حين أصدر عالم النفس ويلهالم رايش كتابه الشهير بعنوان «استمع أيها الإنسان الصغير» عوقب مرتين من اليسار واليمين ومن الرأسمالية والاشتراكية، واتّهم بخلل عقلي، فمن هو هذا الإنسان الترانزستور الصغير؟
إنه من إنتاج عصرنا الذي حوّل البشر إلى أرقام صمّاء أو إلى استمارات كما يقول كونديرا في مقالة له بعنوان «شفافية الفرد وكثافة الدولة»، فالدولة تزداد غموضا وتتراكم عليها القشور بينما الفرد أصبح عاريا وذا جلد شفاف يشبه «أبوبريص» الذي تظهر احشاؤه لفرط شفافية جلده، وكان هربرت ماركيوز الذي اعتبر أحد محرّضي الطلاب في ثورة مايو/أيار عام 1968 قد عثر على القاسم المشترك بين الاشتراكية والرأسمالية، قدر تعلّق الأمر بالاغتراب، خصوصا في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد»، وهو البعد الاستهلاكي، فقد أفرغت ثقافة الإعلان والاستهلاك الإنسان من جوهره الآدمي وحوّلته إلى اسفنجة لا تفعل شيئا غير الامتصاص وإن أنتجت فهي تنتج ما امتصّته مساماتها وثقوبها ولا شيء آخر.
الإنسان الصغير هو الذي يتفرج على من يصنعون له مصيره، وهو كما تقدمه وسائل التواصل مع الآخرين إنما يعيش قطيعة مع ذاته، وذلك ضمن استراتيجية القطعنة التي احلّت الامتثال مكان العصيان والتمرد، وهناك في الأدب الحديث ظاهرة يمكن رصدها باستقراء معمّق في نصوص شعرية وروائية ومسرحية، هي ظاهرة ما سماه رايش الإنسان الصغير، وعلى سبيل المثال كان الشاعر الأمريكي كمنجز قد قرر كتابة اسمه بحروف صغيرة واستخدم احيانا «ما» التي تستخدم لغير العاقل بدلا من «مَن» اعترافا منه بما أنجزته الرأسمالية من تصغير للإنسان، بحيث أصبح خادما مطيعا لما يخترع وليس العكس، وفي إحدى قصص الكاتب الأرمني سارويان يعيش إنسان وحيد في ناطحة سحاب وعلاقته الوحيدة مع العالم هي من خلال علبة مليئة بأقراص الأسبرين، وقال إنه يستغرب كيف لا يضيع الإنسان على بعد امتار من العمارة التي يسكن فيها لأنه ما أن يقف بجوار ناطحة سحاب حتى يشعر بالضآلة، رغم أنه هو الذي شيّدها.
قبل بروز هذه الظاهرة كان الفرد في النصوص الرومانسية محور الكون ويظن أن الشمس تشرق من أجله فقط، ولو عقدنا مقارنة أولية بين قصيدة للشابي بعنوان نشيد الجبّار «هكذا غنى بروميثيوس «ومطلعها :
سأعيش رغم الداء والأعداء
كالنّسر فوق القمة الشمّاء
وبين ما قاله محمود درويش في إحدى قصائده الأخيرة وهو :
من أنا لأخيّب ظن القدر
أو ما قاله خليل حاوي:
من أنا لأرد النار عنها والدوار
لوجدنا أن هذا التحول من تعظيم الذات إلى الاعتراف بهشاشتها وهامشيتها منذ النصف الأول من القرن العشرين، سببه إدراك الشاعر لحقيقة وجوده في هذا الكون، حيث يمكن لصوت درّاجة نارية أن يسحق صوت الإنسان، كما قال هنري ميلر الذي اضطر ذات يوم إلى الصّمت في ندوة أدبية بانتظار أن يتلاشى صوت الدراجة التي مرت بالقرب من المكان. ولو تذكّرنا اسماء شعراء عرب بالتحديد قتلوا أو عانوا من الفاقة حتى الموت أمثال، محمود البريكان وبدر شاكر السياب وعبد الحميد الديب ونجيب سرور وأمل دنقل، ورحلوا في صمت، لاتضح لنا أن الفرد حتى لو كان مبدعا كبيرا لم يعد لغيابه أي صدى، وإن كان هناك استثناءات كان الموت فيها مغمورا بضجيج الاحتفاء والوداع فهي تكرس القاعدة، لأن المقصود بذلك ليس الشاعر ذاته، بل ما يصاحب صورته ويقترن بها من حيثيات سياسية وإعلامية.
