في مقدمة كتابه الذي حمل عنوان «الشلوخ» كان يوسف فضل، وهو أستاذ جامعي وباحث في الدراسات التاريخية، قد قال إن هذه العادة التي تزين وجوه كثير من السودانيين قد أخذت في الانحسار. كان ذلك منذ وقت بعيد، حيث وقّعت مقدمة الكتاب بتاريخ 1975. اليوم يمكننا أن نقول باطمئنان إن ذلك التقليد الشهير بات في حكم المنقرض. انقراض أنهى قروناً سادت فيها تلك العلامات ذات الأصول الغامضة التي ميزت وجوه أغلب السودانيين.
لا شك في أن هذه النهاية هي خبر جيد، إذ توفر كثيراً من المعاناة على الأجيال الجديدة، لكن بالمقابل فإنه لا يعقل ألا تخضع مثل هذه الظاهرة الاجتماعية لأي نوع من الدراسة الفاحصة، وأن يتجاهلها الباحثون مكتفين بملاحظة انحسارها وتراجعها ثم اختفائها رويداً رويداً كأنها لم تكن.
كتاب يوسف فضل المذكور هو الكتاب الوحيد ، الذي تخصص في بحث هذه الظاهرة، محاولاً إلقاء نظرة شاملة عليها، وإن كان هناك من عالج هذا الموضوع ممن لا نعلمهم، فإن الأكيد هو أن كتاب فضل كان الرائد في هذا المجال وهو ما يظهر حين يتفحص القارئ صفحة مراجعه التي تخلو من أي إشارة لدراسات معمقة سابقة على الأقل من قبل الباحثين والكتاب السودانيين. أما في ما يخص الأجانب، فالأمر مختلف حيث تعج المكتبات الغربية بما كتبه الرحالة والمستشرقون والعابرون من الذين كانت الشلوخ، وما خلفها من أسرار محل ملاحظتهم وتساؤلاتهم، خاصة أنها غير معروفة في غير هذه المنطقة التي تشمل ما يمكن تسميته بالسودان الكبير، والذي يمتد في بعض تعريفاته حتى نيجيريا وبلدان غرب إفريقيا.
في الوقت ذاته فإن هذا الكتاب، على أهميته وتفرده، لا يقدم إجابات شافية على جميع الأسئلة المتعلقة بموضوع الشلوخ، وإن كان عنوانه الجانبي المشوّق يوحي بالكثير: «أصلها ووظيفتها في سودان وادي النيل الأوسط». كتاب الشلوخ يبدو أقرب لمقال تعريفي مطول مليء بالصور الشارحة من كونه عملاً بحثياً تفصيلياً، حيث لا يتجاوز عدد صفحاته التسعين صفحة منها جزء كبير متعلق باللغة والأدب وبيان أشكال هذه الشلوخ مع الرسوم الشارحة، كما اهتم الكاتب بسؤال ما إذا كانت كلمة «شلوخ»، برغم ما تبدو عليه من عامية، هي الكلمة الأنسب للاستعمال أم أن هناك مقابلات لغوية أكثر فصاحة ووصفاً، خاصة أن لكلمة «شلخ» الفصيحة مدلولات أخرى.
يمكن الاتفاق على أن كلمة «شلوخ» ورغم كونها صناعة محلية، إلا أنه لا حرج في استخدامها إذا كانت الأكثر تعبيراً عن المعنى، خاصة إذا لم يكن هناك مقابل عربي يمكنه أن يصف هذه العملية التي تتم عبر خلق جروح غائرة على محيط الوجه والوجنتين باستخدام الأمواس أو السكاكين أو غيرها من الأدوات، ما يخلّف علامات مميزة تبقى مدى الحياة. هذه الممارسة بهذه الطريقة مختلفة عن «الفصد» و»الوسم» و»الوشم» وغير ذلك من المترادفات التي يمكن أن نجدها في المعاجم العربية. لكن لماذا يعمد بعض الناس على العبث بوجوههم بهذه الطريقة؟ ومن أين جاءت هذه الممارسات وكيف انتقلت إلى بلاد السودان؟
يمكن للإجابة عن هذه الأسئلة أن تستغرق بحوثاً كثيرة مطولة وأن تحتمل الكثير من الآراء المتباينة ووجهات النظر. يمكن على سبيل المثال إدراج هذه الشلوخ ضمن عادات التجميل الغريبة التي تنتشر عند كثير من الإثنيات والقبائل في إفريقيا وغيرها والتي من بينها تطويل اللثة أو حلمة الأذن أو كي الوجه بالنار أو غيرها من ممارسات تتشارك في كونها، على ما فيها من ألم وتعذيب، تتم برعاية أقرب الأهل، الذي يرون أن فيها مصلحة لأبنائهم وبناتهم، سواء للحفظ من العين أو لغرض الصحة والعلاج، أو لإسباغ جمال إضافي أو غير ذلك من الأسباب.
