تمثال بورقيبة ورخام تالة: رمزية صورة تغيبُ عن حكومة فاشلة تستنجدُ بالأرشيف الوطني

كثيرة هي المشاهد الآنية في تونس التي تدفع باتّجاه النّظر والتدقيق وتمدّك بسرديات قصصية قد تجد نفسك تبحث فيها عن إضافة تحليلية وتأويلية. ولعلّ الأهم ضمن هذا السياق أن تقدّم طرحا مختلفا، إن لم يكن بعيدا كل البعد عن الغوغائيات المكشوفة، التي يردّدها محبّو تقريب المكروفونات والباحثون عن ضجيج دعائي زائف ودعاية إعلامية زائلة، إن لم تكن رخيصة معطى وثمنا. 
ما أراه في تمثال بورقيبة سخرية تاريخ يعيده تجّار السياسة، الذين يبحثون عن رصيد أرشيفي وطني، قد يكسبهم بعض النّقاط السياسية، ضمن معطيات الحكم وحصد المكاسب، ولا شيء يهمّهم غير ذلك، ويغيب عنهم إمكان الاقتدار في استيعاب ألف باء الفكر الديمقراطي وتكريس آليات حكم عادلة وقانونية خالية من ضروب المحسوبية والرشاوى وأشكال الفساد المختلفة. 
يُحاط هذا التمثال بقطع رخامية استقدمت من أفقر جهات البلاد: «تالة» ، تلك المدينة الضّاربة في القدم الحضاري، التي صنعت ثورات تونس عبر تاريخها منذ عهد البايات، وهي مدينة ضمن محافظة القصرين التي همّشها بورقيبة مثل باقي الجهات الداخلية للبلاد، وأشرف على هندسة تفقيرها ونهب خيراتها، لتتواصل عملية السّرقة المُمنهجة إلى الآن، وقد لا نجد توصيفا غير ذلك، في الوقت الذي تُحرم فيه مثل هذه الجهات من خيراتها التي تُنتزع من أمامها وتُستنزف قسرا، من دون أن يطالها منها شيء يمكن أن يغيّر تنمويّا من وضع جهات تعاني الفقر المُدقع وغياب أبسط المشاريع التشغيلية، وهي مأساة يعيشها أبناؤنا ويزداد حقدهم على السياسة والسياسيّين يوما بعد يوم، الأمر الذي ينبئ بانفجار ثوريّ حقيقيّ في أيّ لحظة يكنُس الفساد والفاسدين، ويعيد الاعتبار للفرد المواطن في كلّ جهات البلاد.
ينتصب هذا التّمثال ويُشيّد بسياج رخاميّ من تلك الجهة التي لم يقدّم لها نظام الحكم البورقيبي شيئا يُذكر، وكان خلفه بن علي على العهد هو الآخر، ضمن سيرة مشبوهة ومكروهة عمّقت التفاوت الجهوي المفضوح وخلّفت نعرات جهوية، نتيجة الفعل السياسي غير المدروس، الذي راهن على سياسة المركزية القاتلة لفعل التّماسك الاجتماعي والشّارخة لمُعطى التّجانس الوطني. وإلى أيّامنا هذه تتواصل سياسة التّهميش المُمنهج للجهات الداخلية للبلاد، رغم أنّها من صنعت الثّورات وقلبت الطاولة على أعتى النُّظم الديكتاتورية، بالمفهوم الأمني الاجتماعي لا الفكري السياسي.
وقد يزيد المسار الوطني تعقيدا افتقار الحالة السياسية التونسية إلى الفكر السّياسي الحقيقي نظريا وعمليا، الذي يحمل مشروعا وطنيّا جامعا من شأنه أن يحدّ من التفاوت الجهوي ويخطو خطوة التّمييز الإيجابي، التي نُصّت في الدستور القائم، محاولة لدرء أخطاء العقود الماضية لأنظمة الحكم،   ورغبة في جسر الهوّة بين محافظات البلاد، وخلق حالة اجتماعية تكافليّة تبقى مرجّحة للتّفعيل والنجاح، لولا غباء السّياسيين والحكّام المتتالين، خاصّة أنّ ما يكفل سُبل نجاحها، غياب النّعرات الطائفية والمذهبية في الحالة الوطنية التونسية، التي تمتاز بتجانس في مستوى