يتمسك السياسيون العراقيون من الكتل الممثلة للأقليات بالديمقراطية التوافقية، ضماناً لاستمرار شراكتها في الحكم، فيما يلوّح سياسيون يمثلون الغالبية باللجوء إلى الأغلبية السياسية في إدارة الحكم، كلما برزت بوادر أزمة سياسية بين الكتل المتصارعة في البرلمان.
وفي الوقت ذاته يصر ممثلو الكتل السياسية على أنّهم يمارسون عملية ديمقراطية حقيقية، مستوفية للمعايير المتعارف عليها في الديمقراطيات العريقة؛ وهؤلاء يعتقدون أنَّ إجراء الانتخابات، ونجاحها، يمثل كلّ الديمقراطية، فيما لا تُعد الانتخابات في حقيقتها إلاّ عنواناً واحداً من عناوين واسعة ومتشعبة.
كشف واقع عراق ما بعد الغزو عن طبيعة تكوين مجتمعية غير متجانسة فكريا وثقافيا وعرقيا وطائفيا، وهذا لا يفهم منه أنه من إفرازات غزو العراق ونتائجه، أكثر مما هو واقع موجود حقا، كان الصوت الطاغي هو صوت الإنكار الذي لم يعد هو الصوت الغالب، بعد أن فتح الغزو الباب واسعا أمام انبثاق معظم الصراعات المكنونة لتطفو على السطح وتشكل جزءا من انشغالات المجتمع عموما. وتؤكد طبيعة المجتمع العراقي على تعددية غير متجانسة، وصراعات اجتماعية وتاريخية عميقة الجذور، أدت إلى حالة من عدم الثقة بين مكوناته الرئيسة، ودفعت باتجاه بحث تلك المكونات عن دور سياسي لتأكيد الحفاظ على هويتها الفرعية المهددة بالإلغاء من قبل المكونات الأخرى، مع غياب هوية وطنية جامعة لكلّ العراقيين، وبات اعتماد التوافق الضامن لإشراك الأقليات في الحكم، كأحد أبرز الاستراتيجيات الكفيلة بتجنب النزاعات بينها، عبر توافق قادة الكتل السياسية الكبيرة، وهؤلاء في حقيقتهم زعماء طوائف وأعراق، يتقاسمون السلطات ويتخذون قراراتهم على أساس التوافق على حلول وسط لعدّة قضايا في آنٍ، مقترنة بتنازلات متبادلة ليست بعيدة عن مفهوم الصفقات السياسية. لذا، ليس منطقياً قيام نظام سياسي يعتمد الأغلبية السياسية في ادارة الحكم، طالما أنَّ تشكيل الكتل السياسية يتم عادةً حسب الانتماء الطائفي أو العرقي، حيث أن هذه المحاصصة تضمن للاغلبية الشيعية هنا، إدارة الحكم والهيمنة على القرار بمشاركة شكلية من مكونات اخرى.
بعد عقود طويلة من الحكم الشمولي (1958 – 2003) تمكنّت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا من اسقاط نظام صدام حسين في 9 أبريل 2003، وفي 2 مايو 2003 أعلن الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش عن انتهاء العمليات العسكرية الرئيسية، محذراً من أنَّ عملية التحول نحو الديمقراطية ستستغرق بعض الوقت. منذ تلك اللحظات التاريخية أدرك العراقيون أنَّ حاضرهم ومستقبلهم القريب والبعيد، يتوقف على الاسراع في اغتنام الفرصة الزمنية لاقتطاع المزيد من المكاسب لكل مكون من مكوناته، حتى اذا كانت على حساب مصالح المكونات الأخرى، وهو ما انعكس سلباً على بناء مؤسسات قادرة على المضي قدماً باتجاه التأسيس لديمقراطية سليمة.
مع انتهاء ولاية الحكومة المؤقتة برئاسة إياد علاوي في 30 يناير 2005، ومجيء الحكومة الانتقالية التي قاطعها العرب السُنَّة برئاسة ابراهيم الجعفري، بات إقرار شكل نظام الحكم مستقبلاً بين يدي لجنة صياغة الدستور، التي انجزت دستوراً مؤقتاً تمَّ الاستفتاء عليه في 15 اكتوبر 2005 بمشاركة جميع مكونات الشعب العراقي ليكون أول دستور دائم بعد سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين، وهو الدستور الذي أفضى إلى انتخابات تشريعية، بمشاركة العرب السُنَّة، هي الأولى أيضاً في 15 ديسمبر 2005 نتج عنها تأسيس برلمان عراقي من 275 عضواً، صوّت لصالح منح الثقة لنوري المالكي ليكون أول رئيس حكومة منتخب من خلال ممثلي الشعب في البرلمان.
كانت الصورة الطاغية على توجهات السياسة السُنيّة منذ الاحتلال الأمريكي تتخذ بُعدين يتمثلان في المعارضة المسلحة للاحتلال، والمقاطعة السياسية، باستثناء شخصيات مستقلة وأحزاب وتكتلات لا تحظى بجماهيرية كبيرة في الوسط السٌنّي.