ويحضرني دائما في مثل هذا السياق مرثية سعدي يوسف للسياب، وبالتحديد ما قاله فيها وهو أن الحضارة أوقفت سنتين حتى مات شاعر، فالعالم الذي رحل عنه السيّاب هو عالم متوحّشين وذوي حوافر سادته اللوطي والقواد والقرد المقامر. والزمن الذي كان فيه بمقدور شاعر كالمتنبي أن يقول بأن الاعمى نظرإلى أدبه وأصغى إليه الأصم، أو أن مهمة هذا الكون أن يردد صدى ما يقول، انتهى إلى الأبد، لأنه زمن الناي الوحيد وليس زمن الاوركسترا، وزمن الفرد البطل الذي ينوب عن البشرية في اجتراح المعجزات وليس زمن صوت واحد في صندوق الاقتراع
* * *
بضعة أسئلة طريفة طرحها مؤرخ حول مفهوم البطل، أو الفرد الاستثنائي، منها ما الذي كان سيحدث في أوروبا لو أن تشرشل سحقته سيارة في سن الخامسة، أو لو أن هتلر مات طفلا بالحصبة الألمانية، أو لو أن ستالين قُتل وهو في العشرين من عمره.
بالطبع هذه المتتالية الافتراضية لأسئلة من هذا الطراز لا نهاية لها، ويستطيع مؤرخ آخر أن يسأل ما الذي كان سيحدث في المجال العلمي لو أن اسحق نيوتن مات طفلا وربح اينشتاين ورقة يانصيب بمبلغ كبير أقعده عن مواصلة البحث، لكن نظرية «لو» هذه تتيح للخيال أن يعيد إنتاج التاريخ، وقد ينتهي الأمر إلى مجرد التسلية.
إن سؤال شاعر مثل حاوي: من أنا؟ الذي كرره محمود درويش في أوج سنّي نضجه لم يكن مطروحا في زمن الفرد المولود من تزاوج الأسطورة بالتاريخ، وإن كان المعري قد استبق هؤلاء جميعا في سؤاله الوجودي عن جدوى الحياة والشبه بين صرخة البشير وصرخة النذير، فذلك استثنائي إلى حدّ ما لهذا كان إطلاق النقد صفة فيلسوف الشعراء على أبي العلاء بمثابة افتضاح رؤية غنائية للعالم تعطى حصة الشعر كلها للقلب، وبالمقابل تعطي حصة التفكير للعقل، والحقيقة غير ذلك، فالعقل له عاطفته كما تقول جين أوستن، والقلب يفكر أيضا ومن حاصل جمع الاثنين ينتج الإبداع الباقي.
كاتب أردني
خيري منصور
يا خيري منصور حقيقة عنوان رائع يلخص اشكالية المثقف والسياسي في دولة ثقافة الـ أنا في عصر العولمة وأدواتها التقنيِّة والذي يمثل ثقافة الـ نحن بسبب طابعها التجاري على الأقل من وجهة نظري.
فأنت استخدمت تكنولوجيا بدل الأصل العربي تقنيِّة الذي استوردته لغات الغرب من العربية أيام عزّها، ومن ثم عادت إلينا بأسلوب النقل الحرفي للترجمة (النقحرة) بمصطلح التكنولوجيا، واعتبرت أن اسلوب التصويت والانتخابات من خلال أن يكون للمواطن صوت، ما هي إلاّ معنى من معاني القطعنة.
وبناءا على ذلك أنا لاحظت أكثر من يحارب اللغة الأم هم موظفي شركات الترجمة، والمؤسسات التعليمية المعنية باللغة والترجمة التابعة للدولة بشكل عام، والأنكى بحجة تقليل الجهد عليهم، مع أنّها وسيلتهم للدخل، يعني هو يحارب رزقه بيديه بسبب كسله وعجزه عن تحمّل المسؤولية، فقط لأنّه موظف في الحكومة، ولا يُريد أن يعمل في أوقات الدوام، ومع ذلك يعتبر حاله شريك للدولة في دخلها بسبب كرسي الوظيفة، وبسبب البيروقراطيّة يصبح هذا الموظف هو القانون نفسه، فهو الوحيد الذي له حق تفسير نص القانون حسب رغبته ومزاجيته، من أجل تقليل المسؤولية عليه، فلو اشتغل معنى ذلك هناك احتمال أن يُخطئ، ومن ثم يُعاقب، ومن ثم تأخير ترفيعه أو ترقيته وبالتالي دخله، فلذلك لو قلّل العمل أقل شيء ممكن معنى ذلك، سيحصل على أعلى دخل ممكن، بعدم ترجمة وتعريب العلوم.
