لندن ـ «القدس العربي»: في كل أنحاء «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا أقام تنظيم الدولة نظاما بيروقراطيا عنيفا يهدف لتحصيل المال من السكان الذين يخضعون لسيطرته سواء كان هذا بالدولار الأمريكي أو الدينار العراقي أو الليرة السورية.
وبحسب مقابلات أجرتها صحيفة «نيويورك تايمز» مع عشرات من السكان الذين يعيشون داخل أراضي ما يعرف بـ»تنظيم الدولة» أو فروا منها قبل فترة، بالإضافة لمسؤولين غربيين وشرق أوسطيين يراقبون حركة المال في مناطق التنظيم وكلهم وصفوا نظاما يقوم على أخذ الضريبة عن المركبات التي تمر عبر الحدود أو الطرق التي يسيطر عليها ومخالفات السير، ويقوم بتأجير مباني الحكومة ويحصل فواتير الماء والكهرباء، من ضريبة الدخل، الضريبة المفروضة على المحاصيل والمواشي، مخالفات التدخين وارتداء الزي المخالف للزي المعمول به في مناطق «الدولة».
ويقدر مسوؤولون أمريكيون وغربيون المال الذي يتم تحصيله من هذا كله بملايين الدولارات التي تدخل خزينة الجهاديين في الشهر وتصل إلى مليار دولار في العام. ويقولون إن عائدات الضريبة والمخالفات هذه لم تطلها العقوبات المفروضة على حركة المال من وإلى مناطق التنظيم.
مصادر متعددة
وكانت قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة قد شنت بعد هجمات باريس في 13 تشرين الثاني/نوفمبر سلسلة من الغارات التي استهدفت مصافي النفط السورية التي يستخدمها «تنظيم الدولة» لبناء مملكته المالية والإنفاق على الجهود الحربية والإدارية.
وبحسب لويز شيلي، مدير مركز الإرهاب والجريمة العابرة للحدود والفساد في جامعة جورج ميسون الأمريكية «يخوضون المعارك في النهار ويجمعون الضريبة في المساء».
وتعتبر العائدات التي يحصلها الجهاديون خلافا للرؤية التي تكونت عنهم، حيث ظل الحديث عن ثروة التنظيم أنها جاءت من خلال تهريب النفط والسطو على المصارف واختطاف الأجانب وتحريرهم، مقابل فدية والحصول على تبرعات من أثرياء الخليج، وكل هذا جعل التنظيم من أكثر التنظيمات ثراء في التاريخ.
ولكن المسؤولين الغربيين والشرق أوسطيين حصلوا على معرفة أعمق خلال العام الماضي عن مصادر التنظيم المالية ويتفقون على أن المصدر المالي له هم السكان الخاضعون لحكمه والأعمال التي يديرها الجهاديون.
وتشير الصحيفة للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة باستهداف البنية التحتية للجهاديين، فقد استهدف الطيران الأمريكي هذا الشهر قافلة من الشاحنات المحملة بالنفط في شرق سوريا ودمرت 116 شاحنة. ويعتقد المسؤولون أن تدمير الشاحنات لن يؤدي لإفلاس التنظيم الذي يستطيع تغطية خسائره النفطية بسبب سيطرته على مناطق واسعة في العراق وسوريا، ويدير مدنا بكاملها في هذين البلدين.
ووصف سيث جونز، الخبير في مجال الإرهاب بمؤسسة «راند» الأمريكية الضربات الجوية لعصب التنظيم الاقتصادي مثل منشآت النفط بأنها مثل الوخزات، ولن تترك أثرا عليه إلا بحرمانه من القاعدة الاقتصادية التابعة له أي طرده من المناطق الخاضعة له.
ففي داخل هذه المناطق تمارس البيروقراطية الجهادية مهمة الدولة التي كانت تدير المؤسسات قبلها. وتشرف على عمليات جمع المال مستخدمة في هذا المجال التهديد والعنف، من أجل انتزاع ما يمكن انتزاعه من الناس والمحلات والممتلكات التي تتحكم بها.
ففي محلة باب الطوب فيالموصل حول الجهاديون مبنى كان مركزا للشرطة وبني في القرن التاسع عشر أثناء الفترة العثمانية إلى مركز للتسوق يحتوي على 60 صالة تباع فيها الفواكه والخضار. ويبلغ سعر الصالة الواحدة 2.8 مليون دينار في السنة (أي 2.500 دولار أمريكي تقريبا).
