تونس… نموذج أم مشروع؟

■ وهو يحضر في الحادي عشر من الشهر الجاري جلسة انتخاب مكتب كتلة حركة النهضة بمجلس نواب الشعب، كانت تدور في ذهن الشيخ راشد الغنوشي بعض مقاطع حفل استلام رباعي الحوار الوطني، في اليوم السابق بمقر بلدية اوسلو جائزة نوبل للسلام.
وحتى لا يترك مجالا لتفسير كلامه على أنه تهجم مجاني على بعض نجوم الحفل، فقد قررعدم الخوض في التفاصيل، أو توجيه اتهامات حادة أو مباشرة لأي طرف، والاكتفاء بابلاغ النواب الحاضرين بأن لديه بعض الملاحظات على الحفل الذي تابعه مثل باقي التونسيين على شاشة التلفزيون، وبأنه يأسف لأن «بعض الناس لا ينسون حتى في اللحظات التاريخية المهمة أن يوجهوا إشارات غير مناسبة لشركائهم في التوافق». مثلما قال قبل أن يشرح لهم بأن أحد المتوجين بالجائزة لم يتردد عن التنويه في الحفل بأنه «انقذ المرأة التونسية مما كان المتطرفون يريدونه من حرمانها من حقوقها». ثم استطرد بعد ذلك ليشير إلى وجود ما وصفها «بسرديات للتاريخ»، يراد من خلالها تزييف حقائقه وغض الطرف عن دور كتلة حركة النهضة في صياغة الدستور وإعطاء شرعية لأعمال عطلت المجلس، والقول إن الدستور في نسخته الأولى كان مكبلا للحريات، وأن النسخة النهائية هي التي سمحت بها. لقد كانت طعنة في الظهر لذلك التوافق الذي سعى الشيخ وآخرون لترسيخه في تونس. لكنها لم تكن المرة الأولى التي يحصل فيها مثل ذلك التطابق الزمني المريب بين ساعة التتويج العالمي للتجربة التونسية التي أطلق عليها في الخارج فقط وصف النموذج، وبين تواصل حالة الجحود والنكران في الداخل لرموز التجربة وروادها، والتشكيك المستمر في قدرتها وقابليتها للحياة، بالتصريح مرة والتلميح مرات أخرى على أنها منتوج فاسد وهجين، أسقط بشكل فوقي وقسري على الواقع ولم يكن أبدا ثمرة طبيعية أو شرعية للسلام الداخلي الذي ينعم به التونسيون، بدون أن يدركوا أفقه أو معناه في ظل تصوير الاعلام المحلي له على انه مجرد صفقة سرية مشبوهة لتقاسم السلطة. ولاجل ذلك كان كلام الغنوشي إشارة إلى أن صبره وصمته لم يكن علامة ضعف أو استسلام لحالة الانفصام بين الداخل والخارج، وإلى أن تصريحاته السابقة من أن الدستور الجديد وضع حدا للحرب الايديولوجية المستعرة في البلد منذ عقود، وحسم الخلافات الحادة حول مسائل الهوية والانتماء لم تكن حرثا عبثيا في البحر، رغم كل ما واجهته من صعوبات عملية على الارض.
وكان واضحا أن التخلص مما باتت نخب تونس تطلق عليه، بوعي أو بدون وعي، المشروع الثقافي والحضاري لم يكن مهمة سهلة أو بسيطة. فقد عاشت أجيال باكملها لاكثرمن ستين عاما على تلك الشعارات التي تحولت بمرور الوقت إلى أصنام، كلست العقول وأفقدت الكثيرين القدرة على تقبل الاختلافات والإقرار بتعدد الآراء والأفكار. ولم يكن نظام الحزب الواحد الذي تواصل بأشكال مختلفة حتى هروب الرئيس المخلوع بن علي، رغم الإعلان مطلع الثمانينيات عن التخلي عنه، سوى واجهة يتخفى وراءها ذلك المشروع الذي انطلق بشكل رسمي منذ السنوات الأولى للاستقلال، وبدأ عمليا قبل ذلك بشهور حين أقصى الزعيم الراحل بورقيبة رفاقه في حزب الدستور، ليمهد الطريق أمامه بالكامل لزعامة مطلقة لا مكان فيها لأي فرصة ولو محدودة لظهور منافسين محتملين. وكانت الصورة تقترب من الاكتمال في السنوات القليلة التي سبقت حصول تونس على استقلالها بعد مدة قصيرة مما اعتبر حكما ذاتيا، وبدت عدة مؤشرات تصب في صالح الخط الجديد. لقد صرح آلان سافاري وكان حينها كاتب دولة مكلفا بشؤون تونس والمغرب، في جلسة بالبرلمان الفرنسي «بأن المآل الحتمي لتونس هو الاستقلال، وانه من الأفضل لفرنسا والغرب عموما، أن يتم احراز الاستقلال على يدي الشق المعتدل ويمثله بورقيبة». ورغم ما ظهر خلال فترات قصيرة من فتور وحتى جفاء ومواجهة بين البلدين، ظلت فرنسا