تقارير المنظمات الدولية والبراءة من الدم العراقي

■ تطالعنا في كل مرة تقارير صادرة عن الامم المتحدة والمنظمات الانسانية والقانونية والحقوقية التابعة لها، نستطيع تلخيص مضامينها بأنها عبارات مكررة جافة، لا تتجاوز مجرد الإعراب عن القلق، او حث الطرف الحكومي على ما يسمى، إعادة النظر بسلوكياته او تجنب الاخطار الجسيمة لافعالهم الشنيعة، وغيرها من الجمل الصمّاء التي يتمثل فيها العجز وكأنه حل وحيد بيد هذه الجهات الدولية والاقليمية.
حدث هذا مئات المرات، في وصف المجازر التي حصلت في العراق وفلسطين وغيرهما من الدول والاقطار العربية. واذا امعنا النظر في التقرير الاخير الذي نشرته كل من بعثة الامم المتحدة لمساعدة العراق، ومكتب المفوضية السامية لحقوق الانسان في الاسبوع الماضي، نجده نسخة مكررة عما سبقه من تقارير اصدرتها الجهات نفسها، وضمنته العبارات نفسها، التي تشير الى السلوكيات اللاقانونية اليومية التي تؤدي الى استمرار المجزرة الرهيبة في العراق.
فالتقرير يؤكد (ان التحقيقات الجنائية والاجراءات القضائية في حالات الاحكام بالاعدام كثيرا ما لا تلتزم بالضمانات الدولية والدستورية الخاصة بالاصول المرعية ومعايير المحاكمات العادلة )، وفي الحقيقة ان هذا السلوك لن يدين الحكومة العراقية ويجعلها سلطة خارجة عن القانون بخروجها عن المعايير القانونية الدولية وحسب، بل هو ادانة واضحة للامم المتحدة التي زار أمينها العام العراق اكثر من مرة، لتقديم الدعم السياسي المادي والمعنوي للحكومة، حسب بيانات مكتبه الرسمي، كما انه فضح شامل لكل التحركات الدولية التي اتخذت من ذريعة الاضطهاد والتنكيل الحاصل، وسيلة للتدخل في اماكن كثيرة في العالم.
فهل يختلف التنكيل الواقع في سنجار وكوباني عن التنكيل المستمر في محافظات عراقية كثيرة، منذ اكثر منذ احد عشر عاما؟ وهل القتل بيد اجهزة وميليشيات حكومية أرحم من القتل بيد تنظيمات مسلحة من خارج اطار الدولة؟ وبماذا يختلف ذلك العنصر المسلح بسكين يحز بها رقبة ضحيته عن جهاز قضائي حكومي، فيه قضاة يصفهم التقرير بانهم يتجاهلون (على نحو منهجي ادعاءات المتهمين بالتعرض للتعذيب واخذ الاعترافات بالقوة)، ويسمحون بمثول المتهمين امام المحكمة بدون ممثلين قانونيين للدفاع عنهم او لم يمنح الدفاع وقتا كافيا لاعداد دفاعهم على نحو ملائم، ثم ينطق الحكم عليهم بالاعدام؟ واذا كان هذا هو المرصود من قبل المنظمات الدولية، فهل يمكن التحقق مما يجري خارج هذه الهيئات الحكومية، والمتمثلة بالقاضي المليشياوي والسجون الحزبية، وقرارات الاعدام التي تصدر حتى على الطلقاء من الكتاب والصحافيين والشخصيات الذين يختلفون فكريا وايديولوجيا مع السلطة القائمة، التي تنفذ عليهم وهم يسيرون في الشارع او جالسون في مكاتبهم او قرب ابواب بيوتهم، لتسجل القضية ضد مجهولين ثم تضيع دماؤهم؟ لقد أقرت القمة التي عقدت في الامم المتحدة بمناسبة الالفية الجديدة ميثاقا جديدا، تضمن بندين رئيسيين، هما التدخل الانساني وحق التدخل لحماية السكان في وجه حكوماتهم، لكن منذ تاريخ الاقرار وحتى اليوم لم نلمس اي سلوك اخلاقي او قانوني تطبيقي لهما على ارض الواقع، بل كان الميثاق مجرد استغلال لاستخدام الامم المتحدة غطاء لاضفاء الشرعية على التدخلات في الشؤون الداخلية لدول محددة، بينما تُركت سلطات كثيرة تمارس الخرق اليومي لقواعد المنظمة الدولية وحقوق الانسان بدون اي حساب. وقد تبع