دواوين الخدمات والركاز
وفي السياق تقوم دائرة الخدمات بمدينة الرقة التي تعتبر العاصمة الفعلية للتنظيم بإرسال مسؤولين للأسواق في المدينة لجمع ضريبة نظافة.
وهي مبلغ يتراوح ما بين 2.500 ـ 5.000 ليرة سورية (7- 14 دولار أمريكي) في الشهر حيث تعتمد الضريبة على حجم المحل التجاري. وحددت «الدولة» مناطق لدفع الفواتير، حيث يذهب السكان إليها لدفع فواتير الكهرباء والماء وهي: 800 ليرة سورية (2.50 دولار أمريكي) للكهرباء و400 ليرة سورية (1.20 دولارا أمريكيا) للماء.
وهناك دائرة أخرى اسمها «ديوان الركاز» ويشرف على بيع النفط وتهريبه ونهب المناطق الأثرية وعدد آخر من المصادر التي يسيطر عليها الجهاديون.
ويشرف الديوان على مصانع تعبئة المياه والمشروبات الغازية ومحلات لبيع الفراش وشركات بيع الهواتف النقالة والرخام والإسمنت والمصانع الكيميائية.
ويحصل التنظيم منها على نسبة مالية.
كما ويقتطع حصة من الأعمال الصغيرة. وبحسب طارق وهو سوري من بلدة الباب قرب حلب يدعم نظام بشار الأسد ويعيش الآن في بيروت «إما ندفع زيت الزيتون أو نقدا».
لا يحبون الضريبة
ويرفض الجهاديون استخدام مصطلح الضريبة ويفضلون كلمة «زكاة» وهي الكلمة الشرعية. وبحسب الشرع الإسلامي يقتطع من ثروة الشخص نسبة 2.5٪ إلا أنهم يحصلون على نسبة 10٪ ويبررون النسبة العالية بالقول «نحن أمة في حالة حرب» بحسب أبو معاذ الصحافي من مدينة الرقة.
وتضيف الصحيفة أن التنظيم يسيطر على جمع الرسوم المستحقة على تسجيل أرقام السيارات ويجبرون الطلاب على دفع رسوم الكتب المدرسية، بل وخالف التنظيم السائقين لأنهم ساقوا سياراتهم من دون أضواء خلفية.
وفرض عقوبات على من يتجرأ ويخرق القوانين التي تحرم التدخين. فمثلا أمر محمد حامد (29 عاما) من الموصل بدفع 50.000 دينار عراقي (40 دولارا) بالإضافة لتلقيه 15 جلدة. وهو ما دعاه للهرب مباشرة إلى مناطق الأكراد.
وبناء على هذا الكم من الضرائب ومصادر الدخل التي يتحكم بها الجهاديون يقدر مسؤولون غربيون أنهم يجمعون ما بين 800-900 مليون دولار أمريكي.
وهذا بالإضافة إلى عائدات تهريب النفط المالية والتي تقدر بحوالي 500 مليون دولار. ويحصل التنظيم على عشرات الملايين من الدولارات من عمليات الاختطاف.
ويعتقد انه قام بنهب مليار دولار من مصارف المدن التي احتلها منها 675 مليون دولار من مصرف في الموصل وحده.
ومع ذلك فالمعلومات التي تم الحصول عليها من المنشقين أو التنصت عليها أو من خلال مداهمات مواقع تابعة للتنظيم أتاحت للمسؤولين تشكيل صورة شاملة عن العمليات المركزية للتنظيم، كما يقول مسؤول أوروبي.
ويرى دانيال بنجامين الخبير السابق في مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية أنه لا يمكن التعامل مع «تنظيم الدولة» كبقية الجماعات الإرهابية، في ضوء طموحاته ومستوى عملياته.
ويمكن تشبيهه بالجماعة الكولومبية «فارك» التي أقامت شبه دولة على مناطق واسعة بحجم سويسرا. ولكنه أضاف أن نموذج تنظيم «الدولة» في الإدارة المالية لا يمكن الحفاظ عليه لمدة طويلة.
ويعتقد أن الطريقة التقليدية التي استخدمها الغرب وأمريكا لحجب الدعم المالي عن تنظيم «القاعدة» من خلال تجفيف منابعه المالية في دول الخليج، لا يمكن أن تنجح مع «تنظيم الدولة» الذي يحصل أمواله من الداخل ولا يعتمد على التبرعات الخارجية، كما يقول دانيال غليسر ـ مساعد وزير الخزانة الأمريكية لشؤون تمويل الإرهاب.
