لا اعرف، على وجه الدقة، عدد الفلسطينيين الذين يعرفون قصة وتاريخ نشأة «شركة كهرباء القدس». ولكنني أُقدِّر ان الذين يعرفون تفاصيل، ومعنى، وابعاد، تلك القصة، ليس بين بسطاء الفلسطينيين فحسب، بل حتى بين القيادات الفلسطينية، لا يتعدّون نسبة ضئيلة، لا ابالغ لو قلت انها قريبة جداً من الصفر. ذلك، رغم ان هذه القصة تشكل «درساً الزامياً» لكل فلسطيني، خاصة إذا كان ممن يتعاطون بالشأن العام.
نبدأُ الحكاية من اولها: حصل رجل اعمال يوناني اسمه يوربيدس مفروماتس، يوم 7/1/1914، من سلطات الامبراطورية العثمانية، على امتياز لتوليد الطاقة الكهربائية وتوزيعها في مدينة القدس وضواحيها. في ذلك التاريخ كانت فلسطين جزءاً من الامبراطورية العثمانية، وكان مفروماتس واحدا من «رعايا» تلك الامبراطورية التي كانت تسيطر على الجزء الاكبر من اليونان. بعد ذلك بسبعة اشهر وايام، ويوم 28 تموز/يوليو 1914 تحديدا، وقبل ان يبدأ مفروماتس العمل، بفضل الامتياز الذي حصل عليه، نشبت الحرب العالمية الاولى.
انهارت الامبراطورية العثمانية، بفعل تلك الحرب، وتقاسم الحلفاء المنتصرون «تَرِكَة» رجل اوروبا المريض. اصبحت اليونان دولة مستقلة، وخضعت «بلاد الشام»، او قل «سوريا الكبرى»، إلى مَقَصِّ سايكس بيكو، ووُضعت فلسطين، (وغيرها من «الكيانات» الوليدة)، تحت الإنتداب/الإستعمار البريطاني، ومنَحَت بريطانيا الحركة الصهيونية «وعد بلفور»، وعُيّن هربرت سامويل، اليهودي الصهيوني البريطاني، كأول «مندوب سامي» للتاج البريطاني، على فلسطين.
وبطلب من الحركة الصهيونية، أَعطي المندوب السامي ليهودي روسي صهيوني، اسمه بنحاس روتنبيرغ، امتياز انتاج وتوزيع الكهرباء لكامل الاراضي الفلسطينية، من النهر إلى البحر. وعندما احتج مفروماتس، الذي اصبح في ذلك الحين مواطنا يونانيا، على سلب حقه في امتياز»كهربة» القدس، تجاهله الانتداب البريطاني، بحجة ان العالم قد تغير، وتبدّلت السيادات على فلسطين، وان الامر الواقع يعطي للمندوب السامي، الحق الشرعي، في اعطاء امتياز كهربة فلسطين، لمن يشاء.
في هذه الأثناء كان الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون قد نشر ما صاغه تحت عنوان «النقاط العشر»، وتم التعارف عليها على انها «النظام العالمي الجديد»، ونتج عن ذلك تشكيل «عصبة الأمم»، التي أقرّت بدورها تشكيل «المحكمة الدائمة للعدل الدولي»، ومقرها لاهاي/هيغ غرب هولندا.
لم يكن باستطاعة مفروماتس اللجوء إلى المحكمة الدولية لضمان حقوقه وحمايتها، لأنه فرد، ولا تنظر تلك المحكمة إلا في قضايا ترفعها دُوَل. استعان مفروماتس بدولته، اليونان،… ولم تخذله دولته. رفعت هذه الدولة قضية في محكمة لاهاي لضمان وتثبيت حق مواطنها، وكانت تلك اول قضية لها علاقة بفلسطين، ترفع إلى محكمة «دولية».