في مرحلة لاحقة من خريف عام 2006 وعام 2007 طغت صورة مغايرة اتسمت بالخلافات العميقة بين فصائل المعارضة المسلحة، بلغت ذروتها بالاقتتال المسلح على كامل رقعة تواجدها الجغرافي بين تنظيم «القاعدة» من جهة وغالبية الفصائل الأخرى المتحالفة مع مجالس الصحوات العشائرية الممولة من القوات الأمريكية من جهة أخرى، وهو ما أدى إلى انعكاسات مهمة على خيارات المجتمع السُنّي وقراءاته للمشهد السياسي قراءة جديدة، بما فيها جدوى استمرار العمل المسلح ضد القوات الأمريكية، وإدراك غالبية فصائل المعارضة المسلحة صعوبة الحسم العسكري خلال الفترة الفاصلة عن الموعد النهائي للانسحاب الأمريكي من العراق، خاصة بعد التراجع الملموس في حضور تنظيم «القاعدة» الذي كان يجرِّم الدخول بالعملية السياسية، ويحاول منع السُنَّة من المشاركة فيها بكل الوسائل، وهو ما نتج عنه مشاركة سياسية سُنيَّة بشكل واسع في انتخابات 7 مارس 2010 .
ظلّت عملية الانتخابات هي العنوان الرئيسي للديمقراطية في العراق، مع إغفال واضح من السياسيين أنفسهم لأسس الديمقراطية الأخرى ومؤسساتها، كالفصل بين السلطات الثلاث، وحرية الرأي والتعبير، وحيادية إشغال الوظائف العامة، باعتماد تكافؤ الفرص والمنافسة النزيهة على أساس الكفاءة والمهنية، واعطاء دور رقابي حقيقي لمنظمات المجتمع المدني وغيرها. وتحظى التشريعات الخاصة بقانون الانتخابات ومشاريع تعديل مواده أهمية بالغة تعكس واقع الخلافات الطائفية والعرقية وليس السياسية. ليست مهمة مشاركة العرب السنة في وقت مبكر بالعملية السياسية او مقاطعتها، وهذا لا يعني الكثير، طالما أن الأسس التي قامت عليها العملية السياسية أسس عرجاء اعتمدت على المحاصصات السياسية على خلفيات عرقية وطائفية.
سيكون لزاما بعد أربعة عشر عاما على العرب السنة والاكراد أيضا، الى جانب المكونات الأقل نسبة في عدد السكان مثل التركمان والايزيدية وغيرهما، الكفاح لاجل بناء عملية سياسية سليمة تبنى على ركائز مستمدة من الواقع كما هو، وليس من فتاوى دينية أو قرارات الحاكم المدني بول بريمر. باستثناء المكون الشيعي الذي لا أحد يستطيع الجزم بانه يمارس الحكم وفقا لاستحقاقاته، أم أقل منها أو أزيد على حساب استحقاق المكونات الأخرى، تبقى حاجة المكونات الأخرى الى عملية سياسية ناضجة بعيدة عن الهيمنة والاقصاء والتهميش. المسار المنحرف لمجمل العملية السياسية يعد من اهم مسببات نمو بذرة الإرهاب في المجتمع السني خصوصا.
ما يحتاجه العراق بكل مكوناته للخروج بعملية سياسية سليمة ترضى عنها جميع المكونات، باستثناء المكون الشيعي، الضغط على الأمم المتحدة لفرض إجراء إحصاء سكاني يحدد فيه النسب التمثيلية، في ضوء نتائجه لكل مكون عرقي او طائفي لياخذ استحقاقه وفق ما يمثله من مجموع سكان العراق. قد تفهم هذه الدعوة بانها دعوة لتقسيم المجتمع او خلاف هذا؛ لكن هذا ليس صحيحا، فالمجتمع العراقي ومنذ غزو العراق قبل خمسة عشر عاما تم تقسيمه الى نسب لتحديد الحصص في الموارد والسلطات. لذلك رفض مثل هذه الدعوات في حقيقتها هي غرض من أغراض الفئة، أو الفئات المستفيدة من الوضع الشاذ الذي تقوم عليه العملية السياسية.
فاذا كان البلد في واقعه تم تقسيمه الى مكونات طائفية وعرقية متداخلة، وتم توزيع النسب التمثيلية لكل مكون بدون الاستناد الى احصائيات رسمية، فما الذي يدعو البعض للاصرار على رفض دعوات لإجراء إحصاء سكاني يحدد نسبة كل مكون عرقي او طائفي او ديني من مجموع سكان العراق؟ بالتأكيد سيرفض مثل هذه الدعوات فقط الذين يتمتعون الان بسلطات وموارد هي اكثر من استحقاقهم في ما لو تم اجراء إحصاء سكاني، والمعني هنا ممثلو الكتل الشيعية. لا لوم عليهم فكل فئة او مكون في العراق يبحث عن مصلحة مكونه، حتى لو كانت على حساب مصلحة المكونات الأخرى، بل على حساب العراق البلد والوجود والمستقبل.
كاتب عراقي
رائد الحامد
السُنة بالعراق أكثر عدداً من الشيعة
هناك تزوير للإنتخابات وهناك عزوف للسُنة عن الإدلاء بأصواتهم بسبب الإحتلالين الأمريكي والصفوي
ولا حول ولا قوة الا بالله