باريس ـ «القدس العربي» سليم البيك: في برنامج تلفزيوني، سأل المذيعُ المخرج الأمريكي أورسون ويلز، إن كان عليه أن ينقذ أربعة أفلام أو خمسة أفلام للأجيال القادمة، أفلام لآخرين وليس له، ما الذي سيختاره؟
طالب ويلز مازحاً، بتغيير السؤال بسرعة، فاستدرك المذيع قائلاً بأن يكتفي بفيلمين، فجاوب ويلز: «الوهم الكبير لجان رينوار، وشيء آخر».
هو أحد أهم أفلام المخرج الفرنسي، والفيلم يكمل اليوم عامه الثمانين، إذ تم إنتاجه عام 1937، إنّما، بأفكاره عن الحرب والسلم وما بينهما، بقي راهناً على مدى الثمانين عاماً الماضية، بما مرّ عليها من حروب، وإن كانت أحداث الفيلم مزامنة للحرب العالمية الأولى (1914-1918). وهو وثيقة سينمائية تُضاف إلى فيلم رينوار الآخر، «قانون اللعبة»، تنحاز للسلم والإنسانية.
في 1916، اعتُقل طيّاران فرنسيان مع آخرين في معسكر ألماني، تنشأ بين أحدهما، القادم من عائلة غنية، وبين الضابط الألماني المسؤول عن المعسكر علاقة احترام وود، من دون اكتراث لحالة الحرب بين بلديهما، أو لحال الفقراء من بين المعتقلين. قد يكون هذا التقارب الإنساني، وإن أتى بنسخته البرجوازية، أحد عوامل مكافحة الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا، للفيلم الذي سبق إنتاجُه الحرب العالمية الثانية بسنتين، فقد كان بالنسبة لوزير الدعاية السياسية النازي غوبلز العدو السينمائي رقم واحد، وحاول القضاء على جميع نسخه.
يُظهر الفيلم (La Grande Illusion) فكرة أساسية هي أنه رغم الحرب، يمكن أن يتبادل النّاس، بل المتحاربون، مشاعر إنسانية ويتقاربون. نرى ذلك بين الضابطين (وإن كانت حقيقة المشاعر مصالحَ مشتركة). كما نراه، وهنا أساس الفكرة، لاحقاً في الفيلم حيث تنشأ علاقة بين أحد الطيارين، بطل الفيلم (جان غابان)، وهو طيار كذلك إنما آت من عائلة فقيرة وليس ابن مصرفيّ يهودي كالآخر، وبين سيدة ألمانية لجأ هو وأحد السجناء الفرنسيين الفقراء إلى بيتها للاختباء من الجنود الألمان، وقد هربا من المعسكر. آوتهما وأطعمتهما وتعلمت منهما بعض الفرنسية، وهما ساعداها في أمور البيت، وقبل أن يكملا طريقهما إلى فرنسا وعدها الطيّار بالعودة والزواج منها حال انتهاء الحرب.
هذه العلاقة الإنسانية امتدت على النصف الأخير من الفيلم، في وقت كان نصفه الأوّل في المعسكر، حيث يخطّط السجناء الفرنسيون للهرب، وإن كان معسكراً «مرفّهاً» لا تبدو عليه جدّية وصرامة الحرب الحاصلة خارجه، قد يعود ذلك لآمر المعسكر الذي تبادل أحاديث ودّية مع الطيارين الفرنسيين، كأن يقول لهما بأنه لم يكن يود أبداً أن يراهما عنده.
الشغل على سيكولوجيا الشخصيات بيّنٌ في الفيلم، ففي حين أن أحد الطيارين، العصامي الآتي من عائلة فقيرة، استطاع الهرب ووعدَ السيدة الريفية الألمانية بالعودة، تعاون الآخر مع الألمان وصار واحداً منهم، كجيش يخوض حرباً وليس كشعب أو قوميّة أخرى، فالفيلم تخطى مسألة العرقيات ليقدّم فكرة إنسانية تقدّم النّاس، على كلا الجانبين، أخيارا أو أشرارا، حسب القرار الشخصي لكل منهم، ما يعيدهم إلى أساس الانتماء الإنساني، وهي رسالة الفيلم الكبرى. قال المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو عن الفيلم بأنّه مبني على أن العالم مقسَّم أفقياً، حسب الانحيازات وليس عمودياً حسب الحدود.
ضمن المعتقلين الفرنسيين، هنالك كذلك تجاوز للتفاوت الطبقي، إلى تشارك في المحنة الإنسانية، الوطنية بشكل أو بآخر، وقد تمرّدوا معاً بأشكال عدّة كفرنسيين لا فوارق طبقية بينهم في المعتقل، من بين هذه الأشكال كان، إضافة إلى محاولة الهرب بحفر نفق، قطع عرض ترفيهي يُجبرون على القيام به متنكرين بأزياء نسائية، لتسلية الألمان، قطعه والبدء في غناء نشيدهم الوطني، المارسييز، بلحنه وكلماته المفعمة بالوطنية، وهو النشيد المقترن بالثورة الفرنسية عام 1789. البعد الإنساني للفيلم والعلاقات الناشئة بين فرنسيين وألمان، فيه، كان السياق الذي جعل للنشيد الفرنسي، كما هي المقاومة الفرنسية لاحقاً ضد النازية، بعداً تحررياً إنسانياً يطرح عناوين كالحق والظلم، بعيداً عن المسألة القومية والحروب.
لكن الفكرة الإنسانية لم تعتدِ على الجانب الطبقي في فيلم اليساري رينوار، وقد تعدّت الجانب القومي، فالضابط الفرنسي الذي تصاحب مع الألماني وتعامل معه أخيراً، كان من طبقة «النوفو ريش» أي الأثرياء الجدد، وكان، ضمن معتقله مع الفرنسيين الآخرين الأقل تعاوناً وعملاً بينهم، كان أقرب للضابط الألماني منه إلى المعتقلين الفرنسيين، ما أعطى أخيراً لإنسانية الفيلم واقعيّة وأبعده عن المثالية التي يمكن أن تقع بها أعمال سينمائية تقارب الإنسانية والسلمية وتناهض الحروب، وهذه الأخيرة لا يشنّها الفقراء على كل حال، بل هم وقودها.
أثبت رينوار في فيلمه هذا كما في غيره بأنّه أحد أبرز الأسماء في السينما العالمية ذات المقاربات الإنسانية بمعناها الأوسع، وليس الحديث هنا عن الجانب التجريدي والنظري عن الإنسانية، بل عن شخصيات حقيقية، لها أسماء وحكايات، أناس بسطاء فقراء كانوا لدى رينوار التجسيد الحقيقي للإنسانية، ليقدّم كل ذلك أخيراً، فنياً، في شكل جعل فيلمه من بين الأفضل في تاريخ السينما، حتى اليوم، إذ يبلغ عامه الثمانين ومازالت الحروب تتواجد وتتكاثر في عالمنا بقرارات حكّامه الجشعين.