قبلة السياسيين في تونس، والمثال والقدوة لمثقفيها ورجالات الفن والفكر البارزين فيها. وبالطبع ظلت الديمقراطية والحرية آخر شيء يشغل الفرنسيين ويحول دون ارتباطهم بشكل عضوي بنظم الاستبداد، وسيطرتهم على كامل مفاصل الاقتصاد والسياسة والثقافة. ولأجل ذلك كان تمدد باريس أخطبوطيا، خنق انفاس التونسيين وجعلهم يعيشون داخل قالب واحد للحضارة، هو القالب الفرنسي المقلد. وانبنى المشروع الذي اصطفت وراءه السلطة، على أساس الانصهار الكامل في ذلك القالب الذي ذابت داخله كل خصوصية أو تميز تحت مسمى العصرنة والحداثة، التي لم تكن تعني شيئا آخر سوى قطع الجذور التي ربطت التونسيين لقرون مع الحضارة العربية الإسلامية. أما الإشكال الذي حصل هنا فهو أن عملية القطع فشلت في تحقيق أهدافها، وعجلت بظهور تيار محافظ وجد نفسه في مواجهة مفتوحة مع السلطة ومع منظومة فكرية وثقافية بدأت في ترسيخ أقدامها في مؤسسات الدولة. لقد كان واضحا منذ بداية السبعينيات، أن الحركة الإسلامية التي اكتشفها التونسيون بشكل عملي في الجامعات، لن تكون معارضة مماثلة أو شبيهة لقوى اليسار التي حملت رؤى وافكارا طوباوية لم تمتلك أدوات تنزيلها على الواقع، وظلت روابطها بتيرانا وموسكو أقوى من صلاتها الطبيعية بعواصم الجوار القريب. ولم يكن أسلوب المواجهة البوليسية الذي اختارته السلطة في تعاملها مع ذلك التيار سوى رد فعل متشنج على ما اعتبر خطرا داهما يوشك على اقتلاع النظام. لكن ذلك الخطأ الاستراتيجي هو ما فتح عيون الكثيرين على حقيقة المشروع الذي أعلنته دولة الاستقلال، والذي لاح جليا أنه ينبني على مثلث الاقصاء والفرنسة ومعاداة الهوية. لم يسقط المشروع بالرجة العنيفة التي حصلت قبل خمس سنوات من الآن، ودفعت بالحاكم المطلق للهروب كما كان متوقعا. فقد تراجع بعض الشيء لكن انقلاب الأدوار أعاده إلى مربعه القديم، وحشد حوله آلة دعائية ضخمة قدمته على أنه ضحية قوى رجعية تتربص بالحضارة وتتهيأ للانقضاض على السلطة، لكتم الانفاس وفرض إرادتها على التونسيين. هل كان العيب في النموذج الجديد الذي جمع اسلاميين بعلمانيين وقاد لسنتين تجربة الترويكا؟ أم في الأخطاء التي ارتكبها بعض الاسلاميين وشوشت الصورة قبل أن تجعلها سوداوية قاتمة؟
لقد وقعت هدنة أيديولوجية محدودة التقط خلالها المشروع أنفاسه، فيما لم يحسن صناع النموذج تسويق أنفسهم في الداخل. ولأجل ذلك ظل التونسيون ينظرون بسخرية واستخفاف لتصفيق الكونغرس الامريكي لبلدهم، ولم يكن يعنيهم في شيء حصول الغنوشي والمرزوقي معا قبل ثلاث سنوات من الآن على جائزة «تشاتام هاوس» التي يمنحها المعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية، أو غيرها من الجوائز والشهادات العالمية. أما بعد الانتخابات فقد تحول السبسي من منقذ إلى خائن بنظر قسم واسع من أنصاره، لمجرد أنه قبل استمرار النموذج. وقبل أن يعلن مرزوق واتباعه عن انفصالهم الرسمي عن حزب النداء الحاكم، الذي ترك المشروع وتخلى عنه حين قبل إشراك حركة النهضة في الحكومة، كان الشيخ راشد الغنوشي يجدد التأكيد في حديث لقناة «الجزيرة» القطرية على أن حزبه «اسلامي حداثي ديمقراطي» وأنه «لا تعارض بين الاسلام والديمقراطية». لكن الحركة بقيت رغم كل تلك التأكيدات موضع توجس وتشكيك وصفه امينها العام بـ»فوبيا النهضة». وقال عنه رئيس كتلتها في البرلمان في حديث لصحيفة «المغرب» المحلية إنه «مرض يدعو الله أن يشفى المصابين به». وفي النهاية ظل النموذج في مواجهة صعبة ودقيقة مع الإعصار الأيديولوجي الذي خفت قليلا ثم عاد تحت يافطة المشروع. كيف ستكون خاتمتها ومن سيطيح بالآخر؟ قد يكون فتح ما وصفها الشيخ الغنوشي في مجلس نواب الشعب «بسرديات التاريخ» المعاصر، امرا مهما واساسيا لفهم طبيعة الصراع، ثم توقع مآلاته ونتائجه في المستقبل.

