سيظل التساؤل عن مستويات حضور العقل في الفضاءات العربية، شرطا أساسيا للتعرف على مجموع الاختلالات المقيمة في مضاربنا المصونة، تحت قيادة حاكم مستبد يُدْعى التخلف، حيث تلح علينا مفارقةٌ مفادها أن «الآخر» حينما يكون بصدد ممارسة حضوره في مدارات الحداثة، ومنكبا على تنمية وإغناء منجزها، باعتباره الحدث الأكثر استئثارا بالاهتمام، نكون نحن معنيين بالبحث عن المسالك الخفية والمكشوفة، التي ما فتئ التخلف يحفرها بهمة ونشاط في جغرافياتنا، التي تفوح من أخاديدها روائح اقتتال ذاتي، يشيب من هوله الموتى. والسبب في ذلك، يعود إلى أن التخلف المقيم بين ظهرانينا معززا ومكرما، يحظى ببنية على درجة عالية من التركيب والتعقيد، تلزمنا بالتساؤل عن الصيغة التي يتفاعل فيها العقل في هذا المشهد، ليس باعتباره قوة مبدعة خلاقة ومنتجة، قياسا بمجالات التقدم العالمي، ولكن فقط باعتباره حدا فاصلا، بين متنزهات الرشد وخرائب الفوضى، لأن البحث عن تجليات اللاعقل في المجتمعات المتخلفة الرازحة تحت ثقل الجهل والاستبداد، ستكون حتما، أسهل منالا من البحث عن تجليات العقل فيها. وبصرف النظرعن تعدد المداخل التي يمكن أن تقودنا إلى الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالعقل والعقلانية في واقعنا العربي، فإن مدخل الديمقراطية يظل أكثرها ملاءمة، وهي قناعة تتأسس على اعتبار حضورها، دليل حضور مؤشرات العقل والعقلانية، كما هي دليل حضور قيم حضارية ومجتمعية موازية، نتعرف من خلالها على هوية شعب ما، في امتداداته التاريخية، كما أن إثارة إشكالية العقل، تفيد ضمنيا وضع أسس الهوية المجتمعية، تحت مجهر النقد والتقييم والمساءلة، من أجل الكشف عن آليات تدبيرها لمتطلبات الواقع وإكراهاته، حيث يتعذر تصور حياة مجتمعية تطمح إلى تأكيد حضورها في المشهد الكوني، خارج دينامية التدبير العقلاني.
وحرصنا على التوجه إلى مسكن العقل من باب الديمقراطية، لا يعني بالضرورة أننا سنتورط في مقاربتها وفق المنظور الأكاديمي، خاصة أنها محل اهتمام النخب العربية منذ أواسط القرن التاسع عشر، ضمن سياق بحثهم عن إمكانية الانفلات من ظلمات الأزمنة البائدة، وهو اهتمام أمسى من فرط ابتذاله، شبيها بمشجب تُعلَّق عليه كل الخسارات الاجتماعية والسياسية، ذلك أن النخب استنزفت نقاشاتها في تقليب مفهوم الديمقراطية على مختلف وجوهه، أملا في العثورعلى أكثرها انسجاما مع متطلبات اللحظة التاريخية، حيث أصبح هذا الاستنزاف هدفا في ذاته، وأداة لاستعراض الكفاءة المعرفية التي تمتلكها الذات في حجاجها مع الخصوم، لا فرق قي ذلك بين منهجية اليمين، ومنهجية اليسار أو الوسط، الشيء الذي ينزاح بالنضالات والصراعات من إطارها الواقعي المادي والملموس، إلى حيز نظري، يتمحور حول ذاته في دائرة ضيقة ومغلقة، وهو ما جعل من الديمقراطية في العالم العربي كائنا مثيرا للجدل، أولا من منطلق الاعتبارات التي أشرنا إليها. وثانيا على أساس ما يحفها من دلالات متناقضة، تتعلق ببعدها المصطلحي، أو المرجعي، وأيضا بتفاعلاتها وتجاذباتها مع مفاهيم تراثية مجاورة، كالشورى والإجماع والاجتهاد، وكلها عوامل تؤثر في تعدد مستويات قبولها أو رفضها من قِبل الفرقاء، مشايعين كانوا أم مناوئين، علما بأن أُوار هذا الجدل، مستعر منذ أواسط القرن التاسع عشر، إلى الآن، على إيقاع الحرب الدائرة رحاها بين المحافظين والإصلاحيين، ذلك أن التوجه المحافظ، يعتبر منظومته جد متعالية عن المفاهيم الحداثية التي تنتمي إليها الديمقراطية، لكونها منظومة «تستوفي» مجمل الشروط الكفيلة بتدبير الحياة المجتمعية والسياسية، ما يجعل كل انفتاح على الخطابات المستحضرة من خارجها، بمثابة تدنيس للخصوصية الدينية، وانحراف عن جادتها، وضمن التوجه ذاته المتحفظ من انتظارات الديمقراطية، ثمة إمكانية لمقاربتها ضمن انتمائها إلى فضاءات الآخر، المؤطر بخصوصيته المسيحية والعلمانية، التي تعتبر في نظر الإسلامويين مدعاة للريبة والشك، نتيجة التراكمات التاريخية، التي ما فتئت صراعاتها تعمق هوة الخلاف بين الطرفين. أيضا رفْض ديمقراطية «الآخر»، يقترن