يمدُّ النصُّ الشِّعْري مجْراهُ داخل نصوص تُشكّل مصدرا أساسيا لتَشكّل هويته الإبداعية؛ وذاكرة يستلهمها بوعي أو بدون وعي. ومن هنا يمكننا الحديث عن الحوار الذي يجري بين النص السابق مع اللاحق، وهو حوار يتغيى تحقيق التفاعل والتواشج بين النص الأب والنص الإبن – إن صح القول-فالثاني لا يحقق كينونته إلا انطلاقا من الأول، وفي هذا تقويض للطروحات النقدية التي ترمي إلى قتل الأب ثقافيا وإبداعيا.
ولا غرو في ذلك مادامت الثقافة البشرية مبنية على أساس الحوار الظاهري والباطني بين النتاجات الإبداعية، ومنطق الأشياء يؤكد هذه الحقيقة، فكل حضارة إنسانية لا تحقق وجودها إلا بموجود حضاري سابق عنها. فمثلا الشعر العربي المعاصر وجوده يستمدّه من ذاكرة نصوص ضاربة في العمق الإبداعي العربي، سواء كان شعرا عربيا قديما أو شعرا غربيا، هذا التثاقف بين الثقافات هو الذي يطعّم التجارب الإبداعية بشحنات خَلقية تحفّز على التجديد والإضافة. وطاقة مغناطيسية تجذب النص الجديد لمعانقة النص القديم بأخوة لا تتنكر لفصيلة الأبوة المشتركة. إذا أراد النص الشعري تحقيق ديمومة الاستمرارية ما عليه إلا أن يكتم جوهره وأسراره، ففي الكتمان يكمن ظاهره، وفي الجهر يفسد حلاوة الخلْق.ويشرع أفق القراءة والتأويل بشكل يمنح للنص الديمومة والخلود.
وعليه لابد من التأكيد على أن «النص كيان طافح بالجدل، زاخر بالحركة، مليء بالاندفاعات التي لا تحد، من صميمه يستل ما به يبتني معانيه، إنه لا يلتقط معنى ويُجَوِّدُهُ، بل يبْتَنِيه في الكلام وبالكلام، فينهض المعنى متزامنا مع نهوض الكلمات وتعالقها، وإذا الشعر يكون». من هذا المقول يستمد النص الحياة، لكونه يظل غير قابل للإمساك به، نظرا لعدم ركونه إلى الثبات، وإنما يجنح إلى اللااستقرار وهنا مكمن حيويته ورغبته في تجاوز ذاته والانغماس في السّوى النصي -إذا صح التعبير-ليس عبر عملية الاحتذاء والاقتداء ولكن من أجل فتح قنوات تجاذبية وتحاورية، حتى نلمس أثر السابق على اللاحق. وهذا لا يعني أن اللاحق عبد للسابق، بقدر ما نزعم أنه تفاعل معه، أي أن النص الشعري جمّاع كينونات نصية مختلفة، وهذا ما يبْصُمه بالغنى الدلالي المفتوح على تآويل متعدّدة.
فالنص الذي لا يمنح كليّته نص متخلّق من إبداعية خلّاقة ونفّاذة، الأولى تدل على الإتيان بشيء مخالف ومتجاوز لما هو كائن، والثانية تنفذ إلى مسام المتلقي، بعد عناء ومشقّة وتعب في الغوص والإقامة الطويلة بين تخومه القصيّة والعميقة، على اعتبار أن الجوهر النصي مجلاه الإمعان في التملّص، واستحالة القبض على مفاصله بِيُسْرٍ وسهولة، فطبيعته تخترق السائد بذاكرة تاريخية، غير أنها ذاكرة غير ارتدادية بقدر ما هي اندفاعية صوب المجهول واللانهائي المنبثق من سديم الرؤى.
وأيضا راجع إلى كونه كثير التّرحال بين جغرافيات متحولة متخلصا من استبدادية الكائن، لتأسيس ممكن نصي حافل بالانتهاك والتحرر من قيود الاستكانة والانقياد وراء صنمية قاتلة لروح الكتمان، ومن ثم تغيّب الإمتاع، مما يحوّل النص إلى مومياء بلا روح ولا حياة. فالنص المجاهد ذاك الذي يبقى بعيدا عن المعنى السطحي والمقيم في سراديب معتمة تحتاج إلى قناديل قراءاتية، تستطيع إضاءتها عبر الحفر والمغامرة بآليات مغايرة. هذا الحفر/القراءة لا يمكن التحقق منه إلا من خلال فتح كوّات تسلط أشعة العين البصيرة، المغامرة والمندغمة، المتبصرة والواعية حتى تتمكن من معاشرة النص والتَّفقّه للمخفي والمخبوء في مطارفه من معان ودلالات، ذلك أن النص الشعري يظل في الحاجة إلى المداومة القراءاتية غير الراسية على ساحل القراءة الأولى، بل لابد من مراودته كلما حاول التملص والابتعاد بعيدا نحو المبهم والغامض، وتلك خصيصة النصوص المبدِعة والمنفلتة، لكون الشعر يتخلق من رحم اللغة الممزوجة بماء الخيال، ومن تم فالكتمان الذي يميّزه دليل على استمرارية التحول والتغيّر في مجاريه النهرية المتدفقة، فهو شبيه بنهر هيراقليطس الذي تستحيل السباحة فيه مرتين، وهذا إن عبّر عن شيء فإنما يدل على قدرة المخاتلة التي تسِمهُ، والتي يمارسها على القارئ غير المدرك السباحة.
