ثمة شبه اجماع على ان خسارة تنظيم «الدولة» ما تبقى له من أراض خاضعة لسيطرته في العراق وسوريا لا تعني نهاية تهديداته بشكل كامل طالما الأسباب التي أدت إلى ظهوره وانتشاره لا تزال قائمة تغذيها حملات توعية فكرية في الأوساط التي نمى فيها التنظيم منذ بذرته الأولى في العراق خريف 2003 بعد غزوه واحتلاله في مقابل بيئة من الانقسام المجتمعي والاستقطاب الطائفي في عموم منطقة الشرق العربي عززتها انتصارات الإسلام الشيعي المتشدد المتمثل بالثورة الإسلامية في إيران عام 1979 والتي ساهمت في بناء مجموعات شيعية مسلحة فرضت وجودها كأمر واقع في لبنان مثلا من خلال حزب الله اللبناني، وفي العراق من خلال فيلق بدر أو أحزاب سياسية تدين لها بالولاء.
لكن غزو العراق الذي أطاح بالسلطة السنية المفترضة حوّل البلد إلى دولة غير قابلة للحياة بسبب إجراءات الاحتلال بحل مؤسسات الأمن والجيش والإعلام، حيث أصبح العراق دولة تفتقر إلى المؤسساتية فيما غلبت على سياسات الحكومة المركزية الخاضعة لهيمنة الشيعة صبغة اقصائية على أساس العرق والطائفة طالت العرب السنة بشكل خاص، فيما لم ينج منها الأكراد وان كان بشكل أقل بسبب امتلاكهم لكيان سياسي استطاع بناء شبه دولة منذ حرب الخليج الثانية امتازت بقدرات اقتصادية وقوة عسكرية خاصة بها.
وشهد العراق استقرارا أمنيا بشكل ما خلال فترة الاحتلال بعد تشكيل مجالس الصحوات العشائرية التي ضمت أيضا فصائل من المقاومة العراقية في عامي 2007 و2008 حيث استطاع مقاتلوها اخراج مقاتلي تنظيم القاعدة أو دولة العراق الإسلامية، الاسم اللاحق للتنظيم، إلى خارج المدن نحو معسكرات صحراوية في غرب وشمال غربي العراق حتى عام 2013 حيث عاد مقاتلو التنظيم لشن هجمات خاطفة على المدن أو على الطريق الدولي بين العراق وكل من سوريا والأردن بلغت ذروتها في سيطرته على الموصل في 10 حزيران/يونيو 2014 ومحافظات صلاح الدين والأنبار ومدن من محافظتي كركوك وديالى، ومن ثم سيطرته على مدينة الرقة في سوريا بعد أسابيع فقط.
ومنذ ربيع 2015 تتالت خسارات تنظيم «الدولة» لمدن سيطرته بدءا من تكريت واستمرار خساراته في العراق وسوريا، لكن التنظيم لا يزال يحتفظ بسيطرته على أربعة أقضية في العراق، الحويجة في محافظة كركوك وأقضية عانه وراوة والقائم في محافظة الأنبار، إضافة إلى قسم من محافظة الرقة وتقريبا كل محافظة دير الزور السوريتين، مع ان التنظيم خاض ويخوض مواجهة عسكرية بمفرده طيلة ثلاثة أعوام من دون أي حلفاء إقليميين أو دوليين، ووجوده في مواجهة بيئة غير منسجمة معه إلى حد ما، لكنه مع ذلك لا يزال يمتلك قدرات قتالية عالية في مواجهة مئات الآلاف من القوات الأمنية والحشد الشعبي والحشد العشائري والبيشمركه الكردية في العراق وتحالفات من مختلف فصائل المعارضة السورية، إضافة إلى كل من القوات السورية والروسية والتركية وعشرات المجموعات الشيعية المسلحة المدعومة من إيران وغيرها من القوى المحلية التي تتلقى في العراق وسوريا دعما من تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة يتشكل من 68 دولة من بينها 21 دولة تنفذ ضربات جوية ضد مواقع التنظيم في العراق وسوريا طيلة ثلاث سنوات.
وكان تنظيم «الدولة» سيطر على مدينة الموصل في 10 يونيو/حزيران 2014 وفي التاريخ نفسه بعد ثلاثة أعوام أعلنت الحكومة العراقية استعادة الموصل بعد عشرة أشهر من القتال العنيف شاركت فيه قوة تتعدى 100 ألف مقاتل في مقابل عدة آلاف من مقاتلي التنظيم مع مشاركة مكثفة من طيران التحالف الدولي أدت إلى خراب كبير في معظم أحياء المدينة راح ضحيتها ما بين 40 إلى 60 ألف مدني وفقا لتقديرات متضاربة. وواصل تنظيم «الدولة» خسارته في محافظة نينوى في قضاء تلعفر بعد قتال دام أسبوع واحد خلافا لتقديرات بعض القيادات الأمريكية التي توقعت ان تكون معركة تلعفر «المعركة الأصعب» منذ الحرب العالمية الثانية.