يكفي فقط أن تستمع لإحدى كبار السن من النساء لتصف لك كيف كانت هذه العملية كابوساً مريراً، وكيف كانت تتم بآلة حادة وبدون أي تخدير تقريباً، ما يترتب عليه الكثير من الأعراض الجانبية التي أقلها عدم القدرة على الأكل لعدة أيام.
بانحسار هذه العادة التقليدية سوف تختفي وظيفة «الشلاخة»، السيدة التي تعمل في هذا المجال، كما ستختفي الأشعار التي كانت تتغزل بهذه الشلوخ، بوصفها جزءاً مهماً من الجمال الأنثوي لتحل محلها أشعار شعبية أخرى تعكس ميل الرجال الجديد لمن هن طبيعيات وبلا شلوخ أو «سادة» كما يصفهن الأدب المحلي.
مصدر هذه الشلوخ ما يزال غامضاً، لكن علماء الآثار يخبروننا أن علامات الوجه تلك كانت معروفة لدى أبناء العالم القديم، حيث وجدت آثارها في تماثيل حضارات مصر واليونان والعراق، وحتى مروي السودانية، مع اختلاف ممكن في الأسباب بين كل مكان وأخر، أسباب من بينها التمييز بين الأحرار والعبيد أو التمييز بين أتباع دين معين وغيرهم من الناس.
يقول يوسف فضل أن الشلوخ ظلت منتشرة أيضاً في بلاد الحبشة، وأن العرب طالما تغزلوا ببعض من رأوهم من حبشيات يحملن ذلك الوسم، واستشهد بأبيات أبي حيان التوحيدي: وبي حبشية سلبت فؤادي/ فليس يروق لي شيء سواها. كأن لعوطها طرق ثلاث/ تسير بها القلوب إلى هواها. والمقصود باللعوط هنا في الغالب الشلوخ. التداخل الثقافي بين بلاد السودان والحبشة لا شك فيه، وحين يتعلق الأمر بالتاريخ فإن ذلك التداخل يصبح أكثر عمقاً، حيث يصبح من الصعب الجزم بما إذا كانت تلك المتغزّل بها من هذا البلد أو ذاك بحسب التعريفات الحدودية الطارئة. هناك مفارقة أخرى متعلقة بموضوع الشلوخ، وهي التي تتمثل في الدلالة الاجتماعية التي كانت سائدة في السودان، والتي كانت تعتبر أن في هذا التقليد دليلا على أصول بعض المجموعات وارتباطها بالقبائل العربية، وقد كان هذا سبباً لتزايد التمسك بها من قبل بعض القبائل التي تعتد بجذورها العربية. المفارقة هي ما تؤكده الوقائع والكتب الباحثة من كون أن العرب لم يعرفوا الشلوخ بمعناها وشكلها، وأن ما ورد في حكاياتهم وأشعارهم، إنما كان في الغالب وصفاً لبعض القادمين والوافدين ممكن كانوا يحملون هذا التقليد معهم. من الثابت كذلك عدم وجود ارتباط بين هذا التقليد ودخول العرب إلى السودان، فالشلوخ هي أقدم من ذلك بكثير.
كانت للشلوخ وظيفة تمييزية تدل على هوية صاحبها وانتماءاته القبلية والدينية، حيث يوضح شكل الرسم في بعض الأحيان لأي طريقة صوفية ينتمي وأي شيخ يتبع. هذا التمييز هو الجانب الأكثر سلبية في القصة، لما فيه من تكريس للانتماءات الصغيرة الضيقة والولاءات الهامشية، ما يتنافى مع روح المواطنة ومجتمع الحداثة. هذا الأثر السيئ شكّل أحد أسباب ترك هذه العادة إضافة للسبب الأهم، وهو ما تمثله هذه الشلوخ من مخاطر صحية وتخريب للصنعة الإلهية.
هكذا انتهت هذه العادة التي ظلت صامدة لقرون، لكن المؤسف أن الارتداد نحو القبيلة ونحو الانتماءات العشائرية والطائفية لم ينته بعد، بل باقٍ ويتمدد.
٭ كاتب سوداني
مدى الفاتح