استخلص مراقبو الشأن التونسي العديد من الدروس، السياسية والاجتماعية والحزبية، بل والاقتراعية التقنية الصرفة، من الانتخابات التشريعية والدور الأول للانتخابات الرئاسية التي شهدها هذا البلد خلال الأسابيع القليلة المنصرمة. وتلك، يصحّ القول دون كبير حذر، دروس تنبثق في معظمها من باطن الواقع التونسي المحلي؛ وليس من الصائب تعميمها، استطراداً وبصفة آلية، على التجارب الانتخابية الأخرى التي أفرزتها انتفاضات العرب؛ وهي تجارب تظلّ قليلة، وشائكة متضاربة النتائج، في كل حال.
ولعلّ أبرز هذه الدروس هو ذاك الذي يرسم خريطة اصطفاف الفئات الاجتماعية، والكتل الجهوية، والقوى السياسية، والائتلافات الحزبية؛ سواء في ضوء الانتخابات التشريعية والرئاسيات الأولى، أم في استبطان الاصطفافات القادمة من حول المرشحين المتنافسين في الدور الثاني، الباجي قائد السبسي والمنصف المرزوقي. ذلك لأنّ هذه الخريطة تبدو أكثر تشابكاً، وتمازجاً وتنافراً، من أن تفصح عن خلاصات ملموسة ومتوقعة، لجهة أحجام احتياطي الأصوات لدى الفريقين، ومدى انطباق التقديرات الحسابية المبدئية على نوايا الناخب حين ينفرد بضميره أمام صندوق الاقتراع، ودرجة التزام الناخبين المتحزبين بما ستصدره قيادات أحزابهم من توجيهات، علنية كانت أم سرّية.
درس ثانٍ، على ارتباط وثيق بالأوّل، وفّرته أيضاً نتائج الانتخابات التشريعية، حول حيرة المواطن التونسي بين ائتلافين، وليس مجرد برنامجين ومرشحين اثنين فقط: الأول، السبسي، يزعم الديمقراطية الليبرالية، واستئناف البورقيبية، ويستثمر فزّاعة الهيمنة الإسلامية على مقدّرات البلاد؛ ولكنه يضمّ في صفوفه بعض رجالات العهد البائد، بل كان السبسي نفسه أحد الشهود على، والمشاركين في، قمع حراكات سياسية ونقابية وشخصيات وطنية معارضة (صالح بن يوسف، في المثال الأشهر ربما). والثاني، المرزوقي، يزعم الديمقراطية الاجتماعية، وتحرير تونس من الاستبداد في عناصره الإجمالية المتكاملة، مستذكراً أنّ السبسي كان، على شاكلة زين العابدين بن علي، وليد الإرث البورقيبي؛ ولكنه، أي هذا المرشح الثاني، يبدو رجل «النهضة» والإسلاميين، قبل أن يكون ممثل حزبه وأفكاره وتاريخه الشخصي في صفّ المعارضة.
ضمن هذه الحيرة العريضة، وعلى سبيل استخلاص درس ثالث، تبدو مجموعات اليسار التونسي في حال لا تُحسد عليها البتة؛ على مستوى أوّل يخصّ نتائجها الهزيلة، رغم أنّ مرشح «الجبهة الشعبية» حلّ في المركز الثالث؛ وعلى مستوى ثانٍ يخصّ تخبّط قياداتها قبل قواعدها، في اختيار التصويت للسبسي أم للمرزوقي، أثناء الدور الثاني. والحال أنّ هذه الحيرة ليست نابعة من اعتبارات إيديولوجية، أو حتى برنامجية صرفة، فقط؛ بل تستند، أيضاً، على اعتبارات اجتماعية وطبقية، وأخرى جهوية ومناطقية. فاليسار الذي يطمح إلى تمثيل مطالب الفئات الفقيرة والكادحة، في تونس الجنوب خصوصاً؛ يصعب أن يسير في ركاب السبسي، الليبرالي، والأرستقراطي، المدعوم عموماً من تونس الساحل؛ ويصعب كذلك، في المقابل، أن ينقلب على قراره العلني بعدم التصويت للمرزوقي.