بعبارة أوضح إذا لم يمتلك المتلقي القدرة على الصبر في المراودة وكذلك الأدوات النقدية الأصيلة يظل بعيدا عن النص وما يمتلئ به من جماليات مغرية ومحفّزة للمطاردة، ولا سبيل في هذا إلا بالمثابرة في اقتناص جواهره، بوساطة الإبحار في اللُّجَج الشكلية والتركيبية والدلالية، المتماوجة بين مد القراءة الفاعلة وجزر القراءة المتخاذلة، الشيء الذي يؤدي إلى ضياع الدرر وخروج المتلقي خاوي الوفاض. لكن كل قراءة هي إضاءة تؤدي إلى إضاءات أخرى، ما يؤكّد على زئبقية النص الشعري ولا ثباتيته.
إن التعامل مع النص هو تعامل مع اللغة في أقصى استعمالاتها؛ ومن ثم ضرورة محاورة هذه اللغة عن طريق امتلاك تصور نظري شمولي لاستخلاص جمالياته المتوارية في سجوف النص، لكونه ينبني على العلاقات اللغوية المنسوجة داخله، وفق رؤية للكتابة واضحة وذات عمق في التجربة، والنص لا يحقق شعريته من خلال العلاقات النحوية، بل بوساطة العلاقات التركيبية أو ما سماه عبد القاهر الجرجاني بالنظم، الذي يدل على عملية الضم في بناء النص، لأنه يبقى في حكم الغياب، إذا لم يفلح في جعل القارئ يلج المناطق المعتمة لفك شيفراتها وإزالة الغامض فيها، عبر القراءة المتفاعلة والسابرة للأغوار العميقة.
والنص الشعري جمّاع بعدين أساسيين الأول يتمثل في البعد الذاتي المرتبط بالجانب الحسي العاطفي الوجداني، والثاني يتعلق بالبعد الموضوعي الذي مجلاه الواقع وتجربة المبدع في الحياة، فالشاعر «فرد في مجتمع، بل هو بنية صغيرة من البنية الكلية للمجتمع، يعيش آلامه وآماله وتترسب في وعيه مكونات هذا الواقع المعيش، ثم يستعيدها في مواقف حياتية معينة، فتشمل الصورة التجارب المكتسبة من الواقع والحالات الشعورية التي توافقت مع هذه التجارب. ذلك أن النص الشعري يتخلّق من تربة الواقع الذي يعيش فيه الشاعر، لكن الشاعر المبدِع هو الذي يستطيع تذويب المعطى الموضوعي في سبيكة تعبيرية وأسلوبية تبتلع الخارج النصي وتخلق منه موضوعا إبداعيا يخفي إبداعيته، وإلباسه لبوس التجديد والخلق، ولعل في هذا ما يدفعنا إلى تأكيد أن حقيقة الإبداع الخالد كامن في القدرة على تحويل ما هو ذاتي وموضوعي إلى ما هو كوني، يحفل بالإنسان أينما وجد، وقتئذ تتحقق المتعة الجمالية والمضمونية في النص الشعري، الذي يغدو مرتهنا باللحظة الإنسانية بعيدا عن الانزواء في زوايا ضيّقة، وقريبا من الحياة. حياة النص الممتدة في اللانهائي المتمثل في إمكانية صياغة المجهول وفق نسيج أسلوبي مدهش ومغر وصادم. فالصدمة الشعرية تلك التي تأخذ الجوهري والمنفلت في الذوات، وتأسرها بين قضبان كتابة لا ترتهن إلا لنفسها ولا تقول إلا وجودها، ولا تبتغي غير الإنسان.
إن الأمر هنا يبرز ما مدى كتمانية النص الشعري -إن صح التعبير- حتى يثير حروب التأويل والقراءات المشرعة على الفهم والإدراك والإفهام بلغة الجاحظ، وهي حروب لا ينجم عنها ضحايا بقدر ما تخلق قارئا محبا وعاشقا للولوج إلى أخاديد النص الشعري، والكشف عن الأسرار الدفينة الممتدّة في اللامحدود.
٭ شاعر من المغرب
صالح لبريني
إن النص الشعري مهما قيل في وصفه سيظل نصا يتأرجح بين إبداعيات مختلفة فهناك نص كتوم يدفع بك لاستنطاقه عبر التأويل وإعادة القراءة والتفكيك لألغازه وغموضه الممتع ، وهنكا النص المغلق الذي لا يفتح لك أي أفق من أجل المتح منه لا معنى ولا تركيبا ممتعا ، وهو نص لا يمكن أن يسمو إلى الشعر في أبعاده ، وقد يكون مثل هذا النص لعبا باللغة بمقصدية التعمية والغموض المقصود البعيد عن الإبداعية المشرقة التي تمنحك بعضا وتمنعك من بعض إلى أجل مسمى ، وهناك نصوص تظهر أمامك أسرارها مكشوفة ممتعة تفهم رقصتها وإيقاعها وجمال ما تعرضه أمامك من صور,