركيا: ومستقبل خرائط المنطقة

حجم الخط
3

مع بروز «تنظيم الدولة»، بدأت عملياً سايكس بيكو في نقطتها المركزية في الشرق الأوسط بالتآكل، وهي مقبلة على مزيد منه خلال السنة الحالية والقادمة، نضيف إلى ذلك ان اشكال استقرار الدولة العربية النسبي هو معني بالتراجع، باعتبار الانظمة تفعل آخر اوراقها لأجل بقائها، ما يجعلها امام نمط يزداد تعقيداً باستمرار، فهي مستعدة لتقديم كل شيء، بما في ذلك ان يكون الحليف الطبيعي اسرائيل ذاتها، او أنها بالفعل مهددة بالزوال، ما يعني زيادة مساحة الاعداء الداخلية تباعاً.
في الجانب الاخر قد تبدو أمريكا ومعها القوى الغربية بموقف العاجز عن الحفاظ على خرائط المنطقة التقليدية، أمام المتبدلات التي ليست بالضرورة «تنظيم الدولة»، فهناك قوى صاعدة، موجودة على الأرض، هي بالفعل تستعد للدخول إلى بحر الصراع، ما يعني أن وظيفة الأمريكان خلال عامين قادمين ستصبح محصورة فقط، في محاولة الحفاظ على خرائط المنطقة الحالية، وما يمكن أن نسمعه في الاعلام أن الأمريكان يسعون لخرائط جديدة، فهذا بالطبع هو منطق استراتيجي قديم، كان موجوداً بشكله السياسي وليس بالجغرافيا السياسية، فالنمط الأمريكي كان يتمثل في تثبيت دولة الاقليات في عموم المنطقة العربية، وهي عملياً أقلية ذات شكل سياسي محدد، فهي لا تعني بالضرورة الأقلية العرقية او الطائفية بمنطق العمل، وإنما هي اقلية حاكمة، كان وجودها أفضل حاضنة لبقاء اسرائيل، دولة الاقلية الفعلية الموجودة، والتي لأجل بقائها كان يفترض ان تبقى محاطة بدول تحكمها الاقليات السياسية في المنطقة.
الجميع يتحدث عن تشكل اقليمي قادم، وهذا مهم جداً، لكن الغالبية تفترض أن التشكل يتم بأيد أمريكية أو غربية، وأن الأمريكان معنيون بتقسيم المنطقة من جديد، وهذا وارد، ولكن من ضرورات التقسيم الجديد، هو أن تكون للأمريكان قوى فاعلة على الارض غير الانظمة، وهذا غير متاح حالياً باستثناء بعض الصحوات في سوريا والعراق، وهي صحوات ذات وجود مؤقت، لأن الأمريكان أيضا، يخافون حتى من هذه الصحوات، باعتبار ان التعامل مع الاحزاب والمنظمات على الارض، لا يمكن أن يكون حالة استراتيجية رهانها طويل، فالتجارب في المدرسة الافغانية تقول إن المدرسة الاستخبارية تعمل مع مجموعة من الاُجراء، ولكن هؤلاء الاُجراء قد يموتون أو يدخلون بلعبة التصفيات وتنتهي الحالة السياسية التي شكلوها إلى الضد.
هنا نقول، إن الأمريكان دخلوا لعبة التحالف لمواجهة تنظيم الدولة كفعل طارئ على السياسة الأمريكية، ولم تكن خطوة مرتبة وفق رؤية استراتيجية واضحة، وهم بالفعل استفادوا الان مؤقتاً بالجانب الاقتصادي، ولكن على المدى الاستراتيجي فالأمريكان بمجرد اعلانهم قيام التحالف هم أصبحوا أمام مفارقة مهمة، مختلفة عن وجودهم في العراق وافغانستان، فالوضع الحالي اصبح يعني ان هناك بديلا اقليميا قادما لأخذ زمام المبادرة في المنطقة، وهو بديل تلقائي لمجرد بروز اول نقطة في العجز الأمريكي لإدارة المنطقة، وهذا العجز هو واضح منذ معركة عين العرب، فالأمريكان عمليا يدركون ان «تنظيم الدولة» يمارس لعبة سياسية فيها لا غير، فهو الذي اجتاح الموصل وهو الان في طريقه لاجتياح مدن مهمة غيرها، ولكنه ترك بوابة عين العرب من دون حسم، لأنه عمليا يقدم رسائل سياسية لعموم المنطقة، وهي رسائل واضحة ومفهومة.