وفي سوريا أيضا واصل تنظيم «الدولة» خسارة الأراضي والمدن الخاضعة لسيطرته بما فيها معظم أجزاء مركز مدينة الرقة العاصمة المفترضة للتنظيم، فيما خسر مناطق مهمة في ريف حلب وصحراء حمص من بينها مدينة تدمر والمناطق القريبة منها والتي لا يزال يسيطر على بعضها في محاولة لمنع قوات النظام والمجموعات المتحالفة معه من الوصول إلى محافظة دير الزور المعقل الحضري الأخير الذي لا يزال تحت سيطرة التنظيم في سوريا.
ومن المحتمل ان يخسر تنظيم «الدولة» جميع أراضي سيطرته في معارك عسكرية أو بالانسحاب منها ضمن تكتيكات عسكرية يستخدمها التنظيم للحفاظ على مقاتليه ومؤيديه لإدامة مشروع «الخلافة الإسلامية» عن طريق وفرة العنصر البشري المؤمن بهذه الأيديولوجية التي ستظل المحرك الفاعل لوجوده على المدى البعيد؛ وليس ثمة أي احتمال لتخلي التنظيم عن هذه الأيديولوجية وبذلك سيظل قائما وموجودا على الأقل في عقول المؤمنين بفكرته في إقامة «الخلافة الإسلامية»، وسيظل العدو المحلي أو البعيد ضمن أولويات متزامنة لديه خلافا لتنظيم القاعدة الأم الذي تبنى منهج ضرب العدو البعيد قبل ان تعصف به متغيرات ما بعد غياب زعيم التنظيم أسامة بن لادن.
الكيانات الشبيهة بالدولة
تنمو معظم التنظيمات الشبيهة لتنظيم «الدولة» وتجد البيئة الصالحة لانتشارها في المناطق أو الدول التي تقل فيها سيطرة الحكومات المركزية على الأوضاع الأمنية أو في الدول التي تفقد فيها الحكومات السلطة بشكل مركزي على أراضيها؛ وتشهد عدد من بلدان الشرق العربي أوضاعا أمنية مضطربة وغياب سيطرة المؤسسة العسكرية على كامل الملف الأمني بسبب وجود قوى دخيلة تفرض نفوذها بحكم الأمر الواقع طالما امتلكت القوة العسكرية خارج إطار سيطرة الحكومات المركزية، كما في حالة حركة أنصار الله (الحوثي) في اليمن، أو فصائل الحشد الشعبي في العراق التي تبدو وكأنها ذات نفوذ لكيانات شبيهة بكيانات الدول حيث تمتلك مؤسسات استخباراتية وقوة عسكرية خارج سيطرة المؤسسة العسكرية المرتبطة بالدولة كمؤسسة الجيش.
وما يمكن القول فيه على الحالتين العراقية واليمنية يصح أيضا على الحالة الليبية حيث يفرض الجيش الرديف التابع للجنرال حفتر سيطرته على أراض ليبية ويمتلك أسلحة متطورة وطائرات ويتلقى دعما إقليميا ودوليا فيما يعمل خارج سيطرة وقرار الدولة والحكومة التي مقرها طرابلس والتي تنال اعترافا بشرعيتها من المجتمع الدولي؛ هذه الظاهرة، أي الكيانات الشبيهة بالدولة داخل الدولة تضعف كثيرا من أداء الحكومات المركزية وبالتالي سيستمر نمو التنظيمات المسلحة، مثل تنظيم «الدولة» وتتزايد قوتها بشكل يتناسب مع ضعف الدولة المركزية وزيادة قوة ونفوذ الكيانات الدخيلة على الدول.
ليس هناك في المدى المنظور ما يكفي لدى المجتمع الدولي من إرادة للعمل على تقويض الكيانات الدخيلة على الدول المركزية، لذلك ليس من المنطقي التفكير باقتراب نهاية وزوال تنظيمات مثل تنظيم «الدولة» وغيره من التي تتغذى وتنمو في البيئات التي تتم إدارتها بشكل لا مركزي خارج سيطرة الحكومات المركزية بشكل قريب إلى حالة الفوضى مع هامش خاص من الانضباط الأمني تفرضه مثل هذه الكيانات أو التنظيمات بشكل بعيد عن سيطرة الحكومات المركزية وسلطاتها.