الثابت، في درس رابع، هو أنّ هذا المشهد الانتخابي المعقد يظلّ متطابقاً، إلى درجة كبيرة، مع حصيلة المكوّنات الطبقية والسياسية والاقتصادية والحزبية، وربما الجغرافية والتاريخية أيضاً، التي ينهض عليها الاجتماع التونسي الراهن؛ والذي لا يصحّ تدوين عمره اعتباراً من سقوط نظام بن علي، بل بالرجوع إلى عقود كثيرة سابقة تسيدتها البورقيبية، بما أفرزت وأفرخت، وبما تفرز اليوم أيضاً، وتفرخ. وبهذا المعنى فإنّ تونس رابحة، في كلّ حال، ليس لأنّ الرئاسيات، مثل التشريعيات، خطوة إلى الأمام، فحسب؛ بل كذلك لأنها ليست خطوتين إلى الوراء. أو ليس بعد، على أقلّ تقدير.
صبحي حديدي
الصراع في تونس وفي غيرها من بلدان “الربيع” هو بين نموذج حداثي ، علماني، يتوق إلى إرساء حقوق الإنسان وحرياته الفردية ومنها حرية التفكير والتعبير والضمير والعقيدة، من جهة، وبين نموذج يتشبث بماضٍ اجتهد فيه السلف الصالح لعصره وخلّف وراءه جيلا لا يجرأ على الاجتهاد، من جهة ثانية. ومن مفارقات الوضع في تونس أن من يبشّر بمستقبل مشرق هو من ارتبط تاريخه بماض مظلم، ومن ارتبط تاريخه بالدفاع عن حقوق الإنسان سقط في قبضة ظلاميين ساوموه بالسلطة على مبادئه فتخلى عنها. وهنا تأتي عظمة بورقيبة ورفاقه والإرث الذي تركوه: شعب متعلم الى حد كبير وتشبث من المجتمع المدني والمرأة بحقوقها مما يجعل السيناريو الظلامي مستبعدا …. حتى وإن دعا إليه من يدّعي التقدمية.
الصراع في تونس هو ما بين النظام السابق المعدل و الثورة. واذا اخذنا في الاعتبار تدخل اموال النفط ، و رأينا اهداف ونتائج هذا التدخل في مصر، فانه يعني ان النظام المعدل للنظام السابق سيكون اسوأ من الاول و سيحتاج الى ثورة اعنف من الاولى لاقصائه و تخريب البلاد
يغلب على ثورات الربيع العربي اعتبار ما حدث فيه ثورة على أشخاص النظام السابق، وأرى أنه ثورة على الممارسات السابقة أكثر منها على الأشخاص. ونجاح الثورة التونسية، مقارنة بما يحدث في شقيقاتها، يعود في رأيي إلى التركيز على تغيير الممارسات أكثر من تغيير الأشخاص. ولذلك فإني لا أتوقع حدوث ’’ثورة أعنف‘‘ في تونس مثلما ورد في التعليق السابق لأسباب تعود إلى ما تضمنه الدستور التونسي الجديد من قطع الطريق على ممارسات الاستبداد السابقة، وإلى وطنية الأطراف السياسية التي أجمعت على ذلك الدستور، ووعي السلطتين الرابعة والخامسة (الصحافة والمجتمع المدني) اللتين واكبتا صياغته وستسهران حتما على مراقبة احترامه. الدولة المدنية الديمقراطية هي دولة المؤسسات، وعندما تكون المؤسسات قائمة وسليمة فإنها تقلل من احتمال حدوث التجاوزات وتصححها عند حدوثها، فتصبح تلك المؤسسات، وليس الأشخاص، هي ضمان سيادة القانون واستقرار الدولة وازدهار المجتمع.