الأمريكان يدركون ان البديل الإقليمي المرشح لانتزاع الدور في المنطقة هو تركيا، التي تجيد ادارة الحديث مع الاقليات، على عكس ايران، التي بقصد تصدير ازمتها الداخلية، تثير لعبة المشهد الديني لتأجيل مواجهة داخلية قادمة، وهذا عمليا انهى دورها السياسي في المستقبل من الان، فالحرب عمليا للأمريكان والايرانيين والعرب هي حالة مؤقتة يمارس فيها الجميع فعلاً مؤقتاً، وهي بالنسبة لتركيا بتقديري، بمثابة المتفرج على الحلبة وسينزل اليها لاحقاً بعد ان ينهك الجميع.
فكرة الاشتراك في ترميم وصناعة خرائط جديدة ضعيفة ومنهكة وفكرة نقل هذه الخرائط إلى داخل تركيا مثل اجتزاء دولة كردية وغيرها، هي كلها حاضرة على طاولة السياسة، وهذا بالمحصلة الافتراضية يعني احاطة اسرائيل بمجموعة دول صغيرة منهكة، ومع بدء خروج ايران وانكفائها الآتي في الايام القادمة، هناك فكرة انهاك تركيا وزجها في الصراع قبل هذا البديل، ما يعني بالضبط انهاء وتحطيم الدور الاقليمي في المنطقة لتبرز اسرائيل كقوة اكبر من جميع القوى الاقليمية، وهو ما يعني بالضبط حفاظ أمريكا المستقبلي على وجودها ودورها في المنطقة، فإسرائيل تتحول في لحظات إلى عبء على الأمريكان وفي لحظات إلى ضرورة بقاء ووجود لهم، وهذا هو دور دولة الاقلية، وهو المطلوب في المنطقة، والمطلوب تعميمه.
من يتخيل أن تركيا لن تحتاج إلى «مرج دابق» الثانية فهو لا يستشعر الخطر الذي تعيشه، ومن يتخيل أن الأمريكان لن يضطروا للنزول إلى الارض بعد عدة اعوام للدفاع عن وجودهم لأن الدويلات الصغيرة لا تعرف كيف تدير وجودها السياسي، فهو واهم ايضا، فهذه الجغرافيا التي اسمها الشرق الاوسط، هي الجغرافيا الوحيدة في العالم التي لا تستطيع ان تقول انك رسمت فيها خطاً ثابتاً غير قابل للتغيير.
مطلوب من الجميع أن يدرك، ان كل ما حدث وما يحدث حتى الان هو مجرد تفاصيل صغيرة، وأن القادم هو كبير بالفعل.

٭ كاتب فلسطيني

أيمن خالد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    تحليلك يا أستاذ ايمن واقعي جدا
    نسأل الله اللطف بنا

    الظاهر فعلا أنه تحضير لاضعاف تركيا بالمنطقة لصالح اسرائيل

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول غادة الشاويش:

    مقالة مميزة اخ خالد لكنني لم استطع تبني كل ما فيها كل سطر فيها يحتاج الى تريث وانتظار قبل تبنيه لكنها مقالة مميزة جدا وعنوانها وحده تستحق عليه الاشادة من قبلنا كقراء ان الهعنوان موضوعه صعب للكتابة حوله وما كتبته جديد جدا ولكن الايام حوامل وستكشف ما تخبئ تحت نقابها

    1. يقول ايمن خالد- تركيا:

      شكرا للجميع مع الاحترام والتقدير

إشترك في قائمتنا البريدية