جان دارك.. القديسة وأساطيرها التي لا تنتهي

تعد جان دارك أهم شخصية في التاريخ الفرنسي، حيث أنها رمز النضال الوطني وأكثر القديسين شعبية. كما تحتل موقعا كبير الأهمية في الدراسات التاريخية والسياسية والدينية والفنية، وحتى في الثقافة الشعبية الفرنسية.

البداية

كانت فرنسا في بداية القرن الخامس عشر في خضم حرب ضروس مع إنكلترا، فبعد وفاة ملك فرنسا، تحالف الإنكليز مع نبلاء شمال فرنسا، وأبرزهم دوق برغاندي، ضد ولي العهد الفرنسي، خاصة بعد نجاح الإنكليز في احتلال باريس نفسها، ما اعتبر إهانة بالغة لولي العهد الفرنسي.
وفي تلك الفترة انتشرت قصة شعبية في فرنسا مفادها أن فتاة «عذراء وطاهرة» من منطقة اللورين في شمال شرق فرنسا، ستنقذ البلاد من الشرور وتعيد لها مجدها، وهنا ظهرت جان دارك، التي ولدت عام 1412 في قرية صغيرة في منطقة اللورين، ولم تكن تجيد القراءة والكتابة، ولكنها عندما كانت في سن الثالثة عشرة زعمت أنها تسمع أصواتا، وترى قديسين يعطونها تعليمات، خاصة عند سماعها لأجراس الكنائس. ولم ير أو يسمع أحدا هؤلاء القديسين، ولكن هذا لم يثن عزيمتها، وادّعت دارك أن هؤلاء القديسين قد أعطوها تعليمات إلهية لإنقاذ فرنسا والمساعدة على تنصيب ولي العهد الفرنسي، شارل السابع، ملكا على فرنسا.

النضال

وفي عام 1428 حاولت جان دارك أن تقابل ولي العهد، بدون جدوى، فكررت المحاولة العام التالي وهذه المرة أمر ولي العهد أن تمتحنها لجنة من الكنيسة لإثبات جديتها، ونجحت جان دارك في اجتياز ذلك الاختبار، وبذلك حصلت على الإذن اللازم لمقابلة ولي العهد. كان موقف ولي العهد الفرنسي في أسوأ حالاته، فجيشه لم يكن قويا بما فيه الكفاية، ولذلك كان يحاول تجنب الاشتباك المباشر مع الإنكليز وحلفائهم، ولكن عندما التقت جان دارك به أقنعته بطريقة ما أن يرسلها برفقة جيش لإنقاذ مدينة أورلينز المحاصَرَة من قبل الإنكليز. وتكللت مهمتها في إنقاذ مدينة أورلينز بالنجاح، ما دعم من موقفها، وانتشر اعتقاد بين الكثيرين من الفرنسيين أن الانتصار قد أنجز بفضلها وهي العذراء الطاهرة، التي تتلقى الأوامر الإلهية عن طريق القديسين. ولذلك فقد اعتبر الفرنسيون أن الله معهم ما أغاظ الإنكليز، الذين ردوا بدورهم بأن الله كان مع الإنكليز وليس مع الفرنسيين، وأن جان دارك ليست سوى عاهرة، خاصة أنها ترتدي ملابس الجنود وتعيش بينهم، وأن الأصوات التي تسمعها لم يكن مصدرها قديسين بل شياطين، ولذلك فإنها رسولة الشيطان.
وبذلك اتخذ الصراع بعدا دينيا وأصبحت عذرية وطهارة جان دارك، حديث قادة الطرفين وعاملا مهما في هذا الصراع الدولي. وتلت الانتصار في أورلينز انتصارات أخرى، ما عزز من مركز جان دارك، ورافقت ولي العهد إلى كنيسة مدينة ريم ليتم تتويجه ملكا على فرنسا، أو الجزء الذي يسيطر عليه، ويصبح الملك شارل السابع. ولكن الموقف لم يستمر على هذا المنوال فقد أخذت الهزائم العسكرية تتوالى على الفرنسيين وجان دارك غير آبهة بهذا واستمرت بالمطالبة بالهجوم على الإنكليز وحلفائهم، بينما أخذ الملك الفرنسي يفضل الحذر والدبلوماسية، ما سبب شرخا بينهما، بلغ من الأهمية أن أحد مساعدي الملك حذره من أن جان دارك أصبحت بالغة الخطورة، ولذلك قام الملك الفرنسي بمنح جان دارك لقبا أرستقراطيا وقرر إبعادها.