٭ كاتب وصحافي من تونس

نزار بولحية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رامي:

    لا هو فوبيا ولا هم يحزنون بل مجرَّد تعِلَّةٍ. هؤلاء أناس إنتهازيون رأوْا الشهرة في معاداة الإتجاه الإسلامي فعادوه، في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا.

  2. يقول محمد فوزي التريكي ~~تونس:

    تونس نموذج لمشروع فرنسا
    “وانه من الأفضل لفرنسا والغرب عموما، أن يتم احراز الاستقلال على يدي الشق المعتدل ويمثله بورقيبة»
    المعتدل تعني: المتغرب العلماني مقابل التيار الوطني العروبي
    لتظلّ تونس خاضعة ثقافيّا للغرب “فرنسا بالذات” وتنهل من علمانيتها المتوحشة علمانيتها المتطرفة التي تخاصم الدين وتهزأ منه وتعاديه.
    لقد اسقط بورقيبه مشرعه التغريبي على تونس بقوة السلطة وفرضه فرضا على المجتمع التونسي مستعينا بنخب متغربة تونسية لكنها فرنسية الهوى والروح والوجدان نخبة تتعصب للمذهب الفرنسي من العلمانية التي ترفض الدين جملة و تفصيلا وبل و تحاول اقصاءه من الحياة العامة و الخاصة .وقد استعمل بعضهم شعار “العلمانية ” كواجهة ليخفوا رفضهم للدين ولهوية الشعب التونسي المتمثلة في العروبة والإسلام.
    يقول الفرنسيون :تكلم الفرنسية لتستهلك بضاعة فرنسية.
    tu parles Français tu consomme Français
    هل نحن مستقلون فعلا؟!!

إشترك في قائمتنا البريدية