وعليه حاولت الولايات المتحدة وقف عمليات التبادل التجاري بين تنظيم الدولة والجهات التي تقاتله. فهو يتعامل مثلا مع تجار أفراد في مناطق الأكراد ومع حكومة بشار الأسد التي يبيعها النفط.
ولهذا السبب أصدرت وزارة الخزانة قرارا بفرض عقوبات على سلسلة من الأشخاص الذين يتعاملون ماليا مع «تنظيم الدولة».
ويفترض المسؤولون الأمريكيون قيام التنظيم بنقل المال من وإلى مناطقه. وعبر المسؤولون عن قلقهم من تجارة العملات والتحويلات المالية في جنوب تركيا الذي يقوم التنظيم من خلالهم بعمليات تبييض الأموال.
وتحدث المسؤولون الأمريكيون عن مدينة غازي عينتاب كنقطة عبور للجهاديين، عندما أعلنت وزارة الخارجية عن جائزة مقدارها 500 مليون لمن يقدم معلومات عن طراد الجربا أو أبو محمد الشمالي الذي تقول أمريكا أنه يدير شبكة عمليات لوجيستية وتنسيق عمليات التهريب والتحويلات المالية وحركة الإمدادات إلى العراق وسوريا.
ويعتقد المسؤولون أن وقف كل هذه النشاطات لن يتم من دون استعادة المناطق الخاضعة له. وبحسب مسؤول بارز «الطريق الأكيد لحرمانهم من ثروتهم هو أخذ قاعدتهم التي يحصلون منها على العائدات».
إغلاق الحدود
وفي هذا السياق ترى الحكومة الأمريكية أن أهم خطوة لوقف نشاطات التنظيم تأتي من خلال إغلاق الحدود التركية وتمتين الحصار على التنظيم.
وذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» أن واشنطن بعثت برسالة شديدة اللهجة للحكومة التركية تطالبها بإغلاق منطقة حدودية طولها 60 ميلا، وهي المنطقة الوحيدة التي بقيت متاحة لـ«تنظيم الدولة».
وبحسب الرسالة الأمريكية «هذا تهديد دولي قادم من سوريا وقادم عبر الأراضي التركية». وفي حالة أغلقت كامل الحدود التركية مع سوريا وطولها 550 ميلا فستكون ضربة قاسية للتنظيم الجهادي.
وتقدر الولايات المتحدة عدد الجنود الواجب نشرهم لتأمين الحدود ما بين جرابلس على الفرات وبلدة كلس التركية بحوالي 30.000 جندي تركي.
ويقول المسؤولون الأمنيون الأمريكيون أن المنطقة التي يستخدمها الجهاديون للمرور من وإلى سوريا تمتد من جرابلس وكوباني.
وأصبحت المنطقة حيوية بعد سيطرة قوات الحماية الشعبية على بلدة تل أبيض التي كانت المعبر الرئيسي للجهاديين.
وكانت الحكومة التركية قد توصلت لاتفاق مع أوروبا حول منع تدفق اللاجئين السوريين إلى أوروبا. وفي سياق مختلف قال شين هاريس من موقع «دايلي بيست» أن الأسرى الذي تم اعتقالهم بمساعدة من القوات الخاصة الأمريكية تم تسليمهم للأكراد حيث يعذبون.
تعذيب أسرى «الدولة»
وأشار التقرير إلى العملية المشتركة التي قامت بها قوات الكوماندوز الأمريكية والمقاتلين الأكراد في 22 تشرين الأول/أكتوبر على بلدة الحويجة، حيث تم تحرير أسرى كانوا بيد مقاتلين تابعين للتنظيم. وبحسب التقرير لم يكن من الأسرى الـ69 الذين تم تحريرهم أي كردي.
ومع الأسرى المحررين اعتقل الأكراد ستة من مقاتلي «تنظيم الدولة». وبحسب مسؤولين أمريكيين وعمال إغاثة في المنطقة يتم تعذيب هؤلاء على يد الأكراد.
ونقل عن مسؤول دفاعي أمريكي قوله «أنا متأكد من أنهم يتعرضون للتعذيب، لا مجال للشك».
ولاحظ أن الأمريكيين لا يتصلون بهم ولكنه أضاف «يجب أن تتذكر أين نحن، فالتعذيب منتشر».
ويقول الموقع إن وحشية الحملة الكردية ضد «تنظيم الدولة» معروفة، لكن المسألة لا تتعلق بمعارك وإنما بنقل معتقلين تم اعتقالهم بمساعدة أمريكية، وهو ما يذكر ببرنامج الترحيل القسري في ظل إدارة بيل كلينتون وجورج دبليو بوش، حيث تم نقل معتقلين يشبته بعلاقتهم بالقاعدة إلى دول تمارس التعذيب لانتزاع اعترافات منهم.