جان دارك

كان موقف جان دارك يزداد ضعفا تدريجيا، فالملك الفرنسي أراد التخلص منها لتجنب تأثيرها والإنكليز يريدون رأسها لأنها أصبحت رمزا لهزائمهم، وبذلك فقد أراد الجميع التخلص منها. وغادرت جان دارك متوجهة إلى الجبهة، حيث قامت بمرافقة مجموعة صغيرة من الجنود لمساعدة المدن الفرنسية المهددة من قبل الإنكليز، وكان من المستحيل لهذه المجموعة من الجنود الصمود بدون دعم من الجيش الفرنسي. وعلى عكس الاعتقاد الشائع حول قيادة جان دارك للجيش، فإنها لم تقد جيشا في حياتها، وكان كل ما فعلته في المعركة هو مصاحبة الخطوط الخلفية للجيش، ممتطية حصانا ورافعة للراية وتحث الجنود على الاستبسال. وذكرت بعض المصادر أن جان دارك كانت عدائية جدا مع من حولها من القادة وأهانتهم بشكل متواصل لتحثهم على الهجوم. وعندما كانت بالقرب من سور إحدى المدن الفرنسية في خضم معركة مع الإنكليز المحاصرين لها، تعرضت لضربة أسقطتها من على جوادها وهرع الفرنسيون إلى داخل المدينة وأغلقوا بوابة المدينة تاركينها في الخارج بمفردها، فوجدت نفسها في قبضة حليف الإنكليز دوق برغاندي. وكانت هذه فرصته، فقد دخل الإنكليز في مفاوضات معه لشراء أسيرته، وفي النهاية اضطر الإنكليز إلى أن يدفعوا له مبلغا هائلا لشراء جان دارك، وكانت هذه فرصتهم لإهانتها والقضاء عليها.

المحاكمة

أُحتُجزت جان دارك في مدينة روان الفرنسية من قبل الإنكليز وأقاموا لها محاكمة كنسية، وكان القضاة رجال دين فرنسيين. ووُجهَت اليها سبعون تهمة دينية، وكانت أهمها الهرطقة وارتداء ملابس الرجال وحمل السلاح وممارسة السحر وإعطاء الانطباع بأنها مرسلة من الله، والاتصال بالعفاريت، وتوجيه اللعنات. وكان الحوار بينها وبين هيئة المحكمة ذا طابع ديني بحت، وحسب المؤرخين فإنها استطاعت أن ترد الصاع صاعين في ذلك النقاش الديني. وفي النهاية أدينت بالهرطقة وحكم عليها بالإعدام، ولكن المحكمة قررت أن الحكم سيكون السجن المؤبد في حالة إعلانها التوبة.
وضعت جان دارك في سجن يتبع الجيش الإنكليزي، حيث كانت دائما مكبلة بالسلاسل في الزنزانة وتربط إلى السرير عند النوم، إضافة إلى وجود ثلاثة جنود إنكليز في زنزانتها طوال الليل، قالت إنهم حاولوا اغتصابها، بدون أن يحاول الملك الفرنسي أبدا أن يطلق سراحها، وكان بإمكانه عرض فدية ضخمة أو ترتيب عملية استبدال للسجناء، ولكن أيا من هذا لم يحدث، ولذلك فكان من الواضح أنه كان يريد التخلص منها.
رفضت جان دارك الانصياع لرغبة القضاة حتى يوم الرابع والعشرين من مايو/أيار حيث اقتيدت إلى ساحة الإعدام ليتم حرقها. وعلى ما يبدو أن المنظر أرعبها فأعلنت أنها ستوافق على طلب هيئة المحكمة، وبذلك سيكون عقابها السجن المؤبد، كما وافقت على ارتداء ملابس النساء. ولكن بعد بضعة أيام غيرت رأيها فارتدت ملابس رجالية وأعلنت أن القديسين زاروها ووبخوها لموافقتها على طلب المحكمة، التي لم يخف أعضائها سعادتهم بقرارها الأخير.

الإعدام

أقتيدت جان دارك إلى ساحة الإعدام يوم الثلاثين من مايو عام 1431 وكان قد تم قص شعرها تماما في ذلك الصباح. وربطت بالعمود وطلبت أن يقوم أحدهم برفع الصليب أمامها، ثم أشعلت النار بها وكان آخر ما نطقت به هو هتاف ديني وكانت لم تتجاوز التاسعة عشرة من العمر.
وبعد أن توفيت اكتشف الإنكليز أن جثتها لم تحترق تمـــاما، ولذلك فقد قاموا بحرق الجثة مرتين حتى احترقت تماما ثم نُثِر الرماد في نهر السين.

الأسطورة

بعد عشرين عاما من إعدام جان دارك قام الحلفاء الفرنسيين للأنكليز بتغيير ولائهم وأيدوا الملك الفرنسي، كما نشبت حرب أهلية في إنكلترا فخسر الإنكليز الحرب مع فرنسا وانسحبوا منها. وقام الملك الفرنسي شارل السابع عام 1455 بترتيب محاكمة دينية جديدة أقرت ببراءة جان دارك من كل التهم، وهو الذي تخلى عنها أصلا، ولكنه على ما يبدو قرر استغلال شهرتها لدعم أهدافه السياسية، بعد أن استتب الأمر له. وأخذت الأسطورة تكبر تدريجيا وتتغير مع تطور مفاهيم الدولة والشعب وكيفية استغلالها لأغراض سياسية، فكتب أحدهم أن جان دارك كانت قد أبلغت مقدما من قبل القديسين الخفيين بأنها ستقع في أسر الإنكليز، إلا أنها لم تهتم. كما تغير اسمها، فقد كان اسمها الحقيقي «جيهانا» وهناك خلاف حقيقي حول اسم العائلة الذي استعملته، إلا أن اسم جان دارك، الذي ظهر في القرن التاسع عشر، أصبح آخر نسخة لاسمها الكامل. وفي عام 1909 قررت الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا إعطاء جان دارك مرتبة دينية خاصة، لتكون من الذين يشفعون للأموات. وبعد ذلك وفي عام 1920 أعلنت الكنيسة وفي احتفال مهيب حضره حوالي سبعين ألف شخص أن جان دارك أصبحت قديسة.

الخيال والتاريخ

حاول بعض الأطباء والمؤرخين تعليل الأصوات التي كانت جان دارك تسمعها. وذكر البعض أنها كانت تعاني من الصرع أو الشيزوفرينيا أو السل وأشياء أخرى. ولكن الغريب في الأمر أن أيا منهم لم يذكر احتمال ادعاء جان دارك بكل ما سمعت من أصوات أو رأت من قديسين، وهو احتمال جدير بالدراسة. ولكن بعض المؤرخين قدموا فكرة كون القصة خرافية تماما وأن جان دارك لم تكن موجودة أصلا. وذكر أحد المختصين أنها كانت في الحقيقة رجلا، وقال آخر إنها لم تعدم، بل عاشت لتموت ميتة طبيعية. ويدعي البعض بين الحين والآخر باكتشاف أثر لها مثل خاتم أو رماد أو قطعة قماش، ولكن العلماء كانوا يثبتون زيف هذه الادعاءات دائما. لقد بلغت شهرة جان دارك إلى درجة أن ثلاثة واربعين فيلما أنتج عنها حتى الآن، وأشهرها الفيلم الأمريكي «جان دارك» (1948) من تمثيل الممثلة السويدية أنغريد برغمان، وكان لها فيه مشهد شهير تظهر فيه وهي تحث الجنود الفرنسيين على القتال، وقامت السينما المصرية باقتباس هذا المشهد بالذات في فيلم «وإسلاماه» (1961)، حيث قامت الممثلة المصرية لبنى عبد العزيز بتقليد أنغريد برغمان بشكل دقيق، برغمان التي مثلت الدور مرة أخرى في فيلم إيطالي عام 1954. وهناك عشرات الكتب والمسرحيات عنها، وأشهرها مسرحية كتبها برنارد شو. كما تعرض في الوقت الحالي مسرحية عنها في برودواي حازت تقديرا كبيرا من نقاد أكثر الصحف الأمريكية احتراما.

