كان ذلك عام 1989 اثناء انعقاد مهرجان آسيا للشعر في العاصمة البنغالية دكّا، وكنت قبل شهر أو اقل قد قرأت دراسة ب . ر . كنج المعمقة عن شعر تيد هيوز الذي كان يحمل لقب شاعر البلاط البريطاني، وفوجئت في ردهة الفندق الذي اقمنا فيه بتلك القامة لشاعر نال حظا وافرا من الشهرة بقدر ما اثيرت حول قسوته الشكوك بحيث تسبب بانتحار زوجته سيلفا بلاث.
كانت له ملامح انجلوساكسونية حادة وصوت جهوري، ولمجرد ان صافحته قلت له بأنني كنت قبل شهر اقرأ تلك الدراسة عن شعره وبالتحديد عن ديوانه الغراب، ودار بيننا حوار متقطع بسبب كثرة من جاؤوا للترحيب به، بدءا من تذكيره بقصيدة الغراب لادجار الن بو الغراب، وتشاء المصادفة ان نستأنف الحوار في المساء حيث شاهدت عددا من الغربان التي لا يتشاءم منها الناس، واحيانا تهبط على موائد المقهى التابع للفندق في الهواء الطلق.
لم يكن يعرف الكثير عن الشعر العربي واشهر الشعراء العرب، رغم اشادته بالشعر العربي بشكل عام، ودفعه الفضول إلى المزيد من الأسئلة عن الشعر العربي الحديث وقال انه اذا توفرت له المادة الكافية في هذا المجال سينشر مختارات من الشعر العربي في مجلته شعر، ولأنه شاعر حقيقي لم يضف إليه لقب شاعر البلاط البريطاني ما يشعره بالتفوق، لأنه قال بأنه شاعر فقط، وان الشاعر في نهاية المطاف هو حاصل جمع قصائده.
وحين تحدثنا عن قصيدة الغراب لإدجار ألن بو، قلت له ان اعمال بو قد ترجمت إلى العربية، وكان الراحل يوسف الخال قد ترجم قصيدة الغراب التي تتكرر فيها لازمة never never more وقد ترجمها يوسف الخال ما مضى لن يعود، وقلت له ان مترجم القصيدة إلى الفرنسية جان روسلو كتب عدة صفحات مثيرة عن تجربته في ترجمتها ولم يستطع ان يجــــد في الفرنســية تعبيرا دقيقا ومرادفا لـ never more فأبقاها كما هي، لأنها حين تنطق بالانجليزية تشبه إلى حد ما نعيق الغراب خصوصا في نهاية كلمة more واستمر الحوار حول ترجمة الشعر، ولاحظت أنه أحس بشيء من الغيرة من الشاعر ت . س . اليوت حين قلت له انه ترجم إلى لغتنا العربية خمس مرات على الأقل، وكانت ترجمات متفاوتة من حيث الدقة والامانة في نقل المعنى والمناخ الشعري.
واذا كانت ترجمة الشعر كما يقول الفرنسيون خيانة فهي خيانة مشروعة، اذا كانت على غرار ترجمة فيتزجرالد لرباعيات الخيام أو ترجمة نيرفال لاشعار جيته إلى الفرنسية والتي قال بعد اطلاعه عليها انها تعبر عنه اكثر من الاصل الألماني.
لقد اقترن اسم تيد هيوز باسم فيليب لاركن كأبرز ممثلين للشعر الانكليزي في السبعينيات والثمانينيات، وفي دراسة ب . ر . كينج عن هيوز ثمة ما يتجاوز الانحياز إلى الافتتان بالشعرية الثرية والخصبة لهيوز منذ اصدر ديوانه الاول الصقر في المطر عام 1957، وهناك بالفعل ما يمكن وصفه بالرؤية الصقرية للعالم، لأن الصقر بعينيه الحادتين يحاول الإحاطة بالمشهد بانوراميا وينهي الناقد كينج دراسته عن هيوز بقوله ان لديه مواهب كبيرة في الخيال واصالة التعبير واستطاع خلق أسطورته الشعرية في اواخر القرن العشرين.
