أثارت تصريحات وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر لشبكة «سي أن أن» الأمريكية (23/5/2015) حول غياب الدافعية القتالية للجيش العراقي جدلا كثيرا. وأعطت تصريحاته رؤية عن الطريقة التي تتعامل فيها الإدارة الأمريكية مع الوضع القائم في العراق. ورغم محاولة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن تطمين القيادة العراقية في مكالمة مع رئيس الوزراء حيدر العبادي أثنى فيها على تضحيات الجيش العراقي وكفاءته إلا أن تصريحات كارتر هي انعكاس لموقف الرئيس بارك أوباما نفسه. فقبل أيام صدرت عنه تصريحات مماثلة وذلك في مقابلة مع جيفري غولدبرغ من مجلة «ذا أتلانتك» (21/5/2015) والتي قال فيها معلقا على العراق وانتصارات تنظيم الدولة الإسلامية الأخيرة «إن لم يكن العراقيون مستعدون للدفاع عن أمن بلادهم فلن نكون قادرين على عمل هذا لهم». وتتساوق التصريحات مع رؤية أوباما العامة التي طرحها في مقابلة أخرى مع توماس فريدمان من صحيفة «نيويورك تايمز» حول علاقة الولايات المتحدة مع المنطقة وتقديم الدعم للحلفاء دونما التورط في حروب طويلة ومكلفة. ولا يمكن فصل هذا عن لعبة التلاوم والتحلل من المسؤولية خاصة أن معظم المعلقين الأمريكيين حاولوا التركيز على الجهود الأمريكية لبناء الجيش العراقي والذي أنفقوا 25 مليار دولار على تدريبه وإعادة تدريبه. وظهر في بعض تغطيات صحيفة «واشنطن بوست» حديث عن تقصير الحكومة العراقية في إمداد الجيش العراقي المرابط في الرمادي بأسلحة وإمدادات عسكرية.
والسؤال ماذا تعني انتصارات الجهاديين الأخيرة لأنفسهم وللعراق وسوريا والولايات المتحدة؟ إنها تلقي ضوءا على الزخم القتالي الذي يتميز به التنظيم وقدرة جنرالاته على إدارة الحرب والذين قال جون ماكليري في «فورين بوليسي» (26/5/2015) إنهم تعلموا في مدرسة الجيش العراقي الذي حله بول بريمر عام 203، فهؤلاء صهرتهم تجربة المقاومة ضد الأمريكيين ويعرفون تضاريس محافظة الأنبار ولديهم معرفة بالقبائل التي يمكن التعاون معها والتي يجب معاقبتها. ولهذا كانوا ناجحين في تحديد استراتيجيتهم والتخطيط للمعركة سواء على الرمادي أو تدمر. فهم يختارون الزمان المناسب ثم يضربون بقوة وبدون رحمة مما دفع القوات العراقية والسورية الهروب أمامهم.
إنس الموصل
ومثلما تعبر أزمة الرمادي عن نكسة للاستراتيجية الأمريكية فهي تعبر عن نكسة لاستراتيجية حيدر العبادي الذي كان يأمل في الوصول إلى الموصل قبل رمضان لكنه على ما يبدو لن يصل إليها قريبا. وما يهم فيما جرى هو انعكاسات سقوط الرمادي على المشهد العام في العراق وعلى تنظيم الدولة نفسه الذي سيواجه على المدى البعيد العديد من التحديات للحفاظ على «الخلافة» وتوفير الأمن والخدمات للسكان الذين يحكمهم. وحتى هذا الوقت فسجل التنظيم ليس جيدا في الحكم. وفي تقريره الذي نشرته مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» عرض نيكولاس بيلهام تساؤلات سكان الموصل عن الأموال التي يجنيها التنظيم من مصادر مختلفة والتي لا تنعكس بالضرورة على حياتهم اليومية حيث يكافحون من أجل البقاء.
