■ كم كان المشهدان متشابهين في البداية. حناجر الشباب التوانسة في شارع الحبيب بورقيبة تردد صداها في ميدان التحرير. ونشيد «اذا الشعب يوما اراد الحياة» ردده ابناء مصر واضافوا عليه «يا حبيبتي يا مصر» فاستجاب القدر للاثنين معا. «ارحل ارحل» التي رددها مئات الالوف من ابناء تونس الخضراء، طارت الى وادي النيل فرددها الملايين، والنيران التي اشعلها البوعزيزي في سيدي بوزيد واحرق مع جسده الصغير النظام الفاسد هناك، التقطها ابناء الاسكندرية الذين انضموا لـ»كلنا خالد سعيد» والتحموا مع ابناء المحافظات الغاضبين فاسقطوا الطاغية في زمن قياسي، وشهداء تونس الثلاثمئة او يزيد سقطوا وابتسامات الرضى على وجوههم، فما كان من اخوتهم في ارض الكنانة الا ان رسموا ابتسامات اعرض على وجوه ثمانمئة شهيد او يزيد. وسلاح الشباب التوانسة الفعال من الفيسبوك وتويتر الى اليوتوب والبريد الالكتروني زادت فاعليته في مصر اثناء اكبر عملية تشبيك لحركة جماهيرية جارفة كالسيل لا اعظم ولا ارقى. هراوة الشرطي التونسي شجت كثيرا من الرؤوس وبلطجية حبـــيب العادلي تسابقوا على من يلحق الاذى اكثر بالشباب والشابات، حتى لو اضطروا الى استخدام الخيول والجمال. استنجد زين بالجيش لينقذ مركبه الذي كان على وشك الغرق فلم ينقـــذه، فهرب مذعورا الى مكب النفايات. واستنجد حسني بالجيش كورقة اخيرة فلم ينقـــذه فهبط من عليائه الى سجن طرة، بعد ان حاول الاختباء قليلا في شرم الشيخ، حيث حاولت اموال النفط ان تنقذه وتأخذه الى جوار زين فلم تفلح المحاولة.
سارت الثورتان التوأم في شهورهما الاولى في المسار نفسه تقريبا. حكومتان في تونس ومثلهما في مصر يقف على رأسيهما رجال من العهد السابق. لم يقتنع الشعبان بهما واسقطاهما وطالبا بالانتخابات. في تونس بقي الجيش بعيدا عن المسرح، بينما احتل الجيش المصري المشهد الاساسي في فترة ما بعد سقوط مبارك. جرت الانتخابات في البلدين وكانت النتائج شبه متشابهة. كان الفائز الاكبر في الانتخابات التشريعية حزب النهضة في تونس وحزب الحرية والعدالة في مصر. كلاهما لم يصنع الثورة ولكنهما جنيا ثمارها. رئيس الحكومة في تونس ورئيس الدولة في مصر يلتقيان في المنابع الفكرية والاصول الايديوليوجية، لكن المشهد من حولهما يختلف كثيرا. كلاهما لم تكن لديه خبرة سابقة في الحكم، وكلاهما اصيب بشيء من الغرور.. لكن الفرق بين الفائزين كبير. النهضة رفضت ان تستأثر بالحكم واصرت على التحالف مع الاحزاب العلمانية، بينما استأثر اخوان مصر بالحكم واداروا ظهورهم للجميع وعيون الجيش تراقب المشهد عن قرب.
المشهد التونسي الآن
يتقدم خمسة ملايين وربع الى صناديق الانتخابات لانتخاب مجلس تشريعي. يتنافس 1327 مرشحا من بينهم 10٪ من النساء على الاقل يمثلون 120 حزبا يتوزعون على 33 دائرة انتخابية يتنافسون على 217 مقعدا.
الانتخابات كانت مرآة صادقة لما يريده الشعب التونسي. عاقب النهضة بدون ان يخوّنها. لا يريدها ان تجلس خلف المقود ولكنه يريدها ان تكون في مقصورة القيادة. انتخاب النهضة في المرة الاولى (اكتوبر 2011) كان نتيجة العديد من العوامل، اولها التعاطف مع من اضطهدهم النظام السابق، ولانها كانت الاكثر تنظيما. في هذه المرة «نداء تونس» اقرب الى الصورة التي يريد الشعب التونسي ان تمثله وتمثل تونس الحقيقية. صورة البلد المنفتح المتسامح الذي لا يقمع احدا ولا يترك مجالا لتسرب الفكر التكفيري الهجين الى تونس وشعبها وحضارتها. وكما عاقب الشعب التونسي بطريقة حضارية حزب النهضة، عاقب وبشكل اقسى المؤتمر والتكتل وكاد ينهي وجوديهما. بينما دفع بالاتحاد الوطني الحر والجبهة الشعبية الى الامام ليكونا ايضا»صمام امان» في برلمان التعددية.