باستحضار تاريخه الاستعماري، الذي لم تندمل بعد جراحه المفتوحة في الجسد العربي، فالمآسي والمحن التي عانى، ويعاني من جرائمها، تشحن هذا الجسد بما يكفي من الكراهية والرفض والحذر تجاه المفهوم، حيث يمكن الخروج بخلاصة مفادها، أن الغاية من أغلب المرجعيات الفكرية، التي احتمى بها الإنسان العربي، بمختلف مشاربها الدينية والقومية، وكذلك اليسارية، ذات المنحى المادي الجدلي، كانت بدافع تحصين الذات ضد تربصات الآخر/ المستعمر، الذي يُعتبر المصدرَ المباشر لمختلف «السموم الأخلاقية والفكرية»، مهما تقّنَّع بشعارات القيم الحضارية والإنسانية، حيث لا خير يُرجى من حضارة مسكونة بروح العنصرية، وبنزوع هيمنية واستعمارية. غير أن المفارقة تكمن في كون الأنظمة العربية المشهود لها بضراوة الاستبداد، تتألق في استثمار ما تبديه شعوبها من ردود أفعال سلبية وتعميمية، تجاه القيم الحداثية، كي توظفها بشكل مبيت، في النَّيْل من مصداقية كل الشعارات المنتصرة لحقوق الإنسان، باعتبارها «دخيلة» و«مستوردة»، الشيء الذي يُشرعِن حملاتها القمعية ضد المنابر الرسمية أو المحظورة المتحمسة لها، بدعوى حماية الخصوصية الدينية والثقافية، ما يؤدي إلى وضع كل القيم الحضارية التي تتبناها المواثيق الدولية في قفص الاتهام.
بالإضافة إلى هذه العوامل، تساهم الأمية الثقافية والسياسية في الإلقاء بثقلها الكبير على أساليب استيعاب وتصريف مفهوم الديمقراطية، كي تتحول في نهاية المطاف إلى ذريعة لتبييض عملة النهب والتسلطِ، خاصة حينما يتم رفع شعار تقاسم السلطة باسم الديمقراطية طبعا، وهو حق يراد به باطل، لأن التجارب التاريخية عودتنا على أن الأمر لا يتعدى حدَّ تقاسم الغنائم والامتيازات. وفي خضم هذه الأجواء الكارثية يعتكف العقل العربي في خلوته القصية، عاجزا عن الانخراط الطبيعي في مشاريع مجردة من شروطها المنطقية والموضوعية، لأن بذرة العقل لا يمكن أن تتفتح في تربة تحكمها أنظمة استبدادية، وغير مهيأة للاعتراف بالقيمة الإنسانية التي تمتلكها الذات البشرية بوصفها طاقة فاعلة، وحية من الأحاسيس والمشاعر المتوجة بضوء العقل. وسيكون من الضروري في هذا السياق، التأكيد على أن العقل الذي تسهر الأنظمة المستبدة على تكريسه، مدعومةً بتزكية التخلف، يوجد في الجهة المضادة للعقل الذي تتبناه وترعاه قيم التنوير والحداثة، لأنه وبإيجاز شديد، «عقل» مناوئ للعقل، ومشتغل بقوانينه الخاصة به، والمنفصلة تماما عن القوانين الطبيعية والموضوعية، التي يشتغل بها مبدئيا كل عقل سوي ونموذجي. بمعنى أنها قوانين مكرسة أساسا، لتدبير جموح الغريزة، تدبير الاضطهاد، وتدبير الإهانة الاجتماعية والسياسية، ثم إلى جانب ذلك، تدبير تقنية المعاملة بالمثل، من استغلالٍ للفرص، إلى الإيغال في التهافت على إفراغ القيم من مضامينها، أسوة بسياسات الدوائر الحاكمة، ذلك أن الفرد، وحالما يقتنع في ضوء المعطيات الملموسة، بأن هذه الدوائر، تنزه أنفسها عن سلطة القانون التي هي المقابل الموضوعي لسلطة العقل، فإنه حتما يستوعب بذكائه الفطري، إنها مجرد كليشيهات غير واقعية، وغير منطقية، وأن دورها ينحصر في إضفاء ما يكفي من الشرعية، على استراتيجية نهبٍ، لا يرى مانعا من الإدلاء بدلوه فيه.
٭ كاتب من المغرب
رشيد المومني
لاشك في ان غياب العقل هو ما يميز هذا العصر في ناريخ امتنا العربيه. فالعقل العربي مغيب في الامور “العقلانيه” بنفس القوه التي تغيب بها عن الامور المهمه الاخري مثل الامور “الدينيه” والتي لها مكانة خاصه في امتنا.
.
ولكن هل يمكن اعتبار “الديمقراطيه” كمقياس لمدي تغيب العقل، لا اعتقد ذلك. السبب الاساسي لذلك هو، كما ذكر الكاتب، ان الديمقراطيه هو مصطلح فضفاض و هلامي يصعب تعريفه بدقه. وبالتالي نري ان اي نظام يمكنه الادعاء بانه ديمقراطي حسب مفهومه و تعريفه للمصطلح!
.
اعتقد ان “الحريه”، و بالذات حريه الرأي، هي ما يجب ان يستخدم كمقياس للعقلانيه. فحينما توضع القيود علي الانسان يتوقف عقله حتي لو كان في مجتمع ديمقراطي.
.
وما اكثر القيود الموضوعه علينا و التي نضعها علي انفسنا.