لذلك سيواصل تنظيم «الدولة» السعي لتجديد نفسه وتحديد مجالات نفوذ جديدة سواء في المنطقة أو في أفغانستان أو الفلبين أو في دول الاتحاد الأوروبي لكن بشكل مختلف عن تواجده في البلدان الأخرى؛ وعلى هذا الطريق قطع التنظيم خطوات متقدمة للتواجد في أفغانستان وليبيا والفلبين، وكذلك في شبه جزيرة سيناء المصرية.
وستستمر عوامل الجذب للالتحاق إلى تنظيم «الدولة» حتى وان كانت على نطاق ضيق ومحدود طالما ظلت عموم المنطقة تشهد نوعا من الاستقطاب الطائفي السني الشيعي ضمن محوري إيران والأذرع الحليفة، ومحور آخر يتبنى خطابا مضادا للخطاب الإيراني؛ وقد لا تنتهي حالة الاستقطاب الطائفي طالما ظلت الأزمات والحروب في بلدان التنوع الطائفي بوجود أطراف خارجية تغذي تلك الصراعات في سوريا والعراق واليمن وما تنتج عنها من بيئة مؤاتية لانتشار أفكار الجماعات الإسلامية سواء السنية أو الشيعية، مع الأخذ بالحسبان ان الجماعات الشيعية تؤازرها وتدعمها دول وبعض منها له نفوذ وتمثيل واسع في حكومات هذه البلدان خلافا لجماعات مسلحة سنية معظمها يتم محاربتها من دول سنية بالتحالف مع دول العالم.
اللجوء إلى مناطق شبه آمنة
حثت قيادات التنظيم منذ تشكيل التحالف الدولي أنصارها على شن هجمات في عواصم ومدن دول الاتحاد الأوروبي المشاركة في التحالف الدولي، وكذلك في الولايات المتحدة التي شهدت هجمات في اورلاندو وسان برناردينو وهي أقل من التي تعرضت لها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكيا وغيرها دون إمكانية التأكد من خلفيات تلك الهجمات وإمكانية وجود قيادة وتحكم على الأفراد الذين نفذوا تلك الهجمات وحقيقة توجهاتهم واحتمالات وجودهم ضمن خلايا منعزلة أو مجرد أفراد واسئلة أخرى تزيد من قلق تلك الحكومات مع احتمالات عودة مواطنيها (المقاتلين الأجانب) بعد أو قبل انتهاء القتال في سوريا والعراق.
الانتشار الواسع للتنظيم أو الجماعات التي أيدته في بلدان أخرى، مصر واليمن وليبيا وغيرها، سيشكل تهديدا جديا للقوى الإقليمية والدولية التي تعمل على انهاء التنظيم وزوال تهديداته بشكل كامل سواء في بلدان الانتشار والتمدد أو في البلدان الاوروبية والولايات المتحدة التي تشهد هجمات يشنها افراد «يُعتقد» بارتباطهم التنظيمي أو انهم استجابوا فقط لدعوات قادة التنظيم باستهداف الدول التي شاركت في التحالف الدولي.
هناك ثمة احتمال شبه أكيد بعودة مقاتلي التنظيم ثانية إلى ذات المناطق الصحراوية غرب وشمال غربي العراق بعد الانتهاء من استعادة المراكز الحضرية في العراق وسوريا؛ وستكون هذه المناطق شبه آمنة لإقامة معسكرات تدريب مقاتلي التنظيم مع عدم امكانية الحكومة المركزية لتخصيص قدرات بشرية قد لا تقل عن 200 ألف شخص من جنود أو حراس أو أمنيين لتأمين الحدود العراقية السورية والسيطرة الأمنية على تلك المساحات الشاسعة من الأراضي الصحراوية وضمان عدم تعرض الجنود لهجمات مميتة من مقاتلي التنظيم. ويظل العنصر البشري هو العامل الأهم في ديمومة «مشروع الخلافة» الذي يسعى التنظيم لتحقيقه، لذلك اعتمد التنظيم استراتيجيات الحفاظ على العنصر البشري واعطاه الأولوية على التمسك بالأرض عن طريق سحب جنوده قبل اكتمال حصار المدن التي ستشهد عمليات عسكرية عادة ما تنتهي باستعادتها مع واقع يؤكد حقيقة قدرات التنظيم على استنزاف القوات المهاجمة من خلال الإبقاء على اعداد قليلة من مقاتليه الذين يخوضون مثل هذه المواجهات حتى النهاية.
رائد الحامد