ان اطرف ما في سيرة هيوز تلك الصفعة التي تلقاها من فتاة أمريكية في حفل طلابي، بحيث سال الدم من انفه، وكان محاطا بعدد من الفتيات يروي لهن طرائف شاهدها في رحلاته، ولم يخطر ببال احد ممن شاهدوا تلك الصفعة ان الفتاة التي صفعت الشاعر ستصبح ذات يوم زوجته وهي الشاعرة الامركية سيلفيا بلايث التي عاشت معه ست سنوات وانهت حياتها بالإنتحار، وقد أشيع في تلك الأيام عن هيوز بأنه تسبب في انتحار زوجته خصوصا بعد الكشف عن رسائلها وثمة من وصفوا هيوز بالمتوحش غليظ القلب، لكن هذه الصفات لا تظهر على الشاعر أو على الأقل بالنسبة لي، حين عشت في صحبته أكثر من اسبوع في العاصمة البنغالية، فقد كان رقيقا في تعامله ولأنه كتب قصيدة عن النمر اذكر انه طلب من رئيس المهرجان وهو رئيس الجمهورية حسين أرشاد ان يتجول في حدائق الحيوان، وذات مساء كنا نتناول العشاء في صالون أرشاد وكان بالغ الأناقة ولا ينبىء عن مستوى الحياة الذي يصل حد الشظف في البلاد، ورأيت هيوز يتحول بعينيه وقد اتسعتا وهو يتأمل بكثير من الفضول والتركيز أثاث المكان مما جعل حسين أرشاد وكان شاعرا ان يحزر ما الذي كان يفكر فيه هيوز، فقال مبتسما ان هذا الصالون لقصر الرئاسة الذي سوف يغادره إلى منزله العادي بعد انتهاء فترته الرئاسية.
لقد حاز هيوز العديد من الألقاب بدءا من أمير الشعر الانكليزي إلى شاعر البلاط، وفي الحفل التأبيني الذي اقامته ملكة بريطانيا بعد رحيله عام 1998 قالت في تقديم الحفل الآن تبكي انكلترا دموعا مريرة وتعلن الكلمات الحداد لفقد تيد هيوز، ولم يظفر شاعر آخر بهذا الرثاء الملكي.
اسبوع أسيوي تحت شمس سليطة أتاحته لي العاصمة البنغالية لكي اكون في صحبة شاعر اشكالي في أطروحاته وفي سيرته الذاتية ايضا!
٭ كاتب أردني
خيري منصور
في محاضرة له في ” كوليج دي فرانس ، أوائل ثمانينات القرن الماضي ، صرح الارجنتيني لويس خورخة بورخس ، بأ قصيدة الغراب ، لأدغار الن بو في لغتها الأانكليزية قصيدة رديئة ، لكن ما اعطارها شهرتها وتوهجها هي ترجمة الفرنسي شارل بودلير لها . بودلير الرمزي ، أعاد كتابة القصيده بوحي شعري نادر جعل اغلب ترجماتها للغات أخرى اقل شعرية من الترجمة البودليرية لها . ترجمة جان روسلو لها تنسجم مع لغة روسلو الذي عاش القرن العشرين وبدايات القرن الحالي تبدو باهتة ، امام ترجمة الشاعر الرمزي . اللغة الفرنسية لم تعد نفسها ، فهي قد اكتسبت مطاطية أخرى ، غنية بالتأكيد ، لكنها اقل شعرية ، خصوصا اذا اخذنا بنظر الأعتبار التغيرات الفنية والشكلية التي اعترت الشعر الفرنسي بعد ابولنير .لغة روسلو لم تنسجم مع عبارات الن بو ، فروسلو شاعر بروفانسي يهتم كثيرا بالتفاصيل على حساب الغنائية الشعرية ، وذلك ديدن اغلب شعراء جيله الحائر بين اراجون و رونيه شار ؟
اما تيد هيوز فهو محصلة للشعر البريطاني الباحث عن رموز له في كل قرن بل في كل نصف قرن أحيانا وذلك شأن الإمبراطوريات . بمعنى ان الهاجس سياسي اكثر منه فني . الإمبراطوريات بحاجة الى رموز حتى في الشعر . اختارت اوربا رموزها المطلقة منذ زمن طويل ومنذ انفصال اللغت عن أمها اللاتينية . إيطاليا صار رمز لغتها دانتة ، اسبانيا سرفانتس ـ المانيا غوتة ، بريطانيا شكبير ، اما فرنسا فقد احتارت خصوصا بين رابليه وهوغو و موليير ، جامعة الاجناس الأدبية كلها بوعيها المتعدد الطبقات . اما لازمة القصيدة فأن ترجمة الخال لها اقرب الى النص الفرنسي وكأنه يقول ” بلغ السيل الزبى ” عربيا ؟ أخيرا فتعبير ” الترجمة خيانة ، ابتكار إيطالي قبل ان يدجنه الفرنسيون كعادتهم مع إيطاليا في الفن والأدب والعمارة والموضة . ففرنسا بلد شافط ولولا إيطاليا لما بقي عذر لها .