أينما اتجهت في أي من ضواحي العاصمة التونسية المصنفة راقية، أو ما أشبه ذلك من التصنيفات، فإنك لا تكاد تظفر بمقهى أو مطعم أو محل تجاري يحمل اسما عربيا. أما إذا ذهب بك الظن إلى أن هذه المحال تحمل اسما فرنسيا، فستكون مخطئا! ذلك أن معظمها، إن لم يكن جميعها، يحمل اسما انكليزيا، أو بالأحرى أمريكيا، حيث أن الإحالات الكثيرة إلى أسماء مثل وول ستريت والتفاحة الكبرى (نيويورك) وميامي، الخ… يؤكد أن المخيال المهيمن على القوم مخيال أمريكي. ولا أظن أنه يمكن تفسير هجنة هذه الأسماء بإرغامات المنطق التجاري، إذ إن التجار التونسيين الذين بقوا على مدى القرون يطلقون على محالهم أسماء عربية ليسوا أقل حذقا لفن التجارة من هذا الجيل الجديد من التجار، كما أن معظم المحال التجارية في بقية أنحاء البلاد لا تزال تحمل أسماء عربية، ولا يبدو أن استخدامها لغة أهل البلاد قد أذهب عنها الزبائن.
وإنما البادي أن الأمر يتعلق بتقليعة أو موضة انخرط فيها الجميع دون بالغ تفكير سوى الظن بأن هذه الأسماء الأمريكية الجرس، الحداثوية الشكل، تستهوي الشباب وتجتذب الزبائن المنفتحين على العالم الغربي أو المعجبين به. وقد أخبرني صديق أن سلطات النظام السابق كانت تشترط على المحال التجارية أن تكون لافتة أسمائها بالعربية وأن يرسم الاسم الأجنبي تحت الاسم العربي ولكن بخط أصغر. وربما لم يكن قانون «أضعف الإيمان» هذا ساري المفعول قبلا. إلا أن الأدهى أنه لم يعد اليوم حتى واردا، ولو نظريا. لماذا؟ لأنه يبدو أن ليس هناك أدنى اهتمام بالمسألة لا شعبيا ولا رسميا. إذ لا نعلم أنه جرى أي نقاش جمهوري حول الخطاب العمومي بأي لغة يكون، وحول علاقة هذه اللغة بالهوية الثقافية وبالشخصية الوطنية. كل يتحدث كما اتفق. وكل يتحدث بأي لغة أو لهجة سنحت. وكأن لا أحد يدرك مدى خطورة هذا الانسلاخ من لغة البلاد والأجداد لهاثا خلف نوع غير مسبوق من لقيط الكلام.
أما الدليل القاطع على أن المجتمع في تونس المعاصرة قد فقد الوعي اللغوي وأن الدولة ليست لديها سياسة لغوية فهو ما صار يتخبط فيه الإعلام الإذاعي والتلفزيوني من رداءة تعبيرية فاضحة. إذ لم يعد بإمكانك اليوم أن تسمع على معظم الإذاعات والتلفزيونات الخاصة أحدا من المذيعين يقول جملتين بالعامية التونسية دون أن يقحم فيهما كلمتين أو عبارتين فرنسيتين. بلا أدنى سبب. وما نقصده بالسبب هو أن يتضمن الحديث مفهوما أو مصطلحا أو اكتشافا أو اختراعا مازالت اللغة العربية لم تجد معادلا لغويا لاسمه الأجنبي. أما أن يقول المذيع أشياء عادية جدا مثل «بالنسبة للوقت الراهن»، و»لم لا؟» و”في أقرب الآجال”، الخ ويوهم نفسه أنه لا يستطيع أن يقولها بالعربية أو بالعامية، أو أن من لوازم التزيين والتجميل أن يقولها بالفرنسية، فهذا من الصبيانيات اللغوية التي لا تليق حتى بالمراهقين.
