تعد تويو شيباتا الشاعرة اليابانية التي رحلت عن الحياة في 20 يناير 2013، عن 101 سنة، واحدة من الشخصيات الإنسانية المتميزة لما تبثه من أمل في الحياة التي لا تتوقف ما دام الشخص لم يتوقف بنفسه عن التأمل فيها والبحث عن معنى لما يفعله.
ويطلق على شيباتا الكثير من الأسماء لعل أبرزها الجدة الشاعرة، والشاعرة التي أزهرت في وقت متأخر، في إشارة إلى زهرة الساكورا-زهور الكرز- التي ترتبط وبشدة باليابان، فكأن التفتح أو الازدهار يمكن أن يحدث في أي سن وأي فترة بدون أن يفقد الزهرة قيمتها وقدرتها على نشر الجمال. مسميات يمكن إدراك ما تعنيه بالنظر إلى قصة شيباتا وعلاقتها بالشعر الذي بدأت كتابته في التسعينيات من عمرها، لتصدر كتابها الأول، الذي تحول إلى واحد من الكتب الأكثر مبيعا في اليابان، وعمرها 99 سنة، ولتستمر في الكتابة حتى المئة من عمرها. عاشت شيباتا حياة عادية، حاولت أن تشغل وقتها بعد وفاة زوجها وشعورها بالوحدة باتباع نصيحة ابنها وكتابة الشعر، الذي أثار أعجاب الجميع عندما ظهر للعلن. ويعبر شعرها عن الحياة والمعاناة التي مرت بها، وعن الوحدة وقيمة الذكريات الدافئة التي يمكن أن تساعد البشر في الأوقات القاسية التي تمر بهم، وعن الصمود في وجه تلك المعاناة. كلماتها ذاتية من مشاهداتها، ولكنها قادرة على المرور عبر المسام، والوصول إلى القلب ومخاطبة المشاعر. كلماتها قادرة على أن تعبر عما تريد أن تقوله، وما تتمناه، وما تشعر به.
يأتى حديثها مفعما بالإنسانية، وبالمشاعر العادية المفتقدة التي تعبر عنها بصيغ شديدة السهولة والعمق. وضع كان من الطبيعى أن يصل بها إلى الشهرة وإلى الكتاب الأكثر مبيعا، بالإضافة إلى الاهتمام الإعلامي الذي جعل حياتها ووفاتها خبرا وحدثا مهما. كتابها الذي وصلت مبيعاته إلى 1.6مليون نسخة في وقت أعتبر الناشر أن توزيع 10 آلاف نسخة من كتاب شعر في اليابان هو إنجاز كبير، يعبر عما مثله كتابها أو بمعنى أدق كلماتها وما حملته من دفء وقيمة للقارئ.
حاولت أن أبحث عن التغطية التي نالها خبر وفاة شيباتا في يوم الوفاة فوجدت بعض الأخبار باليابانية والإنكليزية، وهي الجهات التي كانت تتابع شيباتا في حياتها، خاصة في اليابان بلدها وحاضن تلك المشاعر واللغة التي تبقى دوما يى الأقدر على التعبير عن المشاعر التي قصدها كاتبها. ولكن عند البحث عن خبر وفاتها باللغة العربية لم أجد إلا القليل، وبالإضافة لقلة ما وجدته من أخبار قصيرة بدورها، جاءت بعض البيانات التي تمت الإشارة إليها غير دقيقة، وضع وصل إلى الخطأ في نقل اسم كتابها الأكثر شهرة وتحويله لاسم آخر لا يعبر عن المعنى الإنساني للمحتوى.
وضعية تتماس مع تعاملنا العام مع اليابان، بوصفها موجودة وغير موجودة في الوقت نفسه، فهي موجودة عندما يكون الحديث عن التكنولوجيا والمباني الضخمة والصور التي تعبر عن النظام والطوابير، وضعيفة أو غائبة عندما يتعلق الأمر بالكثير من الأشياء الصغيرة في المجتمع، التي لا تنفصل عن المبانى الضخمة وبناء يابان متقدم عبر سنوات ومعاناة تتشابه مع العنقاء في قدرتها على التجدد والميلاد من جديد بعد كل كارثة، وكأن الكارثة تعيد تجديد الجناح على طريقة النسر لتستطيع الطيران بشكل أفضل. ولكننا نظل نركز على شكل المبنى بدون الاهتمام بتفاصيل الأحجار التي تشكله والتي لا يمكن أن يقوم بدونها.
وفي كتابها الأشهر، الذي يحمل اسم «لا تفقد القلب» والمترجم أحيانا إلى «لا تفقد الأمل» والصادر عام 2009 وأعيدت طباعته عام 2010، قصيدة بعنوان «الخزينة» أو «الوديعة» تقول فيها:
عندما أحصل على بعض الطيبة من البشر
أقوم بحفظها في قلبي
وعندما أشعر بأنني وحيدة
أخذ من تلك الخزينة وأشعر بأنني أصبحت حية
وأنت أيضا… عليك أن تبدأ في الادخار من الآن
فهذا أفضل من أي معاش تقاعدي
كانت تلك هى القصيدة التي استوقفتني وبشدة وظلت في الذاكرة، وكانت أول ما عاد للذاكرة عندما علمت بخبر وفاة شيباتا، كونها تعبر عن قيمة الطيبة والعلاقات الإنسانية، وعما يبقى في العمر بعيدا عن الماديات التي لا يمكن أن تعيد الحياة لقلب وحيد. ففي تلك اللحظات تكون الذاكرة وما تحمله في قلبك من دفء وذكريات هي الثروة الوحيدة التي يمكن أن تنفع، والعملة الوحيدة الممكن استخدامها في الوحدة، رغم ما تثيره من شجن. ففي الوحدة يمكن أن ندرك بالفعل كم نحتاج لتلك الوديعة التي يمكن أن نعود إليها وأن نأخذ منها ما يساعد على الحياة. طريق مرت به شيباتا في حياتها، وكلمات حملت حكمه السنين وقيمة التجربة.