تحية للشعب الحضاري الذي قدم صورة اخرى عن العربي بعيدا عن الطاغية او شيخ القبيلة. صورة لشعب يؤمن بالحرية والتعددية وسيادة القانون وتبادل السلطة والمساواة بين المرأة والرجل والمنافسة الحرة عبر الصندوق، لا من خلال الطلقة كما يقول المثل الامريكي. الان يستطيع الشهيد محمد البوعزيزي ان يرتاح والابتسامة مرسومة على محياه وطوق من الياسمين يزين عنقه واعناق شهداء الثورة الرائدة، التي ستبقى رائدة «وتعيش رغم الداء والاعداء كالنسر فوق القمة الشماء».
المشهد المصري الآن
كان يمكن لثورة مصر ان تسير في المسار نفسه لو اصغى مرسي لنصائح الغنوشي الذي حذره من الاستئثار بالسلطة. سنة من الحكم رغم العديد من الاخطاء والخطايا، الا انها لا تكفي لتحكم نهائيا على فشل سلطة منتخبة. في الولايات المتحدة، مع علمنا بالفرق الشاسع، تسمى السنة الاولى في الحكم شهر العسل، أي انهم يعطون الرئيس فرصة للتعرف على خبايا وخصائص الحكم لتحديد الاولويات، ولا يتوقعون منه الكثير. لا نشك في ان التذمر الشعبي العارم ضد مرسي وحكم الاخوان جزئيا كان اصيلا، لكن جزءا منه كان مدبرا من فلول النظام السابق، الذين لم يرتاحوا لحظة واحدة، وبدأوا التخطيط لافشال الثورة من اليوم الاول. كما اننا لا نشك ابدا ان هناك جهات خليجية بدأت تعمل على تخريب كل الثورات بالمؤامرات والتسليح مرة والاموال مرات، وقد نجحت الى حد ما في قمع ثورة البحرين وتخريب ثورة اليمن واعادة عقارب الثورة المصرية وزج الثورة السورية التي بدأت سلمية في بحر من الدم.
لكن لنفترض ان ما حدث يوم 3 يوليو كان مطلبا جماهيريا لوقف انزلاق البلاد نحو الهاوية، اي انها عملية انقاذ حتمية ما كان امام جيش مصر الوطني الا التصرف بهذه الطريقة لانقاذ الوطن. تعالوا الان نراجع المشهد المصري في السنة اللاحقة فماذا نشاهد الان؟
المعارضة السلمية يتم ذبحها في وضح النهار وحتى لا يجري اي تحقيق ولا يعتقل احد ولا يتم فتح محضر في ما جرى في رابعة. يقبع في السجون المصرية نحو 22000 من اصحاب الرأي من بينهم 500 طفل وتتم تعرية 247 فتاة، حسب تقرير صادر عن مجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة، حيث اعتمد قرار صوت لصالحه 27 دولة يحذر مصر من الافراط في استخدام القوة بحق المتظاهرين. فضائيات المعارضة اغلقت جميعها. كل من يدلي برأي مخالف لنظام العسكر يتهم بالخيانة، فيضطر انسان مثل البرادعي ان يهرب من البلاد. المدافعون عن حقوق الانسان ينتهي بهم المطاف الى السجن، منهم 21 حكموا يوم 26 تشرين الاول/ اكتوبر بالسجن لثلاث سنوات. الصحافيون المعارضون مصيرهم السجن او القتل (على الاقل 8) او الصمت او الطرد او الهرب من البلاد. الجهاز القضائي اصبح مسيسا بطريقة مخجلة، حيث يتم اصدار احكام اعدام بالجملة على اكثر من 500 شخص في جلستين لا تزيد الواحدة عن ساعة. العمليات الارهابية تنتشر ليس في سيناء فقط، بل احيانا في وسط القاهرة وفي كلية الشرطة وتجمعات الامن. الاحتقان الداخلي في اوجه، خاصة في الجامعات التي تحولت الى قلاع للامن».
