خلال محاضرة حول حضور الأدب العربي في أوروبا، ألقيتها في العاصمة الأردنية عمّان بدعوة من منتدى عبد الحميد شومان، وشرّفني بتقديمها وإدارتها الصديق الشاعر والتشكيلي الفلسطيني زهير أبو شايب؛ حرصت على تحديد ما أعنيه شخصياً بالمفردات الأربع التي تشكل موضوع المحاضرة.
«الحضور»، في يقيني، هو مجموعة الظواهر والاستجابات وردود الأفعال التي تقترن بتلقّي نصّ ما، أو مجموعة نصوص؛ على صعيد القارئ المنفرد أولاً، بما في ذلك الدارس والمختصّ والمراجِع والناقد؛ ثمّ على صعيد شرائح الرأي العام الأعرض، سواء لجهة الاتفاق أو الاختلاف. وأنحاز، من جانبي، إلى نظرية في الاستجابة ترى أنّ التلقي الأعمق أثراً هو ذاك الذي يتجاوز ردود أفعال الأفراد في سياقات زمنية ومكانية وجمالية محددة، إلى طراز من ردّ الفعل يتنامى جَمْعياً فيصبح أكثر رسوخاً وديمومة. على سبيل المثال، لست أرى أنّ تلقي «ألف ليلة وليلة» في ترجمة الفرنسي أنطوان غالان، القرن الثامن عشر، يطابق تلقي 78 ترجمة أخرى للعمل ذاته، ظهرت على امتداد قرنين ونيف؛ ولكنّ للنصّ مساحة دلالية وثقافية تأصلت خارج خصائصه الفنية، كعمل سردي، وبالتالي فإنّ له رسوبات عميقة في أعمال كثيرة تستوحيه، أو توحي به، لدى قارئ عريض وقياسي.
ولهذا فإنّ «الأدب» ليس مجرد نصوص مستقلة في ذاتها، فنياً وزمانياً ومكانياً، فحسب؛ بل هو، كذلك، تلك النصوص التي قد يحيلها القارئ إلى نماذج قابلة للتماهي، على هذا النحو أو ذاك، مع القيمة المعيارية لـ«ألف ليلة وليلة». على سبيل المثال، يمكن للقارئ الأوروبي أن يقرأ عمل نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» في أبعاده الفلسفية والميتافيزيقية المركبة والثرية؛ ويكرر الممارسة ذاتها مع رواية الياس خوري «باب الشمس»، بوصفها الرواية الفلسطينية الكبرى في الجليل؛ ولكن ليس للتفسيرين أن يحجبا عن القارئ حقّ تلمّس تقنيات «ألف ليلة وليلة» في العملين، من حيث تناسل الحكايات من بعضها البعض.
و«الأدب العربي» هنا، واستطراداً، هو ذاك الأدب المترجم من اللغة العربية إلى اللغات الأوروبية، والذي يتوجب تمييزه عن أدب يكتبه فرنـسيون من أصول عربية، مباشرة بالفرنسية (أو أي لغة أوروبية أخرى)، ولكن موضوعاته هي الفيصل الأول في تحديد ما إذا كان ينتمي إلى كتلة الأدب العربي الحاضر في أوروبا، أو كتلة الأدب الوطني الفرنسي. الفيصل الثاني هو أحادية اللغة أو ثنائيتها لدى الأديب، وكيف تنعكس الحال على النصّ لغوياً، ثمّ ثقافياً. على سبيل المثال، قد لا تتوازى، بل قد تتقاطع، أنساق تلقي القارئ الفرنسي إزاء عمل مثل»النول» للجزائري محمد ديب، وعمل مثل «ليون الأفريقي» للبناني أمين معلوف.
وأمّا أوروبا فإنها، بالطبع، ليست واحدة موحدة في طبائع استقبالها للأدب العربي المترجم إلى لغاتها. ثمة مجموعة دول ذات ماضٍ استعماري (فرنسا، بريطانيا، هولندا، البرتغال، إسبانيا…)؛ ودول كانت على احتكاك بالثقافة العربية، ودّي أو عدائي (إسبانيا، عبر التاريخ الأندلسي)؛ ودول تحمل إرثاً نازياً أو فاشياً، وتسعى اليوم إلى التكفير عن ذنوب الماضي (ألمانيا وإيطاليا). الأدب العربي لا يُستقبل على قدم المساواة في إطار هذا التنوّع، حتى حين تتوفر قواسم مشتركة ذات صفة دينية (الحروب الصليبية)، أو سياسية/ دينية معاً (الصراع مع الإمبراطورية العثمانية)، أو الموقف من الإرهاب المعاصر الذي يرفع ألوية الجهاد الإسلامي.