أما في قصيدتها «لا تفقد الأمل» التي حمل الكتاب عنوانها فتقول:
أوه، من فضلك، لا تتنهد بأنك غير سعيد
فأشعة الشمس والنسيم لا تتحيز لأحد
والأحلام يمكن أن يحلم بها الجميع بشكل متساو
لقد مرت بي أوقات صعبة، ولكنني سعيدة بأنني حية
وأنت أيضا، لا تفقد الأمل
قصيدة تدعو للتمسك بالأمل وعدم القبول بالاحباط ما جعل البعض يطلق منها دعوات مثل، لا تستسلم للإحباط وتمسك بالحياة وما شابه. ولكنها تظل قريبة للفكرة الأساسية فكل ما يحيط بنا متساو ورؤيتنا هي التي يمكن أن تمنعنا من التمتع بضوء الشمس والأحلام. بالطبع في الحياة العادية هناك صعوبات كثيرة، ولا يحصل البشر على فرص متساوية، ولكنها أيضا تتحدث من واقع مشاهدات ومعاناة، وبعيون شخصية ظلت قادرة على بث الأمل عبر كلماتها التي جاءت فيما يشبه نهاية العمر لتؤكد على أن النهاية لا تعلن مسبقا، وحتى تأتي يمكن أن تعمل من أجلها ومن أجل الحياة.
منذ سنوات انتشر في المنطقة العربية مشاهدة المسلسل اليابانى أوشين، واهتم العدد الأكبر بمتابعة المعاناة التي مرت بها بطلة العمل والربط بين حياتها وتجربة اليابان نفسها. وفي قصة شيباتا رسالة خاصة بدورها سواء فيما يتعلق باليابان وما تشهده من تزايد نسبة كبار السن في المجتمع، وتغير الكثير من الأوضاع الاقتصادية وما تضعه من تحديات على الجميع، إلى جانب ما يرتبط بالحياة والإنسانية عموما، حيث الحديث عن الحياة التي تغلب عليها الطبيعة المادية للأشياء، وتقلص المساحات الانسانية في الكثير من الأحيان باختلاف الأسباب والصور. وفي هذا السياق تعبر قصة شيباتا، على أن الحياة لا تنتهي عند سن معينة، وأن سن البداية غير محددة بشهادة الميلاد، وسن النهاية غير محددة بسن معاش أو انتهاء مدة عمل ورؤية مجتمع، وأن الأحلام ليس لها سقف أو حدود فهي ممتدة بامتداد الحياة وبامتداد الأمل نفسه.
تعبر شيباتا عن الإنسانية التي تتعمق مع المعاناة فتكون كالماس بعد صقله أكثر قيمة وجمالا عن صورته الأولى. فعلى الرغم مما نشر عن حياتها وما مرت به من القيام بأعمال متنوعة خلال حياتها، والزواج والانفصال، والزواج ووفاة الزوج والحياة في وحدة لسنوات، رغم زيارة ابنها المتكررة لها، استطاعت شيباتا أن تضع كلماتها وتلون بها وحدتها وتحولها لكلمات تشجع غيرها وتلون حياتهم. ربما تقول في بعض كلماتها لغيرها ممن يشعر بالوحدة أو مر بصور أخرى من المعاناة، إن هناك من يشاركهم الهم نفسه برؤية مختلفة. وكأنها تخاطب كل شخص وتقول له أنت لست وحدك ولكن الفارق أن عليك أن تخرج من وضعك وشعورك بالوحدة بصورة ما، قد تكون بالكتابة وقد تكون بخزين المشاعر الطيبة التي تقوم بتكوينها عبر الحياة، أو بالأحلام التي لا يمكن لأحد أن يسيطر عليها.
تلفت شيباتا النظر لقيمة الإنسانية والعلاقات الطيبة القائمة على الصداقة وتكوين خزان الطيبة بدلا من العلاقات القائمة على المصلحة، التي تنتهي بانتهاء المصلحة، ولا يبقى منها ما يمكن الحفاظ عليه في خزين الحياة، وبالتالي لا تستحق المعاناة من أجلها لأنها فارغة من البداية. تعبر شيباتا بحياتها وكلماتها على أن الأمل لا يموت ولا يولد إلا من الداخل، بالطبع نحتاج في الكثير من الأحيان لمن يشجع ويدعم، أو يلفت النظر لما يمكن أن نقوم به أو نبدع فيه، كما فعل ابنها، وكما منحها نشر أول وثاني قصيدة من ثقة ودافع للاستمرار كما نقل عنها، ولكن بدون طرق الباب والقيام بالمبادرة لن يحدث شيء.
قد نتحرك ونكسب أو نخسر، ولكننا إن لم نتحرك لن نكسب أي شيء. من جانبها تحركت شيباتا، وكتبت وأعلنت عن مشاعرها فساندت غيرها وتركت وراءها خزينا طيبا من الكلمات والمشاعر يمكن العودة إليها ووضعها في خزينتنا الشخصية مع ما نصنعه بأنفسنا، وبهذا تؤكد شيباتا أن السعادة والطيبة مثل زهور الساكورا تموت مع نهاية موسمها القصير، ولكن جمالها لا يرحل ويبقى أثره مهما مر الوقت.
٭ كاتبة مصرية
عبير ياسين