عملت هذه المحكمة الدولية، بصيغتها تلك، ستة عشر عاما، (1922/1938)، وعند نشوب الحرب العالمية الثانية، واحتلال المانيا النازية لهولندا، نقلت المحكمة مقرها من لاهاي في هولندا، إلى جنيف في سويسرا. وعلى مدى الستة عشر عاما من عملها، اصدرت المحكمة اثنين وعشرين حكما قضائيا فقط، وأحدها هو الحكم الذي نحن بصدده. وكان فحوى ومضمون قرار الحكم: ان كل ما التزمت به السلطة صاحبة السيادة، قبل خضوع فلسطين للانتداب البريطاني والسيادة البريطانية هو شرعي وساري المفعول وملزم لحكومة الانتداب، ولا يحق للانتداب تجاوزه. وهكذا اعادت المحكمة لمفروماتس حقه بموجب ذلك الإمتياز. وقررت تلك المحكمة ايضا ان «منطقة» القدس التي يشملها الامتياز، هي منطقة جغرافية، على شكل دائرة، «مركزها كنيسة القيامة في القدس، ونصف قطرها عشرون ميلاً». وتابع السيد مفروماتس ما اعاقته الحرب من اعمال. ثم باع حقه لاحقا، لكن «شركة كهرباء القدس» ما زالت قائمة إلى يومنا هذا، شركة وطنية فلسطينية رائدة، تستند في تأسيسها إلى قرار قضائي دولي تاريخي، هو قرار محكمة لاهاي. (ولا يضيرنا القول في هذا السياق، ان ما آلت اليه هذه الشركة الوطنية في ايامنا، من اوضاع ومتاعب مالية، جراء تقصير كثير من المستهلكين في تسديد ديونهم للشركة، ومن عراقيل، عرفت بعض تفاصيلها من احد مستشاري الشركة، المحامي الصديق جمال شديد، هو امر محزن، ويحمل مخاطر يجب تجنبها).
نشأ بعد الحرب العالمية الثانية «نظام عالمي جديد» ورِث نظاما عالميا كان جديدا في حينه، وورثت «هيئة الأمم المتحدة» عصبة الأمم. اما «محكمة العدل الدولية» فقد ورثت «المحكمة الدائمة للعدل الدولي» واحكامها ايضا… وبقي سؤال جوهري واحد «يتيما» لا جواب له هو: من يرث حقوق وامتيازات الفلسطينيين كافراد وكشعب؟؟
هذه سابقة سياسية قانونية دولية موثقة رسميا، ولها علاقة مباشرة بفلسطين، يجدر بنا ان نعي ونستوعب ابعادها، وان نتعلم منها، وان نتخذها قاعدة لاطلاق آلاف المبادرات المحددة لضمان حقوق الفلسطينيين وورثتهم كافراد، وحقوق الفلسطينيين كشعب، في جميع الاملاك المنقولة وغير المنقولة، وفي جميع الامتيازات الرسمية القانونية، التي لا يلغيها كل ما اتخذته اسرائيل من قرارات، وكل ما سنته من قوانين.
هناك آلاف كثيرة من القضايا التي ينطبق عليها ما طبقته محكمة لاهاي بخصوص قضية «شركة كهرباء القدس». لكن ليس بمقدور أي فرد فلسطيني مقاضاة اسرائيل. تلك مهمة «دولة فلسطين»، التي يجدر بقيادتها الرسمية والشرعية، تولي هذه المسؤولية الوطنية، بتشكيل هيئة تتخصص بهذا الباب، وترفدها بكافة الكوادر اللازمة، من ذوي الاختصاصات ذات العلاقة.
هذه الحقوق الفلسطينية يجب حصرها جميعا، وذلك ليس امرا مستحيلا، بل وليس صعبا ايضا. ثم يلحق بذلك وضع برنامج عمل لبدء اثارة المطالبات ومتابعتها بجدية هي جديرة بها.
أعرضُ فيما يلي، مثالين اثنين فقط، لما يمكن اعتباره عيّنة لما اسعى إلى توضيحه. والمثالان يتعلقان بحقوق الفلسطينيين في اسرائيل، ذلك ان حقوق الفلسطينيين في الضفة والقطاع ودول اللجوء اكثر من واضحة.