وقد سبق لأبي حيان التوحيدي أن تحدث عن «التفيهق» اللغوي، أي البحث عن الألفاظ الصعبة والثقيلة لإيهام المستمع بغزارة العلم. ولكنه تفيهق وتعالم داخل لغة واحدة. أما الاتكاء الكسول على لغة أجنبية لقول أشياء أقل من عادية، فلا تفسير له إلا من حيث علم النفس اللغوي. وعلى حد علمي فقد أنجز أستاذ علم الاجتماع محمود الذوادي قبل سنوات دراسة عن هذا المسلك اللغوي الشاذ لدى بعض التونسيين والتونسيات. ولكن الجديد اليوم هو أن هذا الشذوذ لم يعد، بعد الثورة، يعدّ شذوذا. بل إنه صار مسلكا مكرسا ومعمما في الخطاب الإعلامي على مدار الساعة. أي أن الإعلام قد تبرع منذ بضعة أعوام بإضفاء المقبولية، بل الشرعية، على مسيخ القول ولقيط الكلام.
صحيح أن المشكلة لم تبدأ بالإعلام، بل إنها قائمة في المجتمع أصلا. ولكن بمثلما أنه ليس من واجبات الأمهات والآباء أن يتبنوا لغة أطفالهم بنقائصها وأخطائها، بل إن من واجبهم أن يعلموهم صحيح اللفظ وسليم التعبير، فإنه ليس من واجبات الإعلام أن يعمم نقائص المجتمع وينشر أمراضه بزعم مخاطبة الناس بما يفقهون! وقد صدق رائد سياسة تعريب التعليم في تونس الأستاذ محمد مزالي رحمه الله عندما قال في آخر حواراته الصحافية إن تفاقم الهجانة اللغوية لدى النخبة التونسية ظاهرة محيرة محزنة لأن الارتباك في التعبير هو دليل ارتباك في التفكير.
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي
انا اعيش في بولندا لاكثر من 25 سنة واتيت من تونس واستطيع ان اقول ان هنا في بولندا يحترمون لغتهم ويتكلمون بها في الشارع وفي الاذاعة وهناك اساتذة يستشارون في استعمال الكلمات وتاريخ نطقها. من غير ان ندري اللغة العربية اذا لم يتكلم بها في كل مكان فسنتاخر كثيرا. تحياتي لك لاثارتك هذا الموضوع الهام.
الغريب فى الامر أن هناك ما يسمى بهيئة عليا مستقلة للاعلام السمعى البصري بتونس الحبيبة.
يكفى أن تسمع الاذاعة الاولى و زميلتها الاكثر حيادا لتتأكد من عمق المأزق اللغوى اللتى تتخبط فيه وسائل الاعلام فى تونس.
المحير أنهم لا يفصلون بين لغة العامة و لغة الحرفيين.
المصيبة أنهم لا يدركون خطورة ما يقترفون فى حق مستمعيهم…
و رغم كل التنبيه لهم يوميا فلا يعبؤون ….
سيد مالك التونسيين يتحدثون التونسية و هى كما تعلم مزيج من الأمازيغية و العربية و الفرنسية و الإيطالية…. و للعلم فقط هذه اللفة تمثل 80 % من اللغة المالطية مع تعويض بعض الكلمات الفرنسية بالايطالية ….الاعلام التونسي يتحدث للتونسيين بلغتهم …و انا لا أرى مانع فى ذالك ….بل هى لغة جميلة جدا و لغة حية فعلا و تتطور مع العصر و ليست لغة متكلسة ….تحيا تونس تحيا الجمهورية
أؤيد ما جاء في تعليق الأخ محمد من بولندا…وأزيد عليه أنّ ( الكفاآت العربية المهاجرة ) بعد سن الأربعين قلما أضافت علمًا كبيرًا في البلاد الغربية عمومًا.اللهمّ إلا بعض الذين هاجروا في سنّ مبكرة قبل الثلاثين وأكملوا دراساتهم في تلك البلاد بلغتها الوطنية.الإبداع لا يكون إلا بلغة القوم الأصلية.وتهميش اللغة العربية عند أهلها ( المثقفين ) من أهمّ أسباب اضمحلال الإبداع إلى درجة الضموراليوم.
جاءت سيارة الاسعاف لتاخذ زوجتي بعد عرض مرضي فانتقلت الى المستشفى واذا بالطبيب المشرف في تلك الليلة ذو الملامح العربية يكلمني بالبولندية واشار الي ان زوجتي تنتظر التحليلات الاولية. عرفت بعدها انه يمني مستقر في بولندا. فلو تخاطبت معه بالعربي قد لا نتفاهم مثلما تفاهمنا بالبولندي.
