الانفتاح على العالم لا يعني فقدان الخصوصية، بل اثراءها، وهناك نماذج حضارية متعدّدة علينا إدراكها والتفاعل معها بعيدا عن النموذج الغربي، الذي خضعنا له على مدار قرن، غافلين عن ضرورة إثراء لغتنا وتحصين خصوصيتنا الحضارية وحمايتها من أشكال التنميط وضروب التدجين والذوبان، التي فرضتها علينا فرضا منظومة الحداثة الغربية، الأمر الذي أدّى إلى هيمنتها مادّيا ومعنويّا ناهيك عن استخدام الفكر وتطويعه والتسلّل إلى العقول والسيطرة عليها لضمان التبعية والتقليد الأعمى.
فتحقيق السيطرة الفكرية والمادية حرب جديدة ناعمة تحدُث في غفلة منّا، وهي ليست حرب مدافع ولا طائرات، بل هي احتلال مجاني للأرض ونهب لثروات الشعوب التي تتحوّل إلى موقع التبعية التامّة للغرب، التبعية الثقافية والفكرية بجعلك تابعا غير مُكلف للقوى المهيمنة. ويكفي أن ننظر إلى شمال إفريقيا أو دول الخليج لنبحث أين اللغة العربية في التعامل الإداري والتواصلي، فالفرانكفونية والكومنولث عناوين كبرى للغزو الفكري واستيلاب الهوية.
وقد تعمقت حالة التبعية باحتواء مباشر مع تفاقم ظاهرة العولمة وأيديولوجيا الليبرالية الجديدة، التي أنتجت أزمات اقتصادية متلاحقة، وبات واضحا ضمن فضاء العولمة الشاملة بجميع أشكالها وصيغها الاقتصادية والسياسية والإعلامية سعي السياسة الأمريكية والغربية إلى تفتيت الدول العربية والإسلامية إلى قوميات عرقية متناحرة ومتصارعة، لتقضي بذلك على التكتلات الكبرى القادرة على مواجهة خطر العولمة. وهي سياسة واضحة الملامح في المنطقة، عبّرت عنها محاولات تجزئة المجزء بتفتيت العالم العربي وتقسيمه إلى دويلات وكنتونات صغيرة وشرذمته بين سنة وشيعة، عرب وأكراد وبرابرة، ومسلمين وأقباط. وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية بينهم، حتى تبقى إسرائيل الدولة المتماسكة والقوية غير المتشرذمة، يدعم موقعها عالم إسلامي مجزّء فيسهل عليها التعامل مع كيانات وطوائف بدل أمّة.
ولعلّ الرهان على مشروع التفتيت الطائفي مع انهيار المشروع القومي العربي وصعود الأصوليات أثبتُ دليلٍ على كلّ ذلك. فإسرائيل مازالت ترغب في تفتيت الهويات لتظهر أمام العالم الهوية العبرية في مجال شرق أوسطي مقسّم إلى دويلات إثنية ودينية وعرقية.
لم يكتف الاستعمار الغربي بالسيطرة الاقتصادية على المنطقة، وترك دولها في حالة التبعية الخانقة، بل رسم ملامح خريطة استراتيجية محكمة على المدى البعيد، لاحتواء البلدان العربية والإسلامية والآسيوية (شرق آسيا تحديدا)، ولا يكون ذلك إلاّ باتباع السيطرة الاقتصادية بالسيطرة الثقافية، والغزو الفكري كان لا بدّ منه، إضافة إلى المؤسسات الحديثة للسيطرة على الأفكار وتوجيهها طوعا وليس عبر السياط، فالتواجد العسكري المباشر مُكلف، واستدرار الطاعة مهمّة تكفّل بها جنود الطاعة وُكلاء الاستعمار من العقول المبرمجة والمدجّنة، ومن الأقلام المأجورة، خاصة الدعاية الإعلامية الموجّهة للرأي العام، والمسيطرة على الأفكار، والمهندسة للعقول والمهيّئة للقبول. والمؤسف أنّ الأصوات تزداد كثرة مع زخم العولمة، التي هي سلاح متقدّم في ضرب الهوية والخصوصية الحضارية، وهي أصوات فقدت احترامها لذاتها ولثقافتها المحلّية، وأصبحت تُجاهر بثقافة الآخر وتُروّج له جهلا وتغافلا وما هو في حقيقته إلّا مشروع للهيمنة والتدجين والسيطرة بجميع أشكالها.
التفاعل الثقافي يُعدّ ثابتا ضروريا وفعلا لا بدّ منه في كل الحضارات، ولكن الغزو الفكري ضرب للخصوصية الحضارية، لأنّه يقف حاجزا أمام تفعيل الهوية بما هي مسألة ضرورية في عملية النهوض الحضاري وإدارة المجتمع. ويبدو أنّ الموقف القديم من العرب والمسلمين والشرق بشكل عام لم يغادر وعي الجمهور الثقافي الاستشراقي الغربي ، والغرب عموما لم ينس تاريخ الصدام، وكيف أنّ الاسلام الحضاري لم يخضع للغرب تاريخيا ولا يمكن أن يخضع له خضوعا مطلقا، ولذلك اعتبر الاسلام وحضارته مصدر قلق دائم للغرب، خلافا للحضارة الهندية والصينية أو غيرهما. فالهامش المتاح للتعاطف مع الاسلام ضدّ موجة التشويه والكراهية إنّما هو هامش ضيّق جدّا في الغرب، بينما دعّمت المؤسسات السياسية الغربية الاستبداد والطغيان، وأثارت النزاعات والحروب في الأماكن الاستراتيجية، وفق معطيات مصالحها في المنطقة العربية، ويبقى الأخطر من ذلك كله ضرب الهوية والخصوصية الحضارية وتكريس الاستيلاب ومعطى تغييب الانتماء.
كاتب تونسي
لطفي العبيدي
هذا هو الاستعمار الجديد القائم علي التاثير في قله من ابناء الوطن ليكونوا اعداء لكل الوطن .
والمؤلم ان تجد اشخاص تظن فيهم المعرفة والفهم ؛وفي اول كلمة يكتبونها او ينطقونها تتساقط كل الاقنعة التي اخفت حقيقتهم
موضوع مهم وطرح رائعة
لك التحية والاحترام الاستاذ لطفي العبيدي