هذا الميثاق مبدأ آخر أقرته الامم المتحدة عام 2005 سُمي مسؤولية الحماية، الذي يربط السيادة بمسؤولية الدولة عن حماية السكان، اي من لا يحمي سكانه المدنيين لا سيادة له، وهو مفهوم يقوم على ان سيادة الدولة ليست رخصة او تفويضا مطلقا، ففي الوقت الذي لا يحق لاي دولة ان تتنازل عن مسؤولية حماية شعبها، فمن الاحرى ان لا تقترف هي نفسها الجرائم ضد هذا الشعب، وعندما تفشل دولة ما في حماية شعبها، يصبح للمجتمع الدولي توفير هذه الحماية بالتدابير القسرية، كالعقوبات والملاحقات القضائية الدولية، وان لم تف كل هذه الاجراءات بردع السلطات الباغية يمكن القيام بعمل عسكري جماعي وحاسم ضدها. لكننا لو نظرنا الى تطبيقات هذا المبدأ نجد انه ليس سوى تطويل لذراع المصالح الخارجية الامريكية، وهي من تستخدمه مع حلف الناتو مع او بدون تفويض الامم المتحدة.
احصوا معنا عدد القتلى في العراق منذ تشكيل اول حكومة عراقية بعد الغزو، من الذين قضوا بالتفجيرات والقصف العشوائي الطائفي المليشياوي الحكومي، والتطهير العرقي على يد الجيش وقوات الحشد الشعبي، ستجدونها تفوق اعداد من قُتلوا في رواندا والكونغو والصومال وكوسوفو.. سجلوا شهادات من زُجّوا في السجون العراقية منذ عهد سلطة مجلس الحكم العراقي وحتى نهاية ولاية المالكي، ستسمعون قصصا لم تخطر على بال بشر من تعذيب واغتصاب حتى للرجال، لم يجر شبيه لها حتى في زمن الحكم النازي. لكن لو بحثتم عن اسباب التدخل الامريكي بحجة حقوق الانسان في بقاع كثيرة من العالم، ستجدون ما جرى فيها من قتل واضطهاد وتنكيل لا يساوي عُشر ما فعله الطغاة من حلفائهم، ومنهم طغاة العراق الجديد.
واذا كنا نتحدث اليوم عن الموقف السلبي للامم المتحدة وامينها العام الداعمين لسلطات المنطقة الخضراء في العراق، فيجب ألا ننسى موقف الجامعة العربية وامينها العام، الذي تزامنت زيارته لبغداد على رأس وفد عربي من الجامعة، مع صدور تقرير المفوضية السامية لحقوق الانسان عن العراق. لقد قدم الرجل حسب تصريحاته للتعرف على الاحتياجات العراقية لمساعدته والتضامن معه في مواجهة التهديدات الارهابية التي يتعرض لها، فهل نسي العربي وجامعته العتيدة ارهاب الدولة الذي يتعرض له شعب العراق على يد السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، الذي حرص العربي على زيارتهم وتقديم التهنئة لهم، بمناسبة تسنمهم مناصبهم ومسؤولياتهم الجديدة؟ اننا لا نجد اي معنى او قيمة حقيقية لتقارير تسلط الضوء على معاناة العراقيين قولا لا فعلا، وبصورة مجتزأة لا شاملة، ولا يمكن فهمها الا في اطار تبرئة الذمة من الدم العراقي. واذا كانت بعض المنظمات الحقوقية العراقية في الخارج تطل برأسها وتُصفق وتُهلل لهذه التقارير، فهو للتغطية على فشلها هي الاخرى وقصورها عن اداء دور حقيقي للتعريف بالقضية العراقية. ما قدرة مجلس حقوق الانسان على رد كرامة انسان عراقي اغتصب في السجون العراقية؟ وما فاعلية مشاركات تضامنية حضورها بعدد اصابع اليدين على ارجاع حقوق دماء عراقية اهدرت بدون وجه حق؟

٭ باحث سياسي عراقي

د. مثنى عبدالله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    التعامل العربي والدولي مع العراق مشبوه
    فهل لتدمير العراق خير ومصلحة للعرب
    أما حقوق الانسان فهي لعبة الغرب علينا

    كلمة أخيرة وهي خليها لربك يا مواطن

    ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية