تتعالى هذه الأيام أصوات أدباء ونقاد في الجزائر وخارجها، منتقدة لجنة تحكيم جائزة البوكر، مندّدة بقراراتها، مشكّكة في مصداقية أحكامها، ويذهب بعضها إلى حد انتقاد إدارة البوكر في اختيار شعراء ضمن عناصر لجنة تحكيمها، بدلا من روائيين، والتشكيك في قدرة الشعراء على تقييم الأعمال الروائية والحكم عليها، وهو ما ذهبت إليه أيضا أصوات عربية من خارج الجزائر.
فما سبب كلّ هذا الاستياء والغضب من هذه اللجنة في الجزائر، وما يصحب ذلك من جدل وصخب؟ إنّه تعثّر الرواية الجزائرية في مسابقة الجائزة وهو تعثّر ما برح يلازم روايتنا منذ عهد طويل. وفي ظلّ هاجس هذا الفشل المتكرّر، هل يقع اللوم على لجنة المسابقة أم روايتنا المشاركة فيها بالأسماء نفسها غالبا؟
لعلّ هذه الأصوات تعجّلت شيئا ما في إساءة الظن باللجنة والتشكيك في مصداقيتها والحكم على أعضائها، فمَنْ مِنْ بين هؤلاء الأدباء والنقاد اطّلع على كلّ الأعمال المشاركة، ليتبيّن ما تحمله من أسلوب وأفكار، ومحاسن ومساوئ، ولكي تتأتّى له المقارنة بينها، وتمييز الصالح والطالح منها، والحكم عليها عدا عناصر لجنة التحكيم؟ فبدلا من سبق الأحداث والتسرع في إصدار أحكام على لجنة التحكيم، كان ربما ينبغي التأني شيئا ما والتساؤل عن الأسباب الكامنة وراء هذا الفشل المستمر، ومن ثمّ السعي لاستخلاص الدروس والعبر من ذلك والاستفادة منها لمراجعة النفس ومحاسبتها وتخليصها من أخطائها وعيوبها والاجتهاد لتقديم ما هو أفضل وأنجع وأسلم، والسمو به عاليا في سماء دنيا الأدب والتحليق به فوق قلاع المنافسة العملاقة المنتشرة بين المحيط الأطلسي والخليج، نحو تحقيق ما عجزنا عن تحقيقه لسنوات طويلة.
وها هي الكاتبة البحرينية بروين حبيب المشاركة في لجنة التحكيم توضّح بعض أسباب فشل الروايات المشاركة، من خلال مقالة طالعتنا بها صحيفة «القدس العربي» بتاريخ 22 فبراير/شباط 2015:
1. لأنّ هذه الروايات مجرد تكرار لأعمال سابقة ولم تأت بجديد.
2. لأنّ هذه الأعمال الروائية مليئة بأخطاء وصفتها الكاتبة البحرينية بـ»أخطاء لا تغتفر في حق اللغة العربية»، مضيفة: «لقد أصبت بصدمة كبيرة جدا وأنا أقرأ نصوصا لكتاب أشاد بهم إعلاميون، لكنهم كارثة حقيقية، إذا سمحنا لهم أن يعيشوا في هذه الفقاعة من الوهم. والعتب هنا ليس على الكاتب وحده، بل على دور النشر أيضا، التي تتسابق لترشيح أعمال لم تكلّف نفسها حتى أن توظف مصححا لتصحيحها». وتقول بعد ذلك: «من غير المقبول أن تمر رواية تكرّر فيها نصب الفاعل عشرات المرات، ورفع المفعول به، وأحرف جزم لا تجزم، وياء في نهاية كل فعل يخاطب الأنثى..عيب أن نصل إلى هذا المستوى وهذه « الشرشحة» للغة العربية.. وإن كنا نرضى بتمرير هذه الأخطاء فعلينا أن نقدم استقالاتنا أولا».
فهل يعقل أن تفوز بالجائزة رواية هي في واقع الأمر نسخة مطابقة لروايات قبلها أو تقليد لها أو ما أشبه ذلك، وقد لا يكتفي الروائي بتقليد غيره فيقلّد نفسه، وقد لا يشعر بذلك؟ ولا عجب في ذلك، إذ ثمة كتاب يتسابقون ويصارعون الزمن من أجل نشر روايات كل سنة يشاركون بها في معارض الكتاب، فالكم عند هؤلاء أولى من الجودة، وبعضهم لا يجد وقتا لقراءة كتب والاستفادة منها، فإن تصفحت رواياته شاهدت في صفحاتها كل أصناف الشوائب.
وهل يعقل أن تفوز بالجائزة رواية مليئة بأخطاء لغوية؟ أخطاء نحوية وغيرها التي إن ارتكبها تلامذة الصف الابتدائي يوم الامتحان سقطوا. لا يمكن بأي حال من الأحوال الاستهانة باستنتاجات الكاتبة البحرينية وأحكامها، لأنها فحصت الأعمال الروائية بما تملكه من مؤهلات ومهارات وخبرات في حقلي اللغة والأدب، كما يفحص الطبيب المريضَ، والطبيب مؤهل لتشخيص الداء ووصف الدواء، ونراها تقترح الدواء لعلاج هذه الروايات العليلة، وذلك بتخليصها من آفة المحاكاة والتقليد وتجريدها من الأخطاء الفادحة في حقّ اللغة التي تُكتب بها.
وعليه لستُ أوافق على الإطلاق الروائي والناقد العراقي سامي البدري في ما ذهب إليه في مقاله في «القدس العربي» 24 فبراير /شباط عندما اتهم الكاتبة البحرينية بالاستعراض حينما ذكرت شهاداتها العلمية ومنجزاتها الإعلامية، فمن الواضح أنّها لم تتحدث عن تلك الإنجازات من باب الفخر والاعتزاز، وإنّما دفاعا عن نفسها في وجه من شكّك في قدرتها على تقييم الأعمال الروائية، فما أرادت إيصاله من خلال ذلك هو أنّ منجزاتها في حقل اللغة تؤهّلها لأن تكون في لجنة التحكيم، وتخوّلها حقّ منع الأعمال الروائية الرديئة، التي لا تُميِّزُ حتى بين الرفع والنصب والجر والمثنى والجمع، من نيل الجائزة لأنها ليست جديرة بذلك. وكيف تفوز بالجائزة أعمال بها كل تلك الأخطاء والشوائب التي تطعن لغتنا، وتشوّه أدبنا، ويتعلمها أطفالنا منا، وتتوارثها الأجيال من بعدنا، ثمّ كيف يمكننا الجزم أنّ الشعراء غير مطلعين على العناصر الفنية والتقانية والمقاييس النقدية المتعلقة بالرواية؟ فهذا حكم جائر غير مقبول. لا يمكن بأي حال من الأحوال حرمان الشاعر من تقييم الأعمال الروائية، بحجة أنه شاعر وليس روائيا، والعكس صحيح، في زمن يتميز بتداخل الأنواع الأدبية وممارسة الكثير من الأدباء لفن الرواية والشعر معا والانتقال بينهما. لقد أصبح الكثير من النصوص السردية يرتكز على شعرية اللغة المكثفة، وصارت الرواية تنافس الشعر مستخدمة وسائله باستخدام بنية مماثلة لبنية البيت الشعري، وبالتلاعب بالاستعارات وبموسيقى الألفاظ.
ونلاحظ أنّ من بين الأشخاص المحتجين أدباء وافقوا على المشاركة في الجائزة بمحض إرادتهم وهم يعلمون كل صغيرة وكبيرة عنها ويعرفون عناصر لجنة التحكيم وجنسياتهم ومؤهلاتهم، يشاركون في المسابقة، فإن فازوا صمتوا وإن انهزموا انهالوا على لجنة التحكيم لوماً، هذا في تصوّري غير عادل وغير مقبول يذكرني بلعب الصبيان.. تتشاجر ابنتي الصغيرة مع شقيقتها الأكبر من أجل لعبة، فأتدخّل وأقترح إجراء قرعة تحدد من يفوز باللعبة، فتوافقان، وما أن تعلم البنت الصغرى بالخسارة حتى تجهش بالبكاء وتحتج ولا تقبل النتيجة، ففي تصوري إن كان الأديب يشك في مصداقية اللجنة ينبغي عليه عدم المشاركة منذ البداية، فهو يعرف قوانين اللعبة حقّ المعرفة، وإن اختار المشاركة ثم احتج فلا مصداقية له.
وخلاصة القول: قبل أن نلوم غيرنا ينبغي علينا مراجعة أنفسنا والأخذ بعين الاعتبار استنتاجات عناصر لجنة التحكيم لعلّها تنفعنا فنقدّم ما هو أفضل في المستقبل.
وقد أشرت في مقالات نقدية إلى كثرة الأخطاء اللغوية والألفاظ العامية في الأعمال الروائية، وأشرت في مقالات وحوارات إلى نزعة كتابنا في هذا العصر إلى الابتعاد عن الواقع الاجتماعي وإبحارهم بعيدا في فضاء الوجدان والفلسفة واستغراقهم في اللف والدوران في مجتمع عربي معروف بعزوفه عن القراءة، وهو ما يزيد الطين بلّة، وأنذرت أنّ ذلك من شأنه أن يسيء إلى أعمالنا الروائية وأن يحول دون تألقها خارج الديار، وهذا ما نراه يحدث للأسف.
فأستغل هذه الفرصة لأدعو كتابنا إلى مراجعة الأوراق والسعي لتوجيه الرواية الجزائرية في الاتجاه الصحيح الذي سار فيه السلف، بالعودة إلى الأصالة والواقع والمواطن. وإن اخترنا الكتابة باللغة العربية فلابد أن نكتب بلغة عربية سليمة وواضحة يفهمها كل العرب من المغرب إلى الخليج، بعيدا عن اللهجات العربية العامية المعقدة والكثيرة التي لا يفهمها إلا القليل في الوطن العربي، ومن دون تشويه النص الروائي بألفاظ وتعابير فرنسية وبأحرف لاتينية لا علاقة لها مطلقا باللغة العربية، وهل شاهدنا يوما ألفاظا وتعابير عربية مكتوبة بأحرف عربية في روايات غربية؟ ولا مجال لارتكاب أخطاء فادحة في حق لغتنا وانتهاك أحكام لغة في حجم لغتنا العربية والعبث بها باسم الإبداع أو أي كلام فارغ وكأنها ملكية خاصة، فالأديب الإنكليزي لم ينتهك أحكام لغته، مع أنه ينشر عشرات الأضعاف ما ننشره نحن، فلا نرى أخطاء لا في الانكليزية ولا في الفرنسية ولا في أي لغة أخرى عدا لغتنا العربية. وهذا ما ذكرته أيضا في مقالاتي النقدية السابقة التي تناولت بعض الأعمال الروائية باللغة العربية.
وإن ركبنا الغرور والعناد ولم نستخلص دروسا وعبرا من هذه التجارب الفاشلة المتكرّرة في منافسة الأعمال العربية، فإننا بلا شك سنحكم على روايتنا بالعزلة والموت البطيء وسنحكم على أدبنا بالفناء شيئا فشيئا. فحتى إن وصلنا إلى أدوار متقدمة في مسابقة جائزة البوكر أو غيرها، وحتى إن فزنا بها بالشكوى والاحتجاج والضغط، فإننا سنفشل في الفوز بما هو أسمى من مجرّد جائزة، وهو وصول أعمالنا الروائية إلى الأجيال القادمة والخلود في أحضانها من بعدنا. ولنعلم جميعا أن الأجيال القادمة لن تقدّر أعمالا مليئة بالأخطاء اللغوية وقامت على أنقاض لغتها، اللغة العربية.
كاتب ومترجم جزائري ـ بريطانيا
مولود بن زادي
قرأت كلا المقالين ؛ وكان فيهما نقد بعيد عن التجريح ؛ ومن خلال مقالك هذا أستاذ مولود تبين لي أن الروايات المعنية والتي رأتها الأستاذة بروين دون المستوی هي روايات جزائرية!؟ وظننت من خلال العنوان أنك ستسمي الأشياء بمسمياتها كأن تذكر لنا الروايات المستبعدة مع بعض الشرح؛ لأني فعلا أشعر برغبة في معرفة الكتاب الذين وصفوا بأنهم يعيشون وهم الكتابة.
وشكرا جزيلا لك.