٭ كاتب عراقي

جان دارك.. القديسة وأساطيرها التي لا تنتهي

زيد خلدون جميل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول دينا:

    بعد عشرون عاما برئت من تهمة وكان بعد موتها وتركها اسيره ..
    قديسة, لانهم يظهرون مره كل 100 عام او اقل بين العالم , انهم اطهار برغم انزعاج الاخرين منهم ,, يحاربون الوساطة لاجل ان ينال المستحق مكانه الذي يستغله الذي هو اقل منه كفاءه ( فمثلا الموظف الاداري العامل على ترتيب الاوراق او الارشيف ينال كثيىا من السخط لانه اضطر لاستعمال الوساطه مع انه يحمل شهادة قانون وظل بعمله الاداري عشر سنوات , فبراي القديسين كاسم بانه كان عليه نيل عمل افضل بما يتوافق مع قوة شخصيته وعائلته وما يملك من شهادة وبما يعود على المجتمع وله للافضل ويكون مساهما في ايقاف دور الوساطة التي تضع الاشخاص بمكان لا تليق بهم ,, وعادة هم الاحرار الذين لهم دور القداسه بكثير من العصبية والاهانة لانه لا يشعر ابدا بان الاخرين يتفهمون ما يريد ولاجل الصالح طويل الامد العام ..
    والطبيب الماهر الجراح اذا كان الكادر المتعاون معه متخلفا عن الوثوق به وتنفيذ من يحتاج وتقديم المساعده واخباره بالمعطيات_ فان عمل الجراح سيفشل ويموت المريض ويحدث صدمة للطبيب وتظهر عليه سريعا بوادر العصبية وحدة المعاملة التي يتعامل بها مع كبار المساعدين له , فهو يريدهم ان يساعدوه وينجح الاصطف كاملا ولاكن الاصطف الفاشل يحكم على الجميع بتسبب الكوارث للمرضى وموتهم واشعال الخلافات بينهم وتوجيه اللوم لبعضهم البعض ..
    وهذا اقرب مثال مما حصل معي تماما باختلاف المكان والعمل والزمان ..
    وكلما كان اشباه القديسيين نبلاء متدينين بالروح ولاجل السلام والامان للجميع كلما كانت ارائهم لا تقبل النقد .
    والفقهاء الدين اقل علما ومكانة وقدرة من هؤلاء اشباه القديسين اذا وجدوا من يدعم مشروعهم منذ بدايته , ويكون من الله وليس مصطنعا كالصوفي او الروحي او غيرها من الاسماء , فهم لا يتكررون الا كل قرن لاجل الارض والناس جميعا والدفاع عما بقي من حياة يستحقها الاخرون ..
    وهي اليوم من ساهمت بان لا تنفى اسم فرنسا من الخريطه فكيف لا تخلد , وواجب بالمستقبل البعيد احترام هؤلاء او اخبارهم منذ البداية بان خدماتهم مرفوضه وان البلاد تخاف جرئتهم وقوة حبهم لارضهم..

إشترك في قائمتنا البريدية