يفترض أن تعزز الثورة التونسية الأنتماء للهوية العربية الأسلامية لا ان تبعدهم عنها، والدول التي تحترم نفسها تعتد بلغتها ومنها اسرائيل التي صنعت من اللغة العبرية اللقيطة لغة تعبرن الكثير من الكلمات كجزء من الحفاظ على الهوية، ونحن عندما نتشبث ونلهث خلف اللغات الأجنية معتبرين ذلك شكل من أشكال الرقي والحضارة انما يعبر عن هزيمة فكرية وثقافية.
@محمد منصور : و لماذا يفترض أن تعزز الثورة التونسية الانتماء للهوية العربية الإسلامية ؟ نحن ليست لنا مشكلة هوية نحن تونسيون ننتمى الى الدولة التونسية و هذه الدولة لها تاريخ يعود إلى الى اكثر من 3000 سنة يعنى العرب و المسلمين هم مجرد مكون من تاريخنا….الثورة التونسية عززت الانتماء إلى تونس و النظام الجمهوري و الدولة الوطنية و النظام العلماني و نحن ليس لنا مشكل مع ذالك ….حاول البعض من تجار الدين و القومجية العربانية ان يخلقوا مشكلة هوية و تذويب تونس فى محيط اخوانى عربي لكنهم فشلوا و تونس ستبقى للتونسيين لانه كما قال الزعيم الراحل نحن مختلفون لان لنا خصوصيتنا و لنا تاريخنا و كل هذا يجعل من تونس لها مقومات الأمة …تحيا تونس تحيا الجمهورية
تونس لا تعيش بمعزل عن محيطها العربي والأسلامي ولديها قواسم مشتركة معه، وأما التشبث بالهويات القطرية فهي دعوة تفتيت لعالمنا العربي والأسلامي ففي الوقت الذي يسعى فيه الأتحاد الأوروبي في البحث عن القواسم المشتركة في مجال الأقتصادي والسياسي والعسكري والقائم في الأساس على أسس دينية فيتم رفض تركيا كونها دولة مسلمة وهذا ما صرح به بعض قادة الأتحاد حتى يحافظ الأتحاد على طابعه المسيحي لهذا السبب هم أقوياء ونحن في المقابل ضعفاء وتبع بسبب دعواتنا القطرية الضيقة.
ما لا يفهمه البعض…. هو أن للشعب الحق أن يتكلم كيف يريد…..انما المسؤول أو الصحفى عند أداء مهمته لا يجوز له أن يخلط بين لغتين و فى بعض الاحيان ثلاثة لغات….
عنوان رائع، لماذا؟ لأنه يمثل ثقافة الـ أنا الأوربية، والتي تنظر نظرة دونية، للغة الأمريكي راعي البقر، كونه فقط راعي بقر، فالراعي وظيفة دونية، بالنسبة للمثقف والسياسي الذي هو موظف في النظام البيروقراطي لدولة الحداثة ولغة ثقافة الـ أنا أولا، ومن بعدي الطوفان، والتي تسببت في الحرب العالمية الأولى والثانية، والتي كانت العولمة حل لوقف هذا النزيف الاقتصادي، بسبب عقلية رفض وجود أي أحد سوى الـ أنا ومنتجاتها الثقافية والسياسية والاقتصادية، في حين عقلية العولمة واقتصادها الإليكتروني حاليا تمثل ثقافة الـ نحن للأسرة الإنسانية، التي تتجاوز مفهوم لقيط الكلام، لماذا؟ لأن التجارة التي هي أساس مفهوم العولمة، تفرض عليك أن تعترف بوجود الـ آخر، بالإضافة إلى الـ أنا أولا، كي تستطيع أن يخطر على بالك ضرورة التفكير بطريقة لإقناعه، بما لديك من منتجات، أو بتقييم ما لديه من منتجات، ومن ثم الوصول إلى ثقافة الـ نحن التكاملية والتبادلية بين منتجات الـ أنا ومنتجات الـ آخر، إن كان بواسطة العملة الورقية أو العملة الإلكترونية أو التبادل السلعي الصرف، كما بدأت عملية التجارة بين أهل الحضارات الإنسانية ما بين دجلة والنيل، وتم اعتبار أهل ما بين دجلة والنيل أهل الحضارات، بسبب مفهوم التدوين، فقد