وفي مقالة مشهودة بعنوان «أدب محظور»، تعود إلى عام 1990، روى إدوارد سعيد الحكاية التالية: «قبل ثماني سنوات من فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للأدب، كان ناشر تجاري أساسي من نيويورك، معروف بآرائه اللبرالية وغير الإقليمية، قد طلب مني اقتراح روايات من العالم الثالث للترجمة والإدراج في سلسلة ينوي إصدارها. وكانت القائمة التي سلمتها له تتصدرها روايتان من أعمال محفوظ، لم تكن أيّ منهما موزعة في الولايات المتحدة (…) وبعد أسابيع على تسليمه قائمتي استفسرت عن الروايات التي اختارها، فأعلمني أنّ ترجمة محفوظ لن تُنفذ. وحين سألت عن السبب، أُعطيتُ إجابة ما تزال تسكنني منذئذ: المشكلة أنّ العربية لغة إشكالية».
ويضيف سعيد بأنه عجز عن فهم المعنى الذي قصده الناشر، الليبرالي والمنفتح، إلا إذا كان يرى أنّ العرب ولغتهم «أقلّ احتراماً»، وبالتالي «أكثر خطورة» من أن تقترب منها منشوراته. ولهذا، في تلك الحقبة من الزمان كما هي الحال اليوم، ما تزال الآداب العربية غير معروفة نسبياً في الغرب، بالقياس إلى سواها من الآداب العالمية الرئيسية؛ وذلك في أزمنة تشهد تطوّر الأذواق الغربية لصالح النتاجات غير الأوروبية، كما أنّ الآداب العربية تشهد من جانبها تبدلات نوعية بالغة الأهمية يُفترض أنها تشجع على التلاقي بدل التنافر، خاصة من حيث السمات الحداثية والعصرية التي باتت تلك الآداب تتصف بها.
وعلى نحو ما، في الوسع القول إنّ المحتوى الجوهري لتلك الإشكالية ما يزال قائماً، وبقوّة في الواقع؛ بل لعله اتخذ وجهة من التطيّر أكثر شدّة من تلك التي شاعت في مطلع تسعينيات القرن الماضي، حين كتب سعيد مقالته تلك. كذلك فإنّ تنميطات الماضي توالدت ذاتياً، أو تنوّعت وتجددت؛ ومثلها المحاذير والحساسيات المسبقة.
صبحي حديدي
تحياتي لك المحترم صبحي حديدي : في ضوء مقالك أقترح بين يديك ؛ وأنت المترّجم الفائق اللفظ والمعنى ؛ أنْ تُنشأ دارنشرللترجمة في باريس
لنقل أداب العربية إلى اللغات العالمية ( الإنكليزية والفرنسية ) وبالعكس…فقدراتك في الترجمة ترقى إلى الإبداع التقنيّ ذي المهنة.مع مودتي.
بالمختصر المفيد..
أي مشروع ثقافي يتعلق بترجمة ونشر نتاجات الأدب العربي الحديث والمعاصر.. مهما كانت هذه النتاجات.. هو مشروع مرحَّب به تلقائيا إذا لم تتلاعب به أحابيل الواسطات والمحسوبيات والمحاباة والمصالح الشخصية..
في الحقيقة.. صرت أشك.. وصار الكثيرون مثلي يشكون.. بكل “هيئة” أو “جمعية” أو “مؤسسة” عربية تتولى.. أو تضع نفسها في موضع تولي.. مسؤولية العمل في هذا النوع من “المشاريع الثقافية”.. سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات أو حتى على مستوى “النقاد” أنفسهم.. !!
في السنوات العشر الأخيرة تُرجم عدد لا بأس به من الروايات العربية الى اللغات الأجنبية ، فلم تحدث أي منها ضجة لدى القرّاء ، و السبب منطقي و بسيط ، لحد الآن لم تُكتب رواية عربية تستحق و صفها بالعالمية . فالروايات العربية بالإجمال ، ضعيفة على المستوى التقني ، مهلهلة على مستوى الأسلوب ( حشو و لغو لا يخدم شيئ سوى تطويل الرواية ) و مقاربات عادية و مكررة فيما يتعلق بالمواضيع التي تتناولها .
بالمختصر المفيد..
أي مشروع ثقافي يتعلق بترجمة ونشر نتاجات الأدب العربي الحديث والمعاصر.. مهما كانت هذه النتاجات.. هو مشروع مرحَّب به تلقائيا إذا لم تتلاعب به أحابيل الواسطات والمحسوبيات والمحاباة والمصالح الشخصية..
في الحقيقة.. صرت أشك.. وصار الكثيرون مثلي يشكون.. كل الشك بكل “هيئة” أو “جمعية” أو “مؤسسة” عربية قلبا وقالبا تتولى.. أو تضع نفسها في موضع تولي.. مسؤولية العمل في هذا النوع من “المشاريع الثقافية”.. سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات أو حتى على مستوى “النقاد” أنفسهم.. !!