دولة الحداثة، دولة ثقافة الـ أنا، التي اسسها السامري نابليون بونابرت (الجيش والأجهزة الأمنية والقضائية) التي اعتمدت اسلوب محاكم التفتيش للنخب الحاكمة الكاثوليكية من أجل فرض ثقافة الـ أنا على الشعب ممن رفض الهروب من الأندلس، من أجل القضاء على أي أثر للدولة الأموية التي أقامها المسلم في شبه جزيرة أيبيريا الأوربية.
العولمة بسبب اعتمادها اسلوب التوطين في الترجمة ما بين جميع لغات العالم(التوطين في اللغة العربية يُسمّى التعريب حيث وطن اللغة العربية يتجاوز حدود سايكس وبيكو) هذه أدّت إلى تعرية الكثير من التناقضات التي كان سببها اعتماد في الدولة البيروقراطية اسلوب الترجمة الحرفية (النقحرة) مثل ترجمة كلمات البيروقراطية بجميع بناتها إن كانت الديمقراطيّة أو الديكتاتورية، فكشفت وعرّت المثقف والسياسي في اساس مفهوم الانتماء وإلى أي لغة ينتمي في فكره، خصوصا وأنَّ الفلسفة تعتبر خلاصة العقل هو من ينتج اللغة ويتحكم فيها وفي معنى المعاني في مفرداتها تحت مسمى “الحداثة”، فمثلا نابليون بونابرت ليس له حق في فلسطين، كي يحق له أن يتنازل عنه لطرف آخر، ويهود فرنسا وأوربا، لا علاقة لهم بفلسطين حتى يحق له أن يعدهم بإقامة دولة ديمقراطية كقومية صهيونية، فاليهودية دين وليست قومية بجميع لغات العالم، وفي اللغة العربية هناك فرق ما بين الابداع وبين الابتداع، ولذلك يجب عودة يهود فرنسا وأوربا إلى بلادهم، أمّا الدين اليهودي والمسيحي والإسلامي فمهد أرضهم هي ما بين وادي الرافدين ووادي النيل.
سبب الضبابية وعدم فهم واستيعاب ما يجري حتى الآن لدى المثقف والسياسي من وجهة نظري، عدم الانتباه إلى أنَّ مفهوم المواطن في وسط العولمة (الذي يمثل ثقافة الـ نحن) يختلف عن مفهوم المواطن في وسط البيروقراطية بجميع بناته الديمقراطية والديكتاتورية (الذي يمثل ثقافة الـ أنا)، والوقت الذي تحتاجه في عصر العولمة لتنفيذ أي مشروع يختلف عن الوقت الذي تحتاجه في عصر البيروقراطية، ولا غبار على كلام ونظريات علماء وفلاسفة أوربا فيما يخص الترجمة في كل ما يخص اللغات التي أساسها التأويل مثل اللغات الأوربية واللاتينية، ولكن هذا لا يعني أنّها تصلح للغات التي اساسها الاستقراء والاستنباط مثل العربية والصينية التقليدية، فكيف الحال بلغة القرآن والتي هي متطورة جدا إلى درجة لا يوجد مترادفات في لغتها ولا يمكن تغيير حركة أو حرف أو كلمة بدل أي شيء فيها، ولذلك ليس هناك ترجمة للغة القرآن، ولكن هناك ترجمات كثيرة لمعاني كلماته، فدعاء يمكن عمله في أي وقت ولأي دين، ولكن الصلاة يجب أن تؤديها يوميا 5 مرات لكي تكون مسلم تؤمن بالله ربُّ الأرباب.