الحشد الشعبي
وحتى الآن أدت الأزمة لاستعانة حيدر العبادي بالميليشيات الشيعية المدعومة من إيران ولقلق السنة في الأنبار. وبدخول هذه القوات المعروفة بالحشد الشعبي تدخل إيران مناطق السنة حيث كان لافتا تصريحات قائد فيلق القدس، اللواء قاسم سليماني الناقدة للولايات المتحدة. وبحسب التقارير الأمريكية فقد ربطت واشنطن موافقتها على مشاركة الحشد الشعبي بأن يكون تحت قيادة العبادي وإمرته. وفي الوقت الذي ستعطي فيه واشنطن الغطاء الجوي لعملية الأنبار إلا أن «الغطاء السني» لدخول الحشد الشعبي يظل محلا للجدل. فقد قيل إن مجلس محافظة الأنبار وبعض القبائل السنية هي من طلبت مساعدة الحشد الشعبي. لكن تقرير إريكا سولومون في «فايننشال تايمز» (28/5/2015) كشف عن خلافات بين عشائر السنة وقالت إن «هناك انقساما مريرا بين عشائر السنة العراقيين حول كيفية استرداد غربي الأنبار وعاصمة المحافظة الرمادي التي سقطت قبل أسبوعين بيد تنظيم الدولة. وكان يلوح بتلك العشائر سابقا على أنها قادرة على مواجهة تنظيم الدولة أصبحت ممزقة ومختلفة فيما بينها وداخلها». وأشارت لنظرة الكثير من السنة للحشد الطائفي باعتبارها قوة طائفية. ونقلت عن الشيخ زياد السليمان من مشايخ عشائر البو عساف: «الحشد وتنظيم الدولة وجهان لعملة واحدة فكلاهما ينهب ويحرق بيوت السنة ويقتل شبابنا وقياداتنا. وحتى لو أعطتنا حكومة الولايا ت المتحدة المزيد من الأسلحة والأموال لن أعمل مع الحشد.. فهذه الميليشيات هي مدخل إيران للسيطرة على بلادنا». ولهذا حذرت صحيفة «التايمز» البريطانية (27/5/2015) في تقرير لها من «حرب طائفية تلوح في الأفق» ونقلت عن محللين قولهم إن دخول الحشد الشعبي يعبر عن تحول في السياسة العراقية من الإعتماد على الولايات المتحدة إلى تعاون أكبر مع إيران. ورغم الحماس الذي شاب تصريحات العبادي والمتحدثين باسم الحشد الشعبي عن دخول الرمادي في أيام إلا أن المعركة على ما يبدو ستطول.
ديمومة النجاح
رغم ما قيل عن عودة الزخم لتنظيم الدولة الإسلامية وتصريحات «الخبراء» عن قدرته على سحق أعدائه إلا أن صحيفة «الغارديان» البريطانية علقت في افتتاحية يوم (26/5/2015) على إنجازات التنظيم والتي قالت إنها «باهرة ولكنها ليست دائمة» وقالت إن غزو كل من الرمادي وتدمر كان «نصرا دراميا مزدوجا لتنظيم الدولة، ولكن جدية وديمومة مكاسبه هي أمر آخر». وأضافت ان «استعادة وحدات الجيش العراقي والميليشيات الشيعية قد يتم على حساب تدميرها بالكامل. وفي الوقت نفسه ففرص استعادة الحكومة السورية مدينة تدمر- البلدة البعيدة والمهمش سكانها أكثر ضآلة. وبلا شك تستطيع الحكومة أن تشن غاراتها من الجو بأثر مدمر مثل ما سيجري في الرمادي». وأكدت أن تفوق تنظيم الدولة جاء نتاجا لضعف الجيشين العراقي والسوري وطريقة الجهاديين في إدارة الحرب حيث يجمعون ما بين مهارات قوات المشاة الخفيفة، الشجاعة، الحركة السريعة، تضحيات شرسة أثناء الهجوم ووحشية مقصودة فيما بعد المعركة. كما أن نجاح التنظيم حدث بسبب انقسام كل من العراق وسوريا. فهما لا يعانيان من انقسامات بين السنة والشيعة أو بسبب الحرب الأهلية ولكن بين القبائل والمدن والطبقات التي تجد صعوبة في التعاون حتى من خلال التنوع. وتعتقد أن تنظيم الدولة يعاني من ضعف مثلما يعاني أعداؤه. فهي تقول «يمكن لتنظيم الدولة الإسلامية أن يتحرك بسرعة عبر الصحراء ويقتل الناس ولكنه سيدمر في النهاية القاعدة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات التي يحاول السيطرة عليها. ورغم اسمه فلن يكون قادرا على بناء دولة، فعاجلا أو آجلا سينحرف رقاص الساعة».