الهوية، الأمر الذي أهّلها لأن تكون هوية وطنية جامعة، رغم  تكديرها جهويا من قبل الحكّام المتعاقبين، عبر مواصلة سياسة مركزة المشاريع الكبرى، وترك المحافظات الدخلية للبلاد نسيا منسيا.. وقد لا نستغرب ذلك والبارونات الفاعلة اليوم في الوسط السياسي تندفع بنهم نحو تحصيل المكاسب المادية، وتُكرّس الفساد الإداري والمالي من لحظة اشتغالها بالدّعاية الانتخابية، إلى مشوار مباشرتها لشؤون الحكم، وهي مأساة السياسة والسياسيين في تونس، التي تزيد من حقد الفئات الواسعة من الشعب التونسي، تلك التي تدرك مثل هذه الممارسات البارونية والمافيوزية. وقد عبرت جهة القصرين في الأشهر الماضية عن رفضها للوضع القائم، وتحرّكت بقوّة احتجاجية شبابية، أخمدتها بعد ذلك المناورة السياسية الانتهازية والوعود الكاذبة لحكومة النّفاق، التي ساومت الجماهير المُحتجّة في تلك اللّحظات بين الهدوء والأمن أو خطر الإرهاب المتربّص.  واليوم تزداد الحالة الاقتصادية تعقيدا ونكتشف يوما بعد يوم الأخطاء الكارثية، بحجم الجرائم الكبرى التى اُرتكبت في حق البلاد والعباد، خاصة  منها القروض التي لم تدخل لخزينة الدولة التونسية ووزّعت تحت أشكال مختلفة، منها التعويض عن النضال، والدولة مطالبة اليوم بإرجاعها بشروط مجحفة، وذاك غيض من فيض ضمن مسيرة مُراهقة سياسية تداولتها شخصيّات أبعد ما تكون عن فعل الحكم السليم والتدبير الصحيح لشؤون الدولة ودواليبها.
ربّما الحالة العربية الرّاهنة غير مؤهّلة في كلّيتها لتمثّل الفعل الديمقراطي وهي حالة شعوب لم يكتمل نضجها الثقافي، وواقع نخب سياسية حاكمة غير مؤهّلة ولا مقتدرة فكرا وعملا، فالواقع العربي المأزوم  كثيرا ما عمّق تأزّمه انشطاره إلى قسمين، قسم السلطة ومحابيها وزبانيتها والمدافعين عنها وأبواق دعايتها، وقسم مناضلين أحرار بمواقفهم وأفكارهم ومساعيهم للتغيير، ولمّ شتات الأمّة الذي مزّقته الأنظمة الديكتاتورية العربية باستعمارها الداخلي اللّعين لشعوبها. ولكن النّموذج التونسي يبقى مؤهّلا نظريا لحياة ديمقراطية بعد الخطوات الأولى المحورية التي أسقطت صنما من أصنام هاته الأنظمة، وعلى أنقاضه تثبّت مؤسّسات الدولة من جديد، ولكنّنا بحاجة إلى خطوات أخرى لتصحيح مسار الثورة ومعالجة الفكر السياسي، والحد من انتهازية النخب الحاكمة وجشعها اللاّمحدود. فلا بديل اليوم عن إصلاحات جذرية لصالح الشعب كحقوق مكتسبة قد ينفد صبره وهو ينتظرها ويلوّح بهبّة شعبيّة في أيّ لحظة.
 ذاك تقدير يزيدنا تأكيدا على حاجتنا لرجال دولة حقيقيين أصحاب مشروع وطني فاعل يستوعب متطلّبات اللّحظة الثّورية ويخدم الوطن والمواطنين، ويقدّس مُعطى السيادة الوطنية في عالم تفاقم فيه الجشع والطغيان الإمبريالي، الذي لا يحترم إرادة الشعوب المتطلّعة إلى الديمقراطية وتبقى خطاباته زائفة مناورة و«سوقها نافقة» تخفي تشدّدا وتصلّبا في المصالح لا محيد عنه.

٭ كاتب تونسي وباحث في الحضارة

تمثال بورقيبة ورخام تالة: رمزية صورة تغيبُ عن حكومة فاشلة تستنجدُ بالأرشيف الوطني

لطفي العبيدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية