■ من يتأمل في أحوال أمتنا العربية والوضع الذي انحدرت إليه وما تشهده من حالة العجز والهوان والانهيار الشامل والحروب البينية وغياب أي نوع من الحضور على الساحة الدولية، يجد الكاتب نفسه مضطرا أن يبحث عن الأسباب العميقة والكامنة التي أدت إلى مثل هذا الانهيار، خاصة بعد تفتح براعم الأمل التي مثلها الربيع العربي في بداياته الواعدة، ويحاول أن يسلط الأضواء على عوارض هذه الحالة المرضية الخبيثة، لعل تشخيص العوارض يعطي فرصة للمتخصصين في العلاج للقيام بوصف الدواء المناسب بما في ذلك إجراء عملية أو عمليات جراحية تستأصل شيئا من الأورام الخبيثة المنتشرة في هذا الجسد الواهن.
ولا نكاد نبالغ إذا قلنا إن كثيرا من العلل والأوجاع انتشرت في الجسد العربي، بعد أن تكالب على هذه الأمة ثلاثة أعداء خبثاء، كل يسعى من جهته لهدم جزء من هذا الكيان، الذي عبـَر التاريخ وعوادي الزمن وحاول المخلصون من أبناء الأمة في العصر الحديث أن يعيدوا تشييده على أساس صلب. والأعداء الثلاثة هم الأجنبي الذي جاء مستعمرا ومحتلا ومتآمرا، وقام بزرع نبتته السامة في فلسطين. والنظام العربي بشقيه الرجعي المتخلف والسلطوي المتجبر، وأخيرا التيارات الأصولية المتطرفة التي تريد أن تلغي خمسة عشر قرنا من التقدم، لتعيد الأمة إلى مربع السيف والوأد وجز الرؤوس. ولا نشك أن الظاهرة الأخيرة كانت نتيجة الحمل السفاح بين القوى الخارجية الظالمة القاهرة والقوى المحلية التي تعمل وكلاء عند الأجنبي لإبقاء هذه الأمة ممزقة مدمرة متخلفة، تتحدث عن عورات المرأة أكثر مما تتحدث عن أسباب النهضة وسبل التنمية المستدامة والحكم الرشيد.
وسنقصر حديثنا في هذا المقال على ثلاث ظواهر تجاوزها العالم تقريبا، إلا النظام العربي الواحد أو شبه الواحد، وهي الطائفية، وحكم الفرد الطاغية الذي يصنع نظاما سلطويا على مقاسه ومقاس أولاده، وتهميش دور المرأة وتغييبها من الحياة السياسية والاقتصادية، وتحديد دورها في المطبخ أو على سرير الولادة. وأود أن أؤكد أن هناك كثيرا من العوارض المرضية التي تستحق تسليط الأضواء عليها، وقد نعود إليها في المستقبل، مثل حرية الصحافة وسيادة القانون وحرية التعبير وحرية الرأي وحرية الدين والمعتقد وحق التنقل وحرية التجمع، إلا أن هذه الظواهر الثلاث، في رأينا، تعتبر مربط الفرس في فهم الأسباب التي أدت إلى مثل هذا الانهيار.
الطائفية
الطائفية في البلاد العربية تعني تقسيم مكونات المجتمع الواحد على أساس ديني بين مسلم وغير مسلم، أو على أساس مذهبي بين المسلم السني والمسلم الشيعي أو العلوي أو الزيدي أو الدرزي، أو على أساس عرقي بين العربي وغير العربي، كالأكراد والأمازيغ والتركمان، أو على أساس المنابع والأصول، كالفلسطينيين في لبنان وسوريا والكويت، واليمنيين في السعودية، والسودانيين في مصر والأفارقة في موريتانيا.
في الوقت الذي كانت ظاهرة التمييز على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الموقع الاجتماعي منتشرة عالميا، كان العالم العربي يكاد يخلو منها، فقد كانت الظاهرة نائمة أو شبه نائمة وبالكاد تسمع داخل البلد الواحد أي إشارة إلى دين الشخص الآخر أو عقيدته أو أصوله أو لغته الأصلية. لم يتعرض أحد بالأذى للأزيديين أو الصابئة في العراق، ولم يخطر ببال أهل معلولة في سوريا أن اســتخدام اللغـــة الآرامية قد يؤدي بهم إلى الهلاك، ولم يشعر أبـــناء الطــائفة السامرية اليهود في نابلس أن أحدا قد يلحق بهم الأذى، ولم يشعر الزيديون في اليمن أن هناك فروقا بينهم وبين السنة، ولم يكن أبناء الطائفة الشيعية في الكويت أقل إخلاصا ووطنية من إخوتهم السنة، ولم نسمع أن الخلافات اللبنانية في الحرب الأهلية كان وراءها الأصول والمذاهب، بل التحالفات والتأثيرات الخارجية والاصطفافات السياسية.
انفجرت الطائفية الدموية في أكثر من بلد. كانت موجودة تحت الرماد فجاء المحتل ليطلقها من عقالها. من جماعات أبي مصعب الزرقاوي إلى عصائب الحق وكتائب أبو الفضل العباس وفيلق بدر وصولا إلى الشبيحة وأجهزة الأمن العديدة التي تعتمد النقاء الطائفي فتستهدف الآخر بغية تصفية وجوده نهائيا، فيضطر الآخر إلى الاحتماء الطائفي فيشكل «داعش» وأخواته، ويقوم الثنائي الإمبريالي والبترودولار المتطرف بتغذية الظاهرة، والنتيجة عشرات آلاف من الرؤوس تجندل وآلاف من النساء يغتصبن ومئات من المقامات تهدم وعشرات من المجتمعات العرقية والدينية تجتث وتتمزق. تزحف الظاهرة المميتة المحمولة على سيارة مفخخة من بلد لآخر ومن طائفة لأخرى، حتى ان عددا من أصدقائي وصديقاتي من بيت لحم أعربوا عن خشيتهم من وصول «داعش» أو أحد تجلياته إلى البقية الباقية من مسيحيي فلسطين، الذين عاشوا في مجتمع لا يعرف الطائفية ولا التمييز ولا التفريق، لأن هناك عدوا قوميا يحاول أن يجتث الاثنين معا.
لكن ماذا حدث في العالم البعيد عن بلادنا؟ بعد فشل الاستفتاء الذي جرى على انفصال اسكوتلندا عن بريطانيا يوم 19 أيلول/سبتمبر الماضي، إذ آثر 55٪ من الاسكوتلنديين أن يبقوا في دولة الوحدة، تراجعت احتمالية انفصالات أخرى كانت تنتظر نتيجة الاستفتاء. فلن نرى على الأقل في الأمد القريب محاولات انفصال كاتالونيا عن إسبانيا ولا الباسك عن إسبانيا ولا مورسيكا عن فرنسا، ولا المكون الفرنسي عن المكون الفلمنكي في بلجيكا، ولا مقاطعة كيبيك ستنفصل عن كندا، ولا نتوقع أن ينفرط العقد السويسري المكون من الفرنسيين والألمان والإيطاليين، ولا نرى أن بيض جنوب أفريقيا يستعدون للهرب من الغالبية السوداء، لأنها بعد أن تمكنت من الحكم غفرت وسامحت ونهضت البلاد كلها، ولا نتوقع للسكان الأصليين في منطقة الشياباس بالمكسيك أن تطالب بالانفصال. فالحكمة تقول حيثما يتوفر العدل والمساواة وسيادة القانون وتكافؤ الفرص تختفي أسباب الانفصال والعكس صحيح.
السلطوية
العالم في غالبيته يتجه إلى الاستقرار القائم على تبادل السلطة وسيادة القانون والانتخابات الحرة والنزيهة والعادلة والسلمية والخالية من التزوير وشراء الذمم. إنظر إلى دول أمريكا اللاتينية التي بدأت تنافس العالم المتقدم، حيث تحتل البرازيل المرتبة السادسة متفوقة على بريطانيا. وتجوّل في تشيلي والأرجنتين وفنزويلا والبيرو التي تحاكم رئيسا سابقا بتهمة الفساد وتأمل الاستقرار في أوروغواي وبارغواي. وتأمل التقدم الذي أحرزته كل من نيكاراغوا والسلفادور بعد سنوات الصراع الطويل. وقم بزيارة إلى العديد من الدول الأفريقية مثل بينين وغانا وبوتسوانا وناميبيا والسنغال. ومن هناك مر على العديد من الدول الآسيوية ودول أوروبا الشرقية لتصاب بشيء من الذهول وأنت ترى دولة مثل التشيك تصبح في نحو عشرين سنة من أكثر الدول استقرارا وتقدما ونهضة وخلوا من الفساد. لقد وصل عدد الدول المستقرة تماما إلى 88 دولة، تصنف على أنها «حرة»، والدول الآيلة للاستقرار 59 دولة وتصنف على أنها «حرة جزئيا» ولم يبق إلا 48 دولة لا تتمتع بالحرية أو التعددية أو تبادل السلطة أو الانتخابات الحرة، وتصنف على أنها «غير حرة». ويؤسفنا أن نقول إن معظم الدول العربية ضمن هذه المجموعة. ودعني أضيف أن أسوأ عشر دول في العالم أربعة منها من الدول العربية. وقد سجلت الدول العربية مجتمعة أسوأ منطقة في العالم بالنسبة للحريات المدنية، باستثناء تونس بينما انزلقت مصر من تصنيفها «حرة جزئيا إلى غير حرة» ولحقت بها غزة، حيث تراجعت فيها الحقوق السياسية إلى درجة خطيرة.
تهميش المرأة
لا تحتاج هذه الظاهرة الكثير من البحث والتدقيق فالمعلومات حول وضع المرأة في العالم العربي مقارنة إلى العالم تغم البال. فبينما يتجه العالم إلى تمكين المرأة في كل المجالات السياسية والتشريعية والقضائية والإدارية والتنمية والمساواة أمام القانون، شهد العالم العربي نكوصا شديدا وتراجعا في تمكين المرأة لدرجة خطيرة. وهناك مظالم أربعة تتفرد فيها المنطقة العرببة أكثر من أي بقاع العالم وهي: الزواج المبكر وزواج الكهول بفتيات صغيرات وجرائم الشرف والختان. هذا لا يعني أن هناك دولا غير عربية لا تمارس القهر والقتل والتهميش والختان، ولكننا معنيون فقط بمنطقتنا العربية.
كثير من دول العالم اتجهت لتسليم زمام القيادة للنساء، ليس فقط في دول أوروبا الغربية مثل ألمانيا والدنمارك والنرويج، بل العديد من دول العالم النامي، مثل البرازيل وتشيلي والأرجنتين والبيرو وليبيريا وسانتا لوسيا وكوسوفو وجامايكا وكوريا الجنوبية وغرانادا وبنغلاديش وترينيداد ولاتفيا ومالطا والباهاماس وبولندا.
وأريد أن أكرر ما قلته مسبقا، إن الرئيس القادم للولايات المتحدة قد تكون هيلاري كلينتون. فإذا كانت مرشحة الحزب الديمقراطي (وهو ما نتوقعه) ستنافس المرشح الجمهوري فسيكون فشلها في الانتخابات، إذا فشلت، ليس لكونها إمرأة بل لأن الشعب الأمريكي تعب من ثماني سنوات من حكم الديمقراطيين، ومصمم على التغيير وانتخاب المرشح الآخر حتى لو لم يكن بكفاءة هيلاري كلينتون.
أما منطقتنا العربية فما زالت تنتج الأخبار الغريبة المتعلقة بالنساء كقيام حركة «داعش» برجم إمراة أمام أبيها وتصور الرجم وتنشره على اليوتوب، وتتحدث كذلك عن زواج فتاة يمينة في عمر الحادية عشرة برجل عمرة ثلاثة أضعاف عمرها فتحاول الانتحار إلا أن أباها يجبرها على العودة إلى بيت زوجها فتهرب بنفسها إلى المحكمة للحصول على الطلاق. وفي فلسطين التي كان يمكن أن تكون أكثر تقدما بسبب النضال اليومي مع المحتل قتلت 27 فتاة عام 2013 تحت مسمى جرائم الشرف. في مصر تتعرض النساء في المعتقلات للإهانة وانتهاك العرض وفحص العذرية، بينما يهاجم جمهور من المتشددين الإسلامويين الفتاة ماري سامح جورج في عين شمس لأنهم لمحوا في سيارتها صليبا فأخرجوها منها وانهالوا عليها ضربا ثم أطلقوا النار عليها فأردوها قتيلة بدون سبب إلا لكونها مسيحية.
نتمنى على أمة العرب أن تعود إلى ذاتها وتعرف أن الجسم السليم يقاوم الأمراض ويتغلب عليها أما إذا كان الجسم عليلا أصلا فما أسهل أن تغزوه الجراثيم الخارجية منها والداخلية وتطرحه أرضا أو تودي به إلى وفاة قبل الأوان.
٭ أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك
د. عبد الحميد صيام
شكرا جزيلا يا أخ عبد الحميد على هذا المقال الرائع. إنك تقوم بواجبك خير قيام. فنحن فعلا أمة ضحكت من جهلها الأمم. وا أسفاه.
Marhaba,
I think Dr. Siam is lucky man to have a chance to lecture in . New York and we are lucky too to have him lecture us too. thank you,
هذه ثمار الخصوصية يا أستاذ!