ويقول عامل إغاثة في المنطقة إن السلطات الكردية لم تكشف عن مكان اعتقالهم لاعتقاده أنهم يتعرضون للتعذيب.
ويشير الكاتب إلى أن منظمات حقوقية في العراق وسوريا وثقت ممارسات المقاتلين الأكراد في المناطق التي استردوها من «تنظيم الدولة» والتي شملت تهجير سكان، فيما ترى منظمات حقوق الإنسان أنها جرائم حرب.
ونقل الموقع عن مسؤولين أمريكيين قولهم إنهم لم يطلبوا معلومات عن مكان اعتقال السجناء، كما أن المسؤولين العسكريين في العراق لم يطرحوا موضوعهم بشكل رسمي. وقال مسؤول إن «مصير حفنة من مقاتلي «تنظيم الدولة» ليس على جدول أولوياتنا».
ويضيف الكاتب أن لا أحد يذرف الدموع على مقاتلي تنظيم «الدولة» الذين احتفلوا بقتل وذبح وحرق وإغراق الأسرى الذين وقعوا في أيديهم.
ولكن تعذيب مقاتلي «تنظيم الدولة» قد يتحول إلى اداة دعائية يستخدمها التنظيم، ما يعني تبرير أفعاله المنحرفة ضد الأسرى.
ويقول الموقع إن هجوم الحويجة الذي شاركت فيه القوات الأمريكية سيرتبط بالحكومة والجيش الأمريكيين. ويستخدم «تنظيم الدولة» في دعايته صور التعذيب وأساليب وكالة الاستخبارات الأمريكية ـ سي آي إيه ـ قبل قطع رأس الصحافي الأمريكي جيمس فولي في عام 2014.
وعرض السجان التابع للتنظيم فولي لأسلوب الإيهام بالغرق والذي استخدمه المحققون الأمريكيون مع معتقلي «القاعدة». ويستخدم التنظيم الزي البرتقالي مع الرهائن وهو الزي الذي استخدم في سجن غوانتانامو.
وتحولت ممارسات الأمريكيين في تعذيب معتقلي «القاعدة» لأداة قوية لتجنيد الأتباع لهم. ومع أن منظمة الصليب الأحمر يجب حسب القانون الدولي السماح لها بزيارة السجناء ولا يبدو هذا واضحا في حالة سجناء «تنظيم الدولة».
ونقل الكاتب عن مسؤول في حكومة إقليم كردستان قوله إن «الأفراد معتقلون في كردستان ويتم التعامل معهم».
وعندما سئل إن سمح للصليب الأحمر بزيارة أفراد «تنظيم الدولة» المعتقلين أجاب بأن المنظمة يسمح لها بزيارة كل معتقلي التنظيم في كردستان «ويحصلون على العناية حسب القانون المحلي والدولي»، ولكن من الصعب التأكد من كلامه لأن الصليب الأحمر لم يؤكد أو ينف. ونقل عن متحدث تريفور كيك، المتحدث باسم المنظمة قوله إن الصليب الأحمر يقوم بزيارة المعتقلين من أجل مراقبة وضعهم وتوفير الأحتياجات لهم و»في العراق يزور الصليب الأحمر 40.000 معتقل في أكثر من 60 مكان اعتقال كل عام» ونظرا للطبيعة الخاصة للمفاوضات بين المنظمة والسلطات المعنية «فلا نعلق على هذه الحالات، أو معتقلين بعينهم» كما يقول. وكان الصليب الأحمر قد زار زوجة أبو سياف، أم سياف التي أسرتها القوات الخاصة في دير الزور بعد مقتل زوجها واحتجزت في قاعدة عسكرية أمريكية بالعراق. وبحسب المسؤولين فقد قدمت المرأة والتي تحمل الجنسية العراقية معلومات مهمة عن شبكة «تنظيم الدولة» المالية.
ولكن القوات الأمريكية نقلت أم سياف إلى سجن كردي. ولم تعلق الحكومة الأمريكية على وضع سجناء «تنظيم الدولة» حيث قال مسؤول «ليست لدينا معلومات تقترح أن سجناء «تنظيم الدولة» عوملوا بطريقة سيئة في كردستان العراق» وأضاف «ومع ذلك فنحن نتعامل مع المزاعم بجدية ونتوقع من شركائنا الأكراد الالتزام بالقانون الدولي».
إبراهيم درويش