تم تدوين أول لغة (اللغة المسمارية)، وتم تدوين أول قانون كلغة دولة (مسلّة حمورابي)، والتي كان الجميع يحترم لغة القانون، حتى فرعون نفسه، فقد تم التأكد أن موسى وافق على شرط الزواج في العمل ما بين 8-10 سنوات، بسبب أن نص القانون في مصر الفرعونية يسقط العقوبة والمحاكمة بعد عشر سنوات من حدوث الجريمة، ولكن مشكلة دولة الحداثة العلمانية والديمقراطية الأساسية، هو مفهوم الإبداع فيها يعتمد على ضرب معنى المعاني في قواميس وهيكل أي لغة، بداية من نص القانون، بحجة أن هذا ضروري في الإبداع أن يكون فوق لغة القانون ومعنى معاني ما موجود في قواميس لغة الدولة، والحجة التي يستخدمها أهل علم الكلام لتبرير ذلك، من أن هناك معنى ظاهر، ومعنى باطن، لا يعلمه إلاّ الله، أو أوليائه أو من يجلس على كرسي الحكم، فيصبح كل منهم أشد إجراما من إجرام فرعون نفسه، والدليل ما يحصل في مصر، منذ 3/7/2013 والتي كل شيء بدأ بالغش وشهادة الزور، إن كان من وزير الدفاع، أو من شيخ الأزهر، أو رئيس الكنيسة القبطية، أو رئيس المحكمة الدستورية، أو رؤساء الأحزاب والعسكر والأمن
قضية مهمة .. لا يتعلق الأمر بالملفوظ الاعلامي في حد ذاته و إنما بما وراءه ..فهو فعل مقصود به تلهيج العربية ثم مزيد تقطيع اللهجة ضمن سياقات مناطقية جهوية .. و ليس من حل سوى الاعلام البديل الذي له رسالة أولا ثم يخرج تلك الرسالة بلغة البلد وهي العربية و هذا أمر يفترض أنه حسم بالدستور و انتهى نقاشه و أغلق الملف لكن البعض يحاول دائما إعادتنا لنفس النقطة .. العربية لغة اشتقاق و ثرية جدا .. الاختصاص فيها جميل و إجادتها ممتعة .. من كان يجهلها فهي تنتظره و من كان يستهويه موتها فهي لن تموت .. لغة مرتبطة بالعقيدة و بما بتصورات الناس عن العالم .. وحتى لو تم الاستثمار في هذا المستوى فسيحدث نتائج منها ما نرى لكنها ستبقى ضمن دائرتها الضيقة .. مع تحياتي للأستاذ مالك
قضية مهمة لا شك ، هناك برنامج تلهيج العربية ثم إعادة تشكيل اللهجة ضمن سياقات مناطقية جهوية بما يجعل العربية خارج كل المسارات التداولية و الاستعمال اليومي و الملفوظ الاعلامي يحاول كل لحظة فرض معجم معين يستبطنه الناس شيئا فشيئا حتى إذا استقر في تواصلهم مرت اللغة الأصلية إلى موت سريري .. و الحق أن اللغة كظاهرة تاريخية يمكن أن تتوارى و تموت إذا توفرت ظروف الفناء غير أن الاشتغال بهذا الموضوع لن يجدي نفعا على اعتبار الارتباط الوثيق بين العربية و عقيدة الناس و تصورهم للعالم لذلك هناك سعي للاشتغال على التصورات عبر تشكيل لغة او ما يشبه اللغة و يمكن إدراك ذلك من تاريخ ولادة اللغة الانقليزية مثلا .
العربية لغة جميلة و ثرية جدا لأنها قائمة على الاشتقاق و الاصطلاح و مدونتها عميقة و تحتاج الكثير من الجهد لبلوغ بعض عمقها .. هناك من يجهل العربية و لا يحسنها و هناك من يحسنها لكنه يشتغل ضمن رؤية ..تلك الرؤية تحمل مشروعا يطال الهوية و التي يفترض انها حسمت نهائيا بالدستور لكن يبدو أن الدستور ليس كافيا لحل المعضلات المرتبطة به و بعض الاعلام أو أكثره ليس له ضوابط مرجعية و الاعلام البديل مازال خارج التغطية .. لكن مهما حدث ستبقى العربية و أهل العربية كثر ..مع تحياتي للأستاذ مالك