إعادة التفكير
وإلى هذا ذهبت مجلة «إيكونوميست» في عددها الأخير (30/5/2015) حيث قالت إن سيطرة التنظيم على الرمادي ليس تعبيرا «عن تغير قواعد اللعبة» مشيرة إلى أن المدينة تتعرض للهجمات منذ أشهر. وذكرت في تحليلها هنا بما قيل في شهر نيسان/إبريل عن قرب دخول التنظيم مدينة دمشق عندما اخترق مخيم اليرموك ليختفي من جديد. وترى أن نجاح التنظيم الأخير راجع إلى ضعف القوات التي يواجهها وليس لقوته. فنظام الأسد يبدو في أضعف حالاته منذ عام 2012 فيما تتردد الميليشيات الشيعية والجيش العراقي الذي يقوده الشيعة بالقتال والموت في مناطق السنة. ولا تزال حكومة العبادي مترددة في تسليح العشائر السنية للدفاع عن أراضيها. وترى المجلة أن التقدم الأخير للتنظيم لن يعالج الضعف الذي يعاني منه، فهو بحاجة إلى توليد الأموال من أجل الحفاظ على مزاعمه بأنه يقود دولة خلافة.
وتظل أمواله التي يحصل عليها من النفط المسروق والآثار المسروقة عرضة للتراجع لهذا السبب أو ذاك. وترى أن بنية التنظيم «من الأعلى للأسفل» تجعل قياداته عرضة للقتل أو الأسر كما في عملية دير الزور وقتل من قيل أنه وزيرالنفط والمالية أبو سياف التي قامت بها القوات الخاصة في 15 أيار/مايو. وترى أن زيادة الولايات المتحدة من هجماتها المركزة ولو قامت بتوفير قوات أمامية على الأرض تعمل إلى جانب القوات العراقية فعندها سيواجه التنظيم نكسات وتراجعات. وتعتقد المجلة أن على إيران مراجعة استراتيجيتها، فمواصلة دعم نظام الأسد لن تزيد إلا من عزيمة الجهاديين. وفي الوقت نفسه على العبادي الوفاء بتعهداته تشكيل حكومة وطنية تمثل العراقيين. فقد حرم أبناء العشائر السنية في الرمادي من الأسلحة والدعم العسكري من حكومة بغداد التي لا تثق بهم. ولكن ما يغذي استمرار تنظيم الدولة هي ما تقول عنها المجلة «الطائفية المسمومة ووحشية النظام السوري» وهو ما يراه جون ماغلوغين نائب مدير «سي آي إيه» (2000- 2004) والذ ي يحاضر الآن في جامعة هوبكنز في مقال نشرته صحيفة «واشنطن بوست» وأشار فيه للظروف الموضوعية التي تجعل تنظيم الدولة ينتصر بل ويستمر في عنفه حتى بعد خروج أوباما من البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير 2017. ويرى ماغلوغين أن الشروط الموضوعية الكفيلة ببقاء التنظيم مرتبطة بتردد الدول الغربية وأمريكا بالذات في إرسال قوات برية للعراق. ولن يحدث هذا في ظل اللاأبالية الأمريكية (الرأي العام) لما يجري في سوريا والعراق، فهناك دعم قليل داخل الولايات المتحدة لإرسال قوات كافية، أي ما بين 10.000 – 20.000 جندي. ويعتقد أن القضاء على الخطر الجهادي يظل مرهونا بالقدرة على قضم أراضي «الخلافة» والتصدي لمظاهر الحرمان التي يعاني منها السنة في العراق وسوريا وهي مهمة تحتاج إلى جهود دبلوماسية وسياسية ضخمة. وفي المحصلة ففي العراق اليوم كما في سوريا خريطة جديدة تتشكل. والحس الذي يعتري القارئ لمقال بيلهام الطويل في» نيويورك ريفيو أوف بوكس» أن هناك ثلاثة «عراقات» تتشكل: عراق بغداد والبصرة وهذا يعتقد أنه انتصر على تنظيم الدولة ويتحدث عنه بصيغة الماضي. وعراق الأنبار والموصل الذي يواجه الدمار وتصدق عليه مقولة الأمريكيين في فيتنام «من أجل أنقاذ القرية يجب حرقها» والجزء الثالث هو كردستان الذي ينتظر لحظته لإعلان الإستقلال. وفي الأول والثاني لا يرى سكانهما أهمية للدفاع والقتال من أجل «السنة» الذين لم يعودوا مقبولين أو يرحب بهم. وكما علق ستيفن كوك في مقال له على موقع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية «لقد خــســرنا في الــعــراق ومهما كانت نتــيجة الصراع مع تنظيم الدولة الإسلامية فقد ضاع العراق نفسه».
إبراهيم درويش