لقد دعت نافي بيلاي، المفوضة السامية السابقة لحقوق الانسان، السلطات المصرية الى احترام حقوق الانسان، خاصة الحماية من الاعتقال التعسفي والحق في محاكمة عادلة وحرية التعبير والتجمع. اما البيان المشترك لمنظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش بتاريخ 10 يونيو 2014 فقد جاء فيه ان «مصر تمر وسط ازمة حقوق الانسان هي الأسوأ في تاريخ مصر الحديث». وجاء في التقرير «وقعت انتهاكات لحقوق اللاجئين وارتكبت اعمال ضد المرأة مع تفشي الافلات من العقاب على مختلف الاصعدة، في ضوء ما يرتكب من انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان. مصر الان تحتل الرقم 31 على سلم الدول الفاشلة بتراجع ثلاث درجات عن السنة الماضية.
نقول هذا والحسرة تملأ قلوبنا، لان ثورة 25 ينايرالعظيمة كان يمكن لها لو نجحت ان تغير تاريخ المنطقة وتعيد مصر الى دورها القيادي الذي اختفى عن المسرح اكثر من 40 سنة. فالثورة المضادة نجحت في تفكيكها تماما بتمويل خليجي وعوقب كل من ساهم فيها او ايدها او انتصر لها. ان رجال أمن مبارك الذين شوهوا وجه خالد سعيد وهشموا رأسه يبتسمون الآن، فما زالوا يمارسون التشويه والتهشيم لالاف من امثال خالد سعيد، الذي سيظل متجهما ودمعة الحزن تملأ عينيه الى أن تأتي موجة تسونامي بشري ثالثة تنظف كل هذا الخراب الذي خلفته الجماعة اولا والعسكر والامن ثانيا، وتعيد قطار الثورة الى سكته الصحيحة.
٭ استاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك
د. عبد الحميد صيام
اشكر حضرتك على المقال الرائع ولكن اﻻ تري معي ان سبب هذه المصائب اليس مرسي وجماعته ،،لو كان رضي باﻻستفت اء ماكنا سمعنا عن السيسي حاجه وﻻكنا عرفنا من هو ولكن طمع مرسي وجماعته للسلطة المطلقة وكنا تخطينا كل هذا الدم
هل تعتقد ان هناك فرق كبير بين السيسي و السبسي،الفرق في رايي هو ان نزيد نقطة اخرى تحت حرف الباء للسبسي،وكلاهما يمثل النظام السابق،أليس كذالك يا سيد صيام؟
نعم أخ أبا سالم بهذه النقطة التي تفصل إسمي السبسي و السيسي عدنا جميعا لنقطة البداية …تحياتي
أشكركم دكتور صيام على هذا المقال الذي تكلم بالأرقام و ابتعد عن الكلام المجرد من الموضوعية قراءتكم صحيحة لمجريات الأحداث في تونس نعم أردنا معاقبة المخطئ و ارسال رسالة واضحة له أن القيادة التونسية لا يمكن أن تكون أبدية رغم الأخطاء تونس احتكمت للصندوق و رضيت بنتائجه و من يقول أن الناجحون هم من النظام السابق أقول النظام السابق ليس أسماء بل سلوك و القضاء برأ هؤلاء فلم نحكم عليهم نحن و اذا كانوا كذلك ففشل جديد يضاف الى فشل النهضة في الحكم و بعيدا عن كل ذلك الشعب الذي هرب من هيمنة الحزب الطاغي لن يتركهم و انتخب مجلسا يضم تعددية تضمن له عدم الانفراد أحد بالحكم تونس لنا كلنا و ليست لفصيل محدد
في مصر شارك الشعب بكل حيوية في الإستفتاءات والإنتخابات . لكن الجش لم يبتعد عن السلطة التي إستحوذ عليها بعد أخر الحروب , ومازال يتحكم في جميع مفاصل الحياة الإقتصادية والمالية ومن طاقة وكهرباء وغيرها . الي جانب تحريض بعض الأقليات الثرية التي أصيبت بلوثة دينية / علمانية وحرضوا علي عودة الديكتاتورية العسكرية والسوبرمان بعد نجاح الإخوان , الذين أوقعهم العسكر في فخ السلطة بعد أن كانوا يرفضونها . إذا كان للدين أن يبني دولة فأمامنا السعودية أو إيران أو الفاتيكان أو الدولة اليهودية أو الإسلامية , وجميعها سلطات ديكتاتورية تتلحف بالدين .