يتعلق المثال الاول بامتيازات النقل التي اصدرتها حكومة الانتداب رسميا. فعلى حد معلوماتي، (التي تستند إلى معرفة كبيرة ودقيقة، لكنها ليست شاملة تماما)، ان شركة نقل فلسطينية واحدة فقط، هي «شركة باصات العفيفي» في الناصرة، احتفظت بحقها وامتيازها لنقل الركاب على خط الناصرة ـ حيفا. اما جميع امتيازات النقل الاخرى فلم يحتفظ بها اصحابها ومالكوها، ولم يرثها ورثتهم!!. وهذه قضية قانونية غير بالغة التعقيد. وبقليل من البحث في ارشيفات تلك المرحلة، تتكشف حقائق وقضايا يجب ان تثار. واحدة من هذه القضايا اعرف انا شخصيا دقائقها وتفاصيلها، لكنني لن انشرها هنا، منعا لاي التباس او سوء فهم.
ويتعلق المثل الثاني بالاراضي المصادرة في سهل البطوف، لصالح «مشروع المياه القُطري»، بلغة الاسرائيليين، وهو «مشروع تحويل مجرى نهر الاردن»، بلغة العرب. ففي احد ايام صيف العام 1964 جاء إلى سخنين موظف رسمي اسرائيلي اسمه اوري طون، مندوبا عن حكومة اسرائيل، ودعا إلى لقاء في مضافة احد مخاتير البلدة، وحضره مخاتير ووجهاء المنطقة.
ابلغ اوري طون حاضري اللقاء، بقرار مصادرة ارض بعرض 93 مترا على طول سهل البطوف، (حوالي 15 كيلومترا)، من قرية عيلبون وحتى جنوب قرية كفر مندا، وذلك لحفر قناة بعرض 15 مترا تنساب فيها مياه «المشروع القطري»، ثم تكمل انسيابها عبر انابيب ضخمة مطمورة تحت الارض حتى النقب.
هذه المياه يتم ضخها من «ثُمْ البحرة» في اقصى جنوب بحيرة طبريا، حتى نفق عيلبون. عندما احتج الحاضرون على قرار المصادرة، وطالبوا ان يكون انسياب المياه عبر اراضيهم بانابيب تحت الارض اسوة بمئات الكيلومترات الاخرى، رد عليهم اوري طون: هذا قرار. وانا جئت لابلغكم بالقرار، لا لسماع رأيكم. من حقكم الاحتجاج والشتم. ولكن القرار قرار، وسيتم تنفيذه، وستوضع التعويضات عن المصادرة بتصرفكم.
هذا زمان مضى، وظروف تغيرت. واذا كانت السلطات الاسرائيلية قد بررتها في حينه بـ»دواع امنية»، فانها اصبحت الآن غير مبررة تماما. واعتقد انه يجدر باللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس المحلية العربية في اسرائيل، ورئيسها الصديق مازن غنايم، اعادة فتح هذا الملف، بهدف الغاء قرار المصادرة، وتسييل المياه بانابيب مطمورة، او تقليص عرض الارض المصادرة إلى 23 مترا بدل 93 مترا، والتعويض عن المصادر بكميات من المياه سنويا، تكفي لتحويل الزراعة البعلية في ذلك السهل، (طوله نحو 15 كيلومترا، ومتوسط عرضه خمسة كيلومترات)، كما هو عليه الحال الان، إلى زراعة مروية.
مثل ما تقدم آلاف القضايا التي تخص الفلسطينيين في اسرائيل، وفلسطينيي الضفة والقطاع، والفلسطينيين في دول اللجوء. هذا واقع يستدعي الاهتمام والمتابعة.
٭ كاتب فلسطيني
عماد شقور
هذا جزء من المقاومة الذكية التي تصنع فرقا كبيرا.
انظر الى الصهاينة الذين نجحوا في اقرار قوانين في اوروبا ضد اللاسامية او ضد من يشكك في ارقامهم عن المحرقة على سبيل المثال لا الحصر.
يجب اعادة الاعتيار الى منظمة التحرير بفصل رئاستها عن السلطة الفلسطينية لأنها تخص كل الشعب الفلسطيني. و يجب ان تعمل هذه المنظمة بشكل علني على الدعم الاخلاقي و القانوني و الشرعي للحقوق الفلسطينية و تقديم الدعم المباشر لأي جمعية او مركز او جامعة او فرد يعمل في هذا الاتجاه