أنا أفرّق ما بين لغة القرآن وبين اللسان العربي، وهناك عدة قراءات بعدّة ألسنة للغة القرآن الكريم معترف بها، ولغة الإنجيل ولغة التوراة تستخدم كلمة الرب والإله ولكن كلمة الله خاصة بلغة القرآن، ومن هذه الزاوية اعترض المسلمون في ماليزيا على غير المسلم في استخدام كلمة الله، وحكمت لهم المحاكم في ماليزيا بذلك، والمعتمد في القرآن هو النص المحفوظ من حافظ إلى حافظ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمّا ما بين يدينا من نصوص القرآن فعباقرة علماء اللغة عندنا اخترعوا طريقة للكتابة خاصة بلغة القرآن لجمع جميع القراءات في نص مكتوب واحد، وهو ما موجود لدينا الآن من كتاب القرآن الكريم.
المشكلة أنَّ أهل الفلسفة أو ثقافة الـ أنا بشكل عام تظن أنَّ الفكر هو من يصنع اللغة، وعلى ضوء ذلك تم بناء ثقافة الدولة، خلاصة العقل أو النخب الحاكمة يجب أن تكون فوق النقد أو القانون والدستور بواسطة “الحداثة” حتى تستطيع أن تبدع وعلى ضوء ذلك تم بناء المناهج التعليمية في الدولة ليتم انتاج “مُبرّر ومُشكّك أو مفاوض”، كما هو حال مفاوضات الكيان الصهيوني بخصوص فلسطين التي تنازل عنها نابليون بونابرت في مفهومه “للحداثة”، فيما وعد به على اسوار عكا، ويجب الانتباه أنهم استخدموا الحداثة وليس التحديث أو التطوير التي تعتمده الآن العولمة ثقافة الـ نحن، ومنهجها أساسه تجاري وليس فكري، وهي تشمل ثقافة الـ أنا والـ آخر وترجمة بينهما للوصول إلى لغة مشتركة يتفق على معنى المعاني فيها من قبل جميع الأطراف للوصول إلى اتفاق للتوقيع عليه، ولكي يكون لنا موقع قدم في العولمة والمنافسة فيها، يجب إعادة صياغة مناهجنا التعليمية لإنتاج “مُنجزي اتفاقيات” وإلّا الإفلاس.
فالعولمة فرضت تحديات جديدة، والإداري الناجح يعرف أنَّ هناك فرق وتمييز ما بين إدارة المشاريع في الحكومة شيء والقطاع الخاص شيء آخر، فإشكالية الإشكاليات في النظام البيروقراطي، عندما يصبح موظف الدولة يظن أنّه شريك مع الدولة بسبب كرسي الوظيفة، وكأنّه يعمل في أجواء القطاع الخاص، وليس القطاع الحكومي، ومن هنا يكون مدخل الفساد في أي وسط، لتبرير وتحويل اشكالية أي مشروع في أحد أركانه الثلاثة، إن كان من ناحية زيادة التكلفة أو الوقت المتأخر أو رداءة الجودة، بتبريرات ليست صحيحة، أو تشكيك بدون اسس منطقية أو موضوعية، من أجل زيادة نسبة حصته من عائد المشروع إلى جيبه الخاص، حيث هذا كان هو السبب الرئيس في انهيار نظام الديون للمصارف/البنوك العالمي عام 2008، فمن له الرغبة في إفلاس وانقراض النظام العالمي ولغته الأم.
ولذلك من وجهة نظري يجب تغيير مناهج التعليم في دولة الحداثة أو الفلسفة أو الفكر، حيث ثبت أنّها لا تصلح في أجواء العولمة التي اساسها التجارة أو الحكمة أو اللغة، مناهج التعليم الحالية تُنتج مواطن يُجيد التفاوض من خلال التشكيك أو التبرير لأجل التفاوض، كما هو حال مفاوضات الكيان الصهيوني مع السلطة الفلسطينية بلا أي اهتمام بالوقت وقيمته الاقتصادية، والتي في عصر العولمة أصبح عامل الوقت مهم جدا، ولكي تنجح في المنافسة في أجواء العولمة، عليك أن تكون اسرع من الآخرين في انجاز اتفاق مع الآخر، ولكي تستطيع الوصول إلى ذلك يجب أن تجد لغة مشتركة معه لرفع أي سوء فهم قبل الآخر للفوز بالعقد لتغطية مصاريفك على الأقل، وإلا فمصيرك الإفلاس أو الانهيار كما حصل مع إفلاس وانهيار نظام الديون المصرفية/البنكية عام 2008، حيث لا مكان لأي طرف يرفض التعامل بشفافية ومصداقية في أجواء العولمة وتقنية آلاتها التي لا تستطيع العمل بدون لغة المنطق والموضوعية